Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بحثا عن غوبلز... الدعاية الروسية في زمن "السوشيال ميديا"

إعلام موسكو أخفق في حصد الدعم الخارجي للحرب فيما باتت سترة زيلينسكي الزيتية رمزاً للمقاومة

يقول بوتين إنه يحارب الأيديولوجيا النازية بكل قوة لكنه يتمسك أيضاً وبالقوة نفسها ببعض آليات هذه الأيديولوجيا (أ ف ب)

لا يتوقف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن اتهام الغرب بصنع دعاية مضللة ضد ما يجري على الأراضي الأوكرانية، بل ويمنح الولايات المتحدة الأميركية وأوربا صفة البراعة في ما يتعلق بتوجيه وسائل الإعلام لدعم كييف، متهماً جميع المنصات هناك باتخاذ موقف السلطات التي تعلن، في رأيه، ولاءها الكامل لانقلاب "النازيين الجدد" الذين تحاربهم روسيا في أوكرانيا.

لافروف الذي يبدو حضوره قوياً في الحرب الإعلامية أكثر من وزارتي الثقافة وتكنولوجيا المعلومات في روسيا، يلقي بالاتهامات على خصومه، بينما تقوم الحكومة الروسية بنشر رسالة رسمية على موقع "الكرملين" تعلن فيها قرار الرئيس فلاديمير بوتين بتنظيم بث أفلام وثائقية تكشف عن حقيقة ما يجري على الأرض من وجهة النظر الرسمية، وهي الأفلام المفترض أن تنتشر في دور السينما هناك مطلع فبراير (شباط)، والتي سبق أن عرض بعض منها هنا وهناك في وسائل إعلام روسية وأخرى موالية لها، لكن على ما يبدو فإن الأمر لم يؤثر بالشكل الكافي، لذا تم وضع خطة قومية لتصل إلى القطاع الأكبر من الشعب.

لافروف قال إن ما تفعله الآلة الإعلامية الغربية هو بمثابة التعبئة، لكن ماذا عن الخطة الجديدة التي تتبعها دولته؟ حيث لم تخل الرسالة الجديدة من عبارات مثل اجتثاث النازية، ومكافحة انتشار أيديولوجية الفاشية الجديدة.

يحارب بوتين، بحسب ما يقول، بكل ما أوتي من قوة المفاهيم النازية، لكنه يتمسك أيضاً بالقوة نفسها ببعض آليات هذه الأيديولوجيا، ولعل أبرزها التجييش الإعلامي والدعاية الواسعة لقرار الحرب وتبعاته عن طريق أوامر مباشرة لوسائل الإعلام ومنصات العرض مقابل عقوبات رادعة للمخالفين. فهل يتم الآن صناعة غوبلز جديد يناسب الشكل العصري في 2023؟

الحنين إلى غوبلز

قد تكون هناك محاولات، ولكن الأمر ليس سهلاً أبداً مثلما جرت الحال في الحرب العالمية الثانية، حينما أسند هتلر تلك المهمة في الحزب النازي لبول يوزف غوبلز وزير الدعاية من 1933 إلى 1945، وعلى رغم تأثيره الفعال وخططه التي كبلت الأفواه وغسلت الأدمغة، انهزمت ألمانيا وانتحر هتلر ورفاقه وبينهم داهية الإعلام الذي أنهى حياته وهو وزجته وأطفاله الستة رفضاً للخسارة المروعة التي منيت بها دولته.

كانت دعاية غوبلز ترتكز على معاداة اليهود والدعوة لإبادتهم، مع الترويج لتفوق العرق الألماني وبناء إمبراطورية قوية رائدة، واستخدم في ذلك الصحف والإذاعة وكافة وسائل الإعلام حينها، بما فيها الفنون والأفلام التي كانت وسائل جديدة نسبياً، وكانت تتناول موضوعات دعائية للحرب التي تخوضها ألمانيا النازية وتهاجم كل ما لا يروق لهتلر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أسهم في ذلك قبضة أمنية لا مثيل لها، حيث كانت الرسائل تتكرر بلا هوادة على الشعب لمحاولة رفع المعنويات بعد الحروب التي دخلتها الدولة والعداء الخارجي المتوالي لها، فالدعاية السياسية في ذلك التوقيت كانت ذراعاً أساسية في الصراع، وقد تمثلت في تنفيذ ما جاء في كتاب هتلر الشهير "كفاحي"، حيث ترتكز الدعاية النازية على التأثير في مشاعر ونفسية الجماهير والتلاعبت بالعواطف بما يخدم أهدافها.

