Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما استخدم فرويد ملخصا لكتابه "علم الأحلام" لترويج كتابه الكبير

صفحات قليلة من رائد التحليل النفسي للرد على المنتقدين وتصحيح المسار بشكل حاسم

سيغموند فرويد: تطور كبير خلال عام واحد (غيتي)

كان ذلك في عام 1900 بشكل محدد، وكان عام تقريباً قد مضى على إصدار سيغموند فرويد ذلك الكتاب الذي سيبقى الأشهر بين مؤلفاته مع أنه كان واحداً من أقدمها، "علم الأحلام" الذي سيعرف في ترجمات كثيرة بـ "تفسير الأحلام". ولكن مبيعات الكتاب لم تكن مرضية في ذلك العام الأول لصدوره. وكان ذلك يسبب إرباكا للأب المؤسس وحيرة لحوارييه الذين كانوا يتوقعون للكتاب الضخم أن يسيطر على سوق المنشورات العلمية. لكن الحيرة لم تطل، وكذلك ارتباك فرويد الذي أتته النجدة من حيث لم يكن يتوقع: من الباحث الميونيخي ليوبولد لوفنتال الذي خطرت على باله أواخر العام نفسه فكرة علمية نالت ترحيباً عاماً تقوم على إصدار كتاب جماعي يتولى عدد من العلماء فيه الإجابة على سؤال بسيط طرحه عليهم هو "ما معنى أن نحلم؟". وكان فرويد من بين الذين وافقوا على الإجابة نظراً لظروف كتابه الكبير وعدم وصوله إلى أعداد متوخاة من القراء.

ففرويد، وفي ظروف أخرى لم يكن من المفكرين الذين يرضون خوض الكتابات الجماعية ولا العمل المشترك، تشهد على ذلك خلافاته مع العدد الأكبر من مريديه وحوارييه وتلامذته، وهي خلافات قد تتخذ طابع السجال العلمي، في الظاهر على الأقل، أما في الحقيقة فإنها كانت خلافات تنبع من رغبة فرويد الدائمة في التفرد. كانت تلك عادته أما الآن فإن للضرورة أحكامها.

اجتماع قسري على صفحات كتاب واحد

والضرورة تفرض عليه الآن أن يشارك في كتاب يجمعه مع عدد من باحثين آخرين من حول الموضوع نفسه. وسيفعل لتكون النتيجة غريبة بعض الشيء. فالواقع أن النص الذي انتجه فرويد في تلك المناسبة، حتى وإن كان في نهاية الأمر مجرد تلخيص للكتاب الأول لا يصل عدد صفحاته إلى أكثر من عُشر صفحات ذلك الكتاب، فإنه أتى مميزاً من ناحية سهولة لغته مع اعتماده البعد العلمي نفسه. لكن الأهم من ذلك أن الكتاب على صغره أتى مطوراً أفكار المؤلف تجاه موضوعه. فالحال أن العام الذي فصل بين الكتابين شهد تطوراً كبيراً في مسار فرويد الفكري والكتابي. فهو، أي ذلك العام 1900، كان الذي شهد إنجاز فرويد واحداً من أهم كتبه وهو ذاك المتعلق بـ "السيكولوجيا العيادية للحياة اليومية"، وكذلك شهد في الوقت نفسه تجميع فرويد المواد والملاحظات الميدانية المتعلقة بواحد من أهم كتبه حول الهستيريا وعلاقتها بالأحلام. ونتحدث هنا طبعاً عن صياغته الأولى لكتاب "حالة دورا" الذي كان قد عنونه في تحضيره الأولي تحديداً "الحلم والهستيريا"، وهو سيصدر في عام 1905 متأخراً بعض الشيء، لكن المهم في الأمر أن ذكرى "دورا" وحالتها ستبقى ماثلة بقوة في تلخيص كتاب الحلم الكبير وبأكثر كثيراً من مثولها في "علم الأحلام"، وهو أمر بالغ الأهمية والدلالة هنا بالطبع وبخاصة بالنظر إلى أن فرويد كان في تلك المرحلة المبكرة يشتغل دائماً على أسلوب "العمل قيد الإنجاز"، ما يعني أن كل حقبة مهما كانت قصيرة كانت تضيف جديداً إلى ما يتراكم لديه من إنجازات فكرية من دون أن يعني ذلك حلول أفكار جديدة محل ما سبق. ففرويد كان حينها أكثر وثوقاً بنفسه من أن يلغي ما كان قد توصل إليه من استنتاجات من قبل.

