Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عقوبات بلا قضبان... كيف تطورت السجون؟

عديد من الأنظمة تبحث عن سياسات حديثة بدلاً من احتجاز البشر وسلب حريتهم

خاضت السجون رحلة طويلة إلى أن تحولت إلى فكرة عقابية بحد ذاتها (أ ف ب)

أثناء قراءتي أخيراً رواية "السجينة"، التي تحكي قصة حياة المغربية مليكة أوفقير وعائلتها في السجون، لفتني أن التوق الدائم الذي تحدثت عنه بطلة الرواية لم يكن للترف والعز اللذين خبرتهما في السابق، لكن شكواها المتكررة كانت من انعدام الحرية والخصوصية بالسجن.

سلب الإنسان حريته وفصله عن العالم الخارجي يعد من أبشع الأمور التي قد يتعرض لها، وخبرها البشر منذ زمن طويل، إذ تعد السجون من أقدم الاختراعات التي تهدف نظرياً إلى ردع المجرمين، وما زال مبدؤها نفسه حتى يومنا هذا فصل السجناء عن بقية العالم، الفارق هو أن الأسوار ووسائل مراقبة المسجونين ومنعهم من الفرار تطورت وصارت أكثر عصرية واعتماداً على التكنولوجيا.

كيف بدأت السجون؟

قبل ابتكار السجون كانت العقوبات بدنية وتنفذ بشكل شبه فوري ومن دون محاكمة، وعادة بصورة علنية في الساحات العامة بهدف ردع المجتمع.

اللافت أن الغرض من السجن في البداية لم يكن العقوبة، لكنه كان مكاناً يحتجز فيه مرتكب الجنحة لفترة قصيرة من الزمن إلى أن تحدد عقوبته الفعلية، وهي نوع من التعذيب الجسدي مثل الضرب بالسوط أو الأعمال الشاقة أو النفي أو الإعدام.

منذ ولادة الحضارة الحديثة في الألف الثالث قبل الميلاد، استخدمت كل الحضارات القديمة الكبرى تقريباً مفهوم السجون كوسيلة لاحتجاز الخارجين على القانون والمتمردين وأسرى الحروب وسلب حريتهم.

مثلما كانت مصر وبلاد الرافدين منبعاً للحضارة البشرية بأوجهها الجيدة، كانت أيضاً المكان الذي نشأ فيه أقدم نظام سجن خلال الألفية الأولى قبل الميلاد.

كانت السجون في تلك الفترة زنازين تحت الأرض يقبع فيها المحكوم عليهم بانتظار تنفيذ عقوبة الإعدام أو الأمر بأن يصبحوا عبيداً.

في اليونان كان السجناء يحتجزون في مبان غير معزولة جداً، وكان بمقدور أصدقائهم وعائلاتهم زيارتهم في كثير من الأحيان، ولم يكن المصدر الأساسي لاحتجازهم عبارة عن زنزانات أو جدران عالية أو خلف القضبان المعدنية، بل كانت كتلاً خشبية بسيطة مثبتة بأقدامهم.

أما الإمبراطورية الرومانية القديمة فقد لجأت إلى أساليب أكثر قسوة، فبنت سجونها تحت الأرض حصرياً، وكانت ممراتها وزنازينها ضيقة وخانقة، وكان السجناء أنفسهم يحتجزون إما في زنازين صغيرة أو يقيدون بالسلاسل إلى الجدران مدى الحياة أو لفترة محددة.

النظرة المعاصرة للسجون

خاضت السجون رحلة طويلة إلى أن تحولت إلى فكرة عقابية بحد ذاتها، ومع تقدم العلوم الإنسانية والتطور التكنولوجي لم تعد تقتصر على الأبراج والقلاع العالية أو الزنازين تحت الأرض.

بل تحولت إلى أبنية حديثة شديدة التنظيم والحراسة لدرجة سمحت بالاستغناء عن الأصفاد والأغلال واستبدالها بأساور إلكترونية تطلق أنظمة الإنذار في حال تجاوز السجين الحدود المسموحة له.

أدركت بعض الدول أن فكرة السجن بحد ذاتها هي عقوبة كافية وليست هناك حاجة إلى إقامة المساجين في أماكن يرثى لها، فعملت على تطوير الأبنية وتزويدها بمرافق تساعد في جعل تجربة الإقامة في السجن إنسانية قدر الإمكان، إذ ينام النزلاء في أسرة مريحة ويستخدمون حمامات نظيفة ويستطيعون ممارسة الرياضة ومطالعة الكتب، وحتى إن بعضها سمح باصطحاب الأدوات الموسيقية والحيوانات الأليفة.