إذاً، فكرة تجييش وسائل الإعلام ومحاولة الدولة حشد الشعب في صفها عبر جميع المنصات المتاحة، لا سيما الأفلام باعتبارها وسيلة سريعة وسهلة الفهم وتتضمن تقنيات متعددة تجعل عملية التأثير على الحس الوطني أكثر يسراً وقبولاً، هي وسيلة ابتكرتها النازية بالأساس، كما اعتمد عليها الاتحاد السوفياتي قبيل انهياره أيضاً في مطلع تسعينيات القرن الماضي، فهل الآلة الإعلامية الروسية الآن التي يتم التضييق عليها عن طريق غلق بعض مكاتبها الخارجية وعدم التعاون مع مراسليها، ستنجح في الخطة القديمة الجديدة نفسها؟

النازية... عدو وقدوة

لم ينكر المتخصص في الشأن الروسي نبيل رشوان أن التعليمات الرسمية المتداولة في روسيا حالياً، والتي تتعلق بضرورة تكثيف عرض الأعمال التي تشرح حيثيات العملية العسكرية على الشعب، شبيهة إلى حد كبير بسياسة هتلر وغوبلز الدعائية أثناء الحرب العالمية الثانية. وحول التناقض في تبني وسيلة ترويجية لموقفه هي بالأساس توصم بأنها من ابتكار النازية التي يقول بوتين أن يهدف إلى محاربتها، يشدد رشوان على أنه بحسب المفهوم الروسي، فإن كل شيء مباح ومتاح وقت الحرب، واصفاً الأذرع الإعلامية للدولة هناك بأنها مسيطرة بشدة، ومشبهاً الوضع حالياً بأنه يقترب بالفعل من كونه حرباً عالمية ثالثة، لكن رشوان مع ذلك لا ينكر أن روسيا حققت نجاحاً في الملف الدعائي الإعلامي، بدليل أن الرئيس بوتين حتى الآن يتمتع بشعبية بين مواطنيه، لكن الفشل تحقق خارجياً على مستوى السياسة، فمثلاً لم تستطع موسكو أن تضم حلفاء جدداً موالين لموقفها، ولم تستطع أن تقنع حتى من هم على الحياد به، فيما دول "الناتو" بالطبع تعاديها، لكنه يلفت النظر أيضاً إلى نقطة أخرى هي أن روسيا لا تهتم بآراء الشعوب، وكل همها هو أن تحصل على موقف رسمي داعم من الحكومات والأنظمة، وحتى في دعاياتها الإعلامية تركز دوماً على الأرقام والإحصاءات والعوامل التاريخية التي أدت إلى قرار الضربة العسكرية، بينما تلعب الدعاية الأوكرانية على المشاعر، بالتالي نجحت في إدارة هذا الملف جيداً بالتركيز على القصص الإنسانية وأعداد الضحايا ومعاناتهم.

كيف نجح زيلينسكي؟

إذاً، وبحسب آراء المراقبين، فهناك إخفاق في الدعاية السياسية الروسية، لا سيما خارجياً، مما جعل الجهات الرسمية هناك تستعير طرقاً من الماضي "المنبوذ" في ظل حال السخط التي تسيطر على شعوب العالم، وكذلك القيادات السياسية، جراء تداعيات استمرار الحرب لمدة قاربت العام، مما أسهم في أزمات اقتصادية جمة أثرت بشكل مباشر على قوت الناس. وقد كانت روسيا تأمل في أن تجد صدى أكبر من ذلك بكثير لموقفها في الحرب التي لا يزال الجميع يسميها حرباً متكاملة، بينما الدولة صاحبة القرار والموالين لها يكتفون بالإشارة إلى أنها مجرد "عملية عسكرية خاصة" تهدف إلى إعادة الأمور إلى نصابها وحماية الناطقين بالروسية من "إبادة جماعية".

وهكذا، فحتى الاسم الذي حاولت روسيا فرضه لم تنجح في إقناع العالم به، كما طاشت التصريحات مع تنامي الاعتراض الروسي على انضمام أوكرانيا لحلف "الناتو"، والحديث عن ضرورة نزع سلاحها، وهي تبريرات لم تجد مؤيدين كثراً لها، وتراجعت نبرة الكلام عن الرغبة في السيطرة على الحكومة والمدن الكبرى بأوكرانيا بعد إنهاك الجيش الروسي بسبب المساعدات التي تنهال على جارته العصية ورئيسها فولوديمير زيلينسكي (44 سنة) الذي نجح في المقابل في إدارة حربه الإعلامية بجدارة وبشكل غير متوقع، وحصد شعبية ودعماً ومساندة من مشاهير ونجوم مجتمع، وقبلها من الحكومات الأوروبية، حيث بات ضيفاً أساسياً على كبرى المهرجانات وحفلات الجوائز، يبث رسائل الصمود ويدافع عن موقف بلاده، وأصبحت سترته الزيتية اللون رمزاً من رموز الصراع، بينما الخسائر الروسية تتوالى في خندق المعارك الإعلامية بعد أن اعتمدت البرامج العالمية الشهيرة تعبير "مجرم حرب" الذي وصف به بايدن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (70 سنة) ليكون معتمداً في معظم المنصات المناهضة لموقف روسيا، في حين قال المحلل السياسي الأميركي الذي عمل سابقاً سفيراً في أوكرانيا جون هيربست، إن "الرئيس الروسي أوقع نفسه في مأزق كبير"، بحسب تصريحات نشرتها مجلة "ناشيونال إنتريست".

يفسر نبيل رشوان المتخصص في الشأن الروسي هذا التحول بالإشارة إلى أنه لا أحد من متابعي الشأن السياسي توقع الصمود الأوكراني لكل هذا الوقت على رغم أنها دولة ليست ذات قدر سياسي كبير، وتاريخياً كانت متذبذبة ولا تتمتع بقوة في المنطقة، معتبراً أن بوتين يتحرك بدافع "العند" واستعراض العضلات، الأمر الذي كبده خسائر اقتصادية هائلة.

قبضة حديدية ولكن

الظروف حالياً لا تخدم روسيا كثيراً، فما لم يكن يحدث إبان الحرب العالمية الثانية هو تنوع المنصات، إذ لم يعد المتابع يعتمد على وسيلة واحدة تلقنه الحقيقة من وجهة نظر أحادية، كما أن إتاحة المعلومات ببساطة ولحظياً باتت سمة هذا العصر، وقد أسهم انتشار أنباء الاستقالات من وسائل الإعلام التي تتحدث باسم روسيا على سبيل المثال في التشكيك بالنيات المعلنة من قبل الداعين إلى الحرب، ومن بين أبرز المستقيلين مارينا أوفزيانيكوفا محررة التلفزيون الروسي التي اقتحمت البث الرسمي ورفعت لافتة تناقض موقف بلادها وترفض من خلالها الدعاية السياسية المضللة للحرب، وكان هناك حديث عن استقالات جماعية من قبل العاملين في المنصات التابعة لروسيا، كما شملت الأسماء الشهيرة إعلاميين في شبكة "روسيا اليوم" المتحدثة باسم الدولة الروسية بلغات عدة في دول مختلفة، مثل ماريا بارونوفا وشادية إدواردس وفريدريك تاداي.

إذاً، فالانقلابات هنا هي سيدة الموقف، إضافة بالطبع إلى التضييق الذي تواجهه وسائل الإعلام الروسية على منصات التواصل الاجتماعي، مقابل خسارة تأييد الجانب الأكبر من مشاهير العالم الذين يعتبرون قادة للرأي العام بشكل أو بآخر، وبخلاف تعاطف ستيفن سيجال مع الرئيس بوتين ووصفه بأنه صديقه وزعيم العالم العظيم، فإن معظم نجوم ومشاهير العالم قادوا حملة إعلامية مضادة وغير نظامية، لكنها مؤثرة للتنديد بما يفعله بوتين، وشملت تصعيد نداءات التبرع للشعب الأوكراني.

من يدير الإعلام الروسي؟

الإدارة الإعلامية الروسية للهجوم العسكري على أوكرانيا تضمنت كثيراً من الفصول، من بينها إصدار مجلس النواب (الدوما) نصاً يقر بعقوبات تصل إلى السجن 15 عاماً وغرامات مالية كبيرة لكل من ينشر معلومات تجدها الجهات المسؤولة خاطئة بما فيها تسمية العملية العسكرية حرباً أو غزواً، وبالفعل قامت الوكالة الروسية المتخصصة بالإشراف على تكنولوجيا الملعومات والاتصالات "روسكومنادزور" باتخاذ إجراءات رادعة ضد عدد من وسائل الإعلام التي خالفت في رسائلها الرواية الرسمية لما يجري، وبينها "راديو إيكو"، بعد أسابيع قليلة من انطلاق القصف، حيث تحتل روسيا المرتبة الـ150 من أصل 180 في ما يتعلق بمؤشر حرية الصحافة، بحسب تقرير صدر عن شبكة "مراسلون بلا حدود" قبل أقل من عامين.

من الواضح أن إدارة ملف الحرب إعلامياً في روسيا متروكة لكبار رجال السياسية ووجوه النظام البارزة عالمياً، وتبدو وزارة الخارجية الأكثر تورطاً هنا، فبخلاف تصريحات سيرغي لافروف المتوالية والأكثر انتشاراً، فإن المتحدثة باسم وزارة الخارجية ماريا زاخاروفا لا تتوقف عن السخرية من التعليقات التي تجدها مناهضة لإنتاجات بلدها الثقافية، حيث قالت لوسائل إعلام محلية قبل أيام إن وزير الثقافة الليتواني سيموناس كيريس يستحق الحجر على عقله، ووصفته بأنه "وزير انعدام الثقافة" بعد أن طالب بالحجر على الثقافة الروسية على خلفية موقفه من الحرب.

واللافت أن الإرث التاريخي الأدبي والموسيقي لهذا البلد يبدو حتى الآن الملف المنيع الذي سلم من الهجوم، ففي حين أطلقت بعض المؤسسات العلمية في بداية الحرب دعوات لمنع تدريس الإنتاج الثقافي الروسي، لكن الانتقادات كانت أقوى من أي شيء، باعتبار أن الإبداع الروسي الرفيع هو ملك للإنسانية، ولا ينبغي أن يكون مادة للعقاب من الأساس، على رغم أن الهجوم العسكري الروسي لم يستثنِ المتاحف والمسارح الأوكرانية من القصف، حيث دمرت منجزات ثقافية كثيرة للبلاد، وبينها مسرح مدينة ماريوبول.

أزمات متوالية

في مقابل كل ذلك، تبدو وزيرة الثقافة أولغا ليوبيموفا بعيدة تماماً من الملف الدعائي للحرب، ولا يذكر اسمها تقريباً إلا في بيانات روتينية، بينما تتناثر تصريحات من هنا وهناك لوزير الاتصالات الروسي ماكسوت شادايف تتحدث في غالبيتها عن معلومات وحقائق حول الوضع في البلاد، وآلية تنفيذ القوانين، بعيداً من رسم السياسات الإعلامية، وبينها ما قاله في أواخر العام الماضي من أن روسيا فقدت ما يقرب من 100 ألف تقني فروا من البلاد منذ بدء العملية العسكرية في أوكرانيا، مما أسفر عن عجز كبير في تلك المجالات، وبحسب آراء المحللين فإن السبب يعود إلى عدم استقرار الوضع الأمني، وأيضاً بسبب زيادة التعبئة الاحتياطية للجيش، حيث شهدت البلاد بشكل عام مغادرة كثير من الشباب الذين لا يرغبون في أداء الواجب العسكري والاشتراك في الحرب، وهو أمر آخر أسهم في قوة الدعاية الإعلامية المضادة، حيث باتت تسيطر على الأخبار روايات أخرى لا ترغب فيها روسيا، وبينها تلك المتعلقة بتحركات مرتزقة جماعة "فاغنر" التي تقاتل الأوكرانيين لصالح روسيا، وتتهم الأخيرة بالاستعانة بهم للفتك بأعدائها في ظل تراجع أعداد مقاتليها.

المزيد من تقارير