تفاصيل وترابط أفكار

كان التجديد لديه يكمن في التفاصيل وفي تمكين الترابط بين الأفكار. وهو الأمر الذي لا يمكننا إلا أن نلاحظه بقوة، مثلاً في المقارنة بين كتابي "الحلم". والحال أن هذا الأمر في حدّ ذاته سيبدو لنا أمام التعمق في المقارنة بين النصين، إنجازاً كبيراً. وذلك تحديداً لأن مقارنة من هذا النوع من شأنها أن تكشف لنا أن المؤلف لم يبسّط في التلخيص أفكاره، كما أنه لم يكرر أياً من أفكاره السابقة، بل إنه اشتغل بكل بساطة على نوع من بناء منهجي جديد عرف من خلاله، ومن خلاله فقط، كيف يستجيب مواربة إلى العديد من ضروب النقد التي كانت قد وجهت إلى "علم الأحلام" ولكن بشكل خلاق يجعله يبدو وكأن التعديلات كانت جزءاً من أفكاره التمهيدية منذ البداية، وأنه إذ يضيفها هنا فإنما لكي يمكن القارئ العادي من أن يلتقط مفاتيح للفهم لم يكن فرويد في حاجة إلى توضيحها في صياغة "علم الأحلام" الذي كان موجهاً إلى النخبة!

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لم يكن في الأمر احتيال علمي بالطبع وإنما تبسيط منهجي تجبره عليه هذه المرة نوعية قرائه إذ صار نصّه الجديد جزءاً من كتاب تبسيط علمي. ومهما يكن، فإن الناشر الذي عمد لاحقاً إلى نشر نص فرويد الجديد هذا منفرداً ككراس مستقل في ذاته، لم يطالب الكاتب بأية تعديلات عما كان النص عليه في الكتاب الجماعي متعدد المؤلفين. وهكذا بات ثمة في ببليوغرافيا فرويد كتابان حول الحلم لا شك أنهما في نهاية الأمر كتاب واحد!

تراكمات لعام واحد

غير أنه سيكون من الإنصاف أن نؤكد أن "الكتاب الصغير" لا يقل أهمية عن "الكتاب الكبير" ليس من ناحية علميته، فـ"علم الأحلام" يبقى في الأحوال كافة ليس فقط واحداً من أهم كتب فرويد، بل واحداً من أشهرها. وذلك بالتحديد لأنه، ومن منطلقين على الأقل، تمكن من أن يفرض نفسه على قراء العالم الكبير، بمن فيهم طبعاً أولئك الذين قرأوا "حول الحلم" من دون أن تكون لديهم أية فكرة حول الترسانة العلمية الفرويدية الماثلة خلفه ولا حتى حول التجديدات الهائلة التي حدثت في فيينا وخارجها عند نهابة القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تحت رعاية وسلطة فرويد نفسه. وهم إذ شعروا أن اللغة البسيطة إنما الذكية التي كتب بها "حول الأحلام" ليست عصية على مداركهم، سارعوا الآن يقتنون نسخاً من "علم الأحلام" الذي راح الناشر يصدر طبعات جديدة منه، فانتهت لعنة كساده بشكل مدهش. هذا بالنسبة إلى المنطلق الأول والأهم الذي توخى فرويد من خلاله الاستفادة من الفرصة التي سنحت له، أما بالنسبة إلى المنطلق الثاني، الذي لا يقل دهاء عما يكشفه المنطلق الأول، فيتعلق بالطبع بموقف فرويد من نقد الآخرين له، وفي الأحول كافة، لا بدّ من الإشارة هنا إلى اشتغال فرويد الذي جعله يستفيد من نقد الآخرين له ويشتغل على كتاباته بشكل تراكمي، متعاملاً مع النقد بإيجابية، هي ايجابية حقيقية مهما كانت خفية! وفي الوقت نفسه الذي يطور فيه أفكاره وكتاباته تبعاً للحالات العيادية التي يشتغل عليها.

مثالب من الحياة اليومية

وهنا في هذا السياق لا بد لنا من أن نكرر إشارتنا إلى كم أن "حالة دورا" قد أثرت في النص الجديد من دون أن يبدو وكأنها فعلت ذلك. لكن قد يكون من المفيد في السياق نفسه أن نشير إلى ذلك الكتاب الآخر الذي كان فرويد أنجزه بين كتابي "الحلم" أي كتاب الحياة اليومية، ولسوف نرى مع التدقيق كم أن رائد التحليل النفسي قد استفاد في الملخص من الاستنتاجات التي كانت بالغة الجدّة في ذلك الحين والتي توصل إليها من ناحية رصده الدقيق والتحليلي لأمور لم يكن علم النفس ليهتم بها من قبل، مثل سقطات اللسان والأفعال غير المنجزة والأفكار العابرة التي قد يمرّ بها صاحبها على غير انتباه وضروب الهذيان العارضة والهلوسات. صحيح أن هذا يمثل جزءاً من الحياة اليومية لأناس عاديين ولا يمكن اعتباره بالضرورة ممراً نحو الهستيريا، لكنه يقف إلى جنب الأحلام في التعبير عن الوعي الباطني والمخاوف وما شاكل ذلك في كونه جزءاً من الدراسة المعمقة التي يتعين أن يقدم عليها المعالج. وبالتالي، فإن الجديد الذي يضيفه فرويد في "الملخص" يجب عدم الاستهانة به من ناحية أهميته في دراسة الحالات العيادية في ارتباطها بالهستيريا. ومن هنا تجديداته في عالم التحليل النفسي بعد عام واحد من المكان الذي كان قد أعطاه للحلم في هذه الممارسة.

المزيد من ثقافة