ومع مرور الوقت وتطور الحضارة صار هناك ميل إلى تحويل هذه الأماكن إلى مراكز إعادة تأهيل وإصلاح، وعلى رغم ذلك ما زال حجز البشر في مكان محدد وسلب حريتهم لفترة معينة عقاباً قاسياً في نظر بعضهم، مما دفع عديداً من الأنظمة العدلية والقضائية بكثير من دول العالم للتوجه نحو تفعيل سياسات عقابية حديثة تعرف ببدائل السجن لأسباب إنسانية واجتماعية ووطنية واقتصادية.

يترك السجن آثاراً مختلفة على الحالة النفسية والاجتماعية للسجناء، سواء تعرضوا خلال فترة سجنهم لممارسات موجهة ومقصودة أو كان ذلك نتيجة عرضية لحجز الحرية وتقييد الحركة، إضافة إلى التبعات التي ترافق السجين حتى بعد خروجه من الحبس المتعلقة بكيفية تعامل المجتمع معه ونظرته له، ومدى قدرته على الاندماج مجدداً، وأثر تجربته في أسرته وحتى أبنائه.

في لقاء إذاعي أجريته معه عام 2011، لخص الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي، الذي كانت له تجربة مع الحبس الانفرادي خلال فترة حكم زين العابدين بن علي، الأمر بعبارة واحدة، إذ قال لي "الشخص الذي يدخل السجن ليس هو نفسه الذي يخرج منه".

ما العقوبة البديلة؟

من حيث المبدأ لا تختلف العقوبة الأصلية بكونها إجراء يفرضه القانون الجزائي على من ارتكب جريمة أو أسهم فيها، لكن من حيث التطبيق فالعقوبات البديلة هي مجموعة من البدائل غير السالبة لحرية المحكوم عليه، يتخذها القاضي لاستبدال عقوبة السجن بخدمة يؤديها مقترف الجنحة لصالح فئة من فئات المجتمع أو جهة خيرية أو الالتحاق بمرفق تعليمي يستفيد منه المحكوم عليه بهدف إصلاحه وحمايته من الأذى وتعزيز إسهامه في مجتمعه.

وينظر إلى العقوبات البديلة على أنها ذات نفع عام، لأن مرتكب الجنحة ينتفع منها من خلال تجنب السجن، والمجتمع ينتفع منها من خلال اندماج هؤلاء الأفراد فيه.

هناك ميل لاستخدام العقوبات غير السلبية عندما ترتكب الجرائم والمخالفات للمرة الأولى أو مع من يسمون بمجرمي الصدفة أو الأشخاص الذين ينتمون إلى فئات عمرية صغيرة ولم يحظوا بظروف تنشئة جيدة أو تربوا في محيط اجتماعي سيئ، فتمنحهم فرصة نحو مستقبل أفضل.

أشكال العقوبات البديلة

إلى جانب الغرامات المالية الأكثر شيوعاً، يمكن توجيه طاقات السجناء إلى الأعمال البدنية أو مساعدة الآخرين أو تنظيم فعاليات معينة أو الإشراف على الملاجئ أو أعمال الحراسة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في بعض الأحيان قد يوجه القاضي باستغلال خبرة مرتكب الجريمة، مثل أن يساعد المدرس في محو الأمية بالمجان أو أن يعالج الطبيب المرضى أو يشرف الممرض عليهم أو على المسنين خلال عطلة نهاية الأسبوع، ما يوفر بعض المصاريف على الدولة، وقد يشمل ذلك إسهام أصحاب الميول الرياضية في تدريب الفئات الناشئة.

وهناك بدائل كثيرة للسجن التقليدي، منها الخضوع لمراقبة الكاميرات للتأكد من وجود مرتكبي الجرائم في أماكن محددة يسمح لهم بزيارتها أو مراقبة مدة الزيارة، وسوار المراقبة الإلكتروني الذي يرتديه المعاقب ويوضع عادة حول الكاحل ويكون محدداً بمدى معين وفقاً لقرار القاضي، ويطلق السوار إنذاراً للسلطات المتخصصة لإعلامها في حال تجاوز الشخص الحدود المسموحة، وكذلك المنع من مزاولة أي نشاط سياسي أو اجتماعي معين لمدة زمنية يحددها القاضي، والحرمان من استخدام المنصات الإلكترونية ومزاولة الأنشطة على الإنترنت، وإسقاط الولاية أو الوكالة أو الوصاية إذا كان مرتكب الجريمة يمتلك أحد هذه الحقوق.

السجون المفتوحة

تتبع فنلندا ما يعرف بنظام "السجون المفتوحة" منذ ثلاثينيات القرن الماضي، لكن تركيز العالم انصب على هذه الظاهرة عام 2019 عندما استضافت البلاد اجتماعاً لوزراء العدل في الاتحاد الأوروبي وحاولت الترويج للفكرة التي أثبتت فائدتها على الصعيد المالي، إضافة إلى إنقاص معدلات الجريمة.

لا تحتوي السجون المفتوحة على أبواب أو إقفال، ويمارس السجناء أعمالهم الخاصة، مثل الزراعة وتربية الحيوانات الأليفة والصناعة، ويحصلون على رواتب في مقابل تلك الأشغال.

كما يحق لهم استخدام الهواتف النقالة والحصول على استراحة لمدة ثلاثة أيام كل شهرين، وإذا رغب أحدهم في متابعة دراسته الجامعية يحصل على منحة بدلاً من العمل، ويتم كل ذلك تحت مراقبة إلكترونية.

الدليل على فاعلية هذا النظام يتمثل في تمتع فنلندا بأقل معدل سجناء في العالم وتقليص الموازنة المخصصة للسجون.

وفي هولندا أدت القوانين المرنة والتركيز على برامج إعادة التأهيل ونظم المراقبة الإلكترونية المتطورة إلى انخفاض معدلات الجريمة بشكل مطرد.

وكانت النتيجة أن البلاد اضطرت عام 2013 إلى إغلاق 19 سجناً بسبب قلة عدد المجرمين، ونقص عدد هؤلاء بشدة لدرجة أن هولندا استوردت 240 معتقلاً من النرويج عام 2016 فقط للحفاظ على تشغيل تلك المرافق، وقررت في 2017 إغلاق خمسة سجون أخرى.

العالم العربي

أما في العالم العربي فقد أصدر قاض بمحكمة بداية شرق عمان في أكتوبر (تشرين الأول) 2018 قراراً بتنفيذ أول عقوبة بديلة بالأردن، إذ فرض على مدان بالتسبب في أضرار على ممتلكات عامة بأن ينخرط في مهمات تخدم المجتمع، بدلاً من سجنه.

وبعد ذلك بشهرين شهدت تونس تنفيذ أول عقوبة بديلة بحق شاب كان محكوماً عليه بالسجن لمدة أربعة أشهر بتهمة السرقة، فقرر القاضي إعفاءه من نصف العقوبة واستبدالها بالعمل ضمن فريق البستنة بإحدى البلديات.

في 2020 أقرت السعودية مجموعة من التدابير والإجراءات التي تحل محل العقوبات السالبة للحرية أو العقوبات الجسدية وتحديداً عقوبتي السجن والجلد.

وبالمغرب ثار الجدل في سبتمبر (أيلول) عام 2022 بسبب مشروع قانون العقوبات البديلة الهادف إلى تطبيق "العمل لأجل المنفعة العامة" أو "الغرامة اليومية" أو "المراقبة الإلكترونية" أو "تقييد بعض الحقوق" أو "فرض تدابير رقابية أو علاجية أو تأهيلية" بدلاً من السجن، وهناك مشروع قانون مشابه طرح في نهايات السنة الماضية بالجزائر وما زال قيد الدرس.

يوجد كيانان في العالم خاليان من السجون، مجموعة جزر فارو ذاتية الحكم والتابعة للدنمارك، وإقليم جزر توكيلاو ذاتي الحكم التابع لنيوزيلندا.

ويرجع السبب في انعدام وجود السجون إلى غياب الجرائم الخطرة، إذ نادراً ما ترتكب الجنح، ويتعرض المجرمون للتوبيخ علناً أو يدفعون غرامات مالية أو يجبرون على العمل لصالح المجتمع المحلي.

لا شك في أن علاج الجريمة وتحقيق العدالة القضائية هما ضرورة قائمة، وقد يبدو من السذاجة الحلم بعالم بلا زنازين، لكن في حكم الظروف والمتغيرات التي تطرأ على المجتمعات والوعي البشري، لا بد من الاستفادة من التجارب القضائية في الدول المتقدمة للوصول إلى وسائل إصلاحية أكثر من عقابية تؤدي الغرض منها، لكنها تحافظ في الوقت نفسه على إنسانية المخطئين.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير