Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ممثل فرنسي يضرب الناقد النازي وتروفو يستوحيه في "المترو الأخير"

النجم جان ماريه ينتظر نصف الساعة تحت المطر والأمن النازي لم ينجد "فوهرر النقد" الباريسي

مشهد من فيلم "المترو الأخير" (1980) (موقع الفيلم)

هي في الواقع حادثة حقيقية لم يعلم بها الرأي العام الفرنسي إلا بعد سنوات من وقوعها، بل إن كثراً من هواة السينما الفرنسيين، حين شاهدوا كيف استعارها السينمائي فرانسوا تروفو مشهداً بدا طريفاً وخيالياً إلى حد ما في سياق واحد من آخر أفلامه وأجملها "المترو الأخير"، اعتبروها من بنات أفكاره، غير عارفين بأنها حكاية حقيقية جرت أيام الاحتلال الألماني النازي لفرنسا، وبشكل فضلت السلطات الفرنسية التابعة يومها للنازيين السكوت عنه بالنظر إلى الشعبية الكبيرة التي كانت لـ"بطل" الحادثة الحقيقية الممثل جان ماريه، مما كان سيجعلها عرضة للسخرية. والأهم من ذلك يومها أن الطرف الآخر في الحادثة كان مجرد صحافي من الدرجة العاشرة تسلق الاحتلال الألماني كاتباً في الصحافة الفرنسية التابعة له مثل "أنا في كل مكان" و"الباريسي الصغير" مما جعل السلطات الفرنسية مستنكفة عن مجابهة نجم كبير لمساعدته. وعلى هذا النحو سكت الجانبان عن الحادثة على رغم خطورتها. ومضت الحكاية حتى عاد إليها تروفو في فيلمه في عام 1980 بشكل بدا معه وكأنه لم يحقق ذلك الفيلم إلا لكي يتحدث عنها. علماً بأنه نال موافقة ماريه نفسه وكان هذا قد ذكرها في كتاب "حكايات حياتي" الذي أصدره عام 1975 كاشفاً عنها للمرة الأولى بعد حدوثها في ربيع عام 1941.

انقسام فرنسي معقد

في ذلك الحين كانت الأمور قد استتبت للمحتلين الألمان في أجزاء عديدة من فرنسا ولا سيما في باريس. ومثل كل احتلال كان ذلك الاحتلال يستند إلى القوات العسكرية الألمانية ولكن كذلك إلى قطاعات عريضة من الشعب الفرنسي الذي إما ناصر النازيين تماماً، وإما سكت عن احتلالهم نكاية بالإنجليز والشيوعيين وأنصار الجنرال ديغول الذين وقفوا معاً ضد النازيين أول الأمر. ولقد كان ذلك الانقسام نفسه سائداً في صفوف الفنانين والمثقفين الفرنسيين مع فارق أساسي يتمثل هنا في أن ما من مبدع فرنسي حقيقي وقف فعلاً مع الجنرال بيتان وغيره من أنصار هتلر. وقف في صف هؤلاء كل التافهين الذين فشلوا في أن يكون لهم مكان حقيقي في الحياة الثقافية الفرنسية، وها هم أولاء الآن يتزعمون المشهد مسرحيين وحتى سينمائيين وصحافيين مستندين إلى الاحتلال النازي ومن سار في ركابه من قوات أمن وغيرها. وكانت صحيفة "أنا في كل مكان" النازية تتزعم المشهد وتحاول تصفية الحسابات الثقافية وحتى السياسية مع كل أولئك المبدعين الكبار. ونعرف طبعاً أن كثراً من بين هؤلاء سلكوا يومها دروب المنافي التحاقاً بالجنرال ديغول في لندن، أو متوجهين إلى الولايات المتحدة، فيما فضل كثر آخرون أن يبقوا في مواقعهم في فرنسا مؤجلين أي فعل أو قول استفزازي إلى ظروف أكثر ملاءمة لهم، بينما قسم كثر آخرون -ومن بينهم شيوعيون ويساريون- وقتهم بين النضال سراً وتحت أسماء ليست أسماءهم حقاً، في صفوف المقاومة، وبين حقب إقامة في باريس يحاولون فيها تقديم أعمالهم الفنية. ولو أن هذا كله كان يجازف بأن يبدو ملتبساً بعض الشيء، ولسوف يضطر كثر منهم إلى انتظار نهاية الحرب واندحار النازيين وأعوانهم الفرنسيين، قبل أن تنكشف الحقائق لكن هذه حكاية أخرى.

العودة إلى النجم و"الفوهرر الصغير"

ولذا سنعود إلى حكاية جان ماريه الذي كان يعتبر من أوفى أصدقاء جان كوكتو، الشاعر والسينمائي والمسرحي الذي كان يعتبر واحداً من أقطاب الحركة الثقافية في باريس على رغم مواقفه التي كانت وبقيت ملتبسة بالنسبة إلى الظروف السياسية شديدة التعقيد. ومن هنا كان دائم الصمت حتى حين يرجم من قبل هذا الطرف أو ذاك. تتعلق حكايتنا هنا بذلك الصحافي الفرنسي المناصر للنازيين الذي كان الاحتلال قد أتاح له أن يقدم نفسه بكونه واحداً من سادة الحركة النقدية في البلد، مما يعوض عليه الفشل واللامبالاة اللذين كان يجابه بهما في الماضي. كان اسم الرجل آلان لوبرو وكان يعتبر نفسه "فوهرر الأدب الدرامي في البلد" بحسب تعبير جان ماريه، الذي ما كان من شأنه أن يبتكر هذا اللقب أو يدخل على الخط لولا أنه سمع من مصادر مناصرة له داخل صحيفة "أنا في كل مكان" أن هذا النويقد -وأيضاً بحسب تعبير ماريه اللاحق- قرر أن ينسف مسرحية "الآلة الكاتبة" التي كان كوكتو وماريه يستعدان لتقديمها، وذلك حتى قبل أن تتاح له مشاهدتها. وهكذا رأى ماريه أن هذا الشخص لم يعد يحتمل وبعث إليه يخبره بأنه "إن كتب مقاله العتيد سوف أضربه حتى أحطم له وجهه!".

لقاء في مطعم

وبالفعل نشر لوبرو مقاله لكنه لم يشتم فيه المسرحية وحدها، ولا شتم الممثلين وكل العاملين الآخرين شتماً قبيحاً، بل وصل في شتائمه المبتذلة إلى جان كوكتو نفسه على رغم أن هذا الأخير كان يعتبر واحداً من أكبر الأيقونات في الثقافة الفرنسية. وعلى رغم أنه لم يكن من الذين أبدوا أي موقف عدائي تجاه... المحتلين. وهكذا جن جنون ماريه وقرر أن يقرن القول بالفعل وينفذ ما كان قد وعد بتنفيذه. قرر أن يضرب الصحافي النازي "ضرباً مبرحاً وليكن ما يكون" كما سيقول في معرض روايته للحادثة في "حكايات حياتي". وراح لأيام يتعمد البحث عن لوبرو بين المطاعم والمقاهي التي يقصدها الفنانون والصحافيون في باريس تلك الأيام إنما دون أن يذكر شيئاً عما انتوى فعله. وأخيراً في مساء عاصف تمكن من العثور عليه إذ قيل له إنه جالس إلى مائدة عشاء في الطابق الثاني من مطعم يقع في بوليفار باتينيول. وهناك فيما كان ماريه يتعشى مع جان كوكتو والممثلة ميشيل ألفا وجد نفسه يدعى لملاقاة أصدقاء في الطابق الأعلى وحين صعد وجد نفسه وجهاً لوجه مع شخص قدم إليه ببساطة. ولنترك ماريه يروي بقية الحكاية بنفسه: "ولم يكن الرجل غير لوبرو نفسه. فقلت له لأتأكد: أأنت لوبرو الكاتب في (أنا في كل مكان؟) قال: بشحمه ولحمه. فبادرته بالبصاق على وجهه. وقف من فوره فاعتقدت أنه سيهجم عليَّ فلكمته على وجهه بقوة، لكن صاحب المطعم الذي لحق بي حال بيننا وأبعدنا عن بعضنا بعضاً صارخاً: (لا تفعلاها في مطعمي... ليس في مطعمي فعندي من المشكلات ما يكفيني!). شعرت أن هذا الرجل لا علاقة له بالأمر فصرخت وأنا أبارح المطعم إلى الخارج: إذاً سأكسر له وجهه في الخارج وسأنتظره مهما تردد في الخروج...".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

معركة تحت مطر عاصف

ويتابع ماريه أنه انتظر قرابة نصف الساعة في الخارج بينما كان المطر ينهمر مدراراً. وفي النهاية خرج لوبرو وهو يحمل عصاً ثقيلة مع رهط من أصدقائه. "فكرت أن أنتزع منه العصا وأضربه بها لكني وجدت أن ضربه بها سوف يقتله وأنا لا أريد أن أرتكب جريمة قتل. ولذا انتزعت منه العصا وألقيت بها بعيداً ثم رحت أضربه وأرميه أرضاً وأنا أعدد أسماء الفنانين الذين لم يسلموا من قلمه وأحقاده بينما يحاول هو الدفاع عن نفسه صارخاً: (أنقذوني أين الأمن أين الشرطة؟). وفي النهاية تركته وعدت إلى المطعم لأتابع عشائي فوجدت صاحب المطعم يقدم لي مبتسماً كأساً من الشمبانيا. أما كوكتو فإنه بقي على صمته حتى قال أخيراً: (سوف نعتقل أنت وأنا...)، فقلت له مبتسماً: أنت لن يعتقلك أحد، أما أنا فلسوف يقبضون عليَّ على الفور". ويختتم ماريه حكايته قائلاً إن ذلك ما حدث فعلاً لكن اعتقاله لم يستمر سوى أقل من ساعة طوي الملف بعدها ونسي الموضوع حتى اللحظة التي كان فرانسوا تروفو يقرأ "حكايات حياتي" ويقع على الحكاية وهو يكتب مع مساعدته سوزان شيفمان سيناريو "المترو الأخير" فأعجبته الحكاية، إذ وجدها ملائمة لأن تدرج في الفيلم الذي يتحدث عن المرحلة نفسها وعن ظروف مماثلة فاستعارها مشهداً ظريفاً في فيلمه كما أشرنا.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة