Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف تغير مسار التطبيع من الخرطوم إلى تل أبيب؟

عملية معقدة وبطيئة "تحتاج إلى دفعة قوية من كلا الجانبين"

انقسم الشارع السوداني بين مؤيد ومعارض للتطبيع مع إسرائيل (غيتي)

بعد مرور عامين على إعلان السودان في 23 أكتوبر (تشرين الأول) 2020، عن توقيع اتفاق سلام مع إسرائيل ودخوله حيز التنفيذ بالالتحاق بـ"اتفاقات أبراهام" في السادس من يناير (كانون الثاني) 2021، خلال زيارة وزير الخزانة الأميركي ستيفن منوشين إلى الخرطوم، دبت عوامل التجميد في أواصر القرار التاريخي الذي حاول إنهاء حوالى سبعة عقود من العداء.

وبموجب الاتفاق الذي وقع عليه من الجانب الأميركي منوشين، ومن الجانب السوداني وزير العدل السابق نصر الدين عبد الباري، وافقت الخرطوم على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، ثم عقدت اتفاقيات أخرى تمكّن السودان من سداد متأخراته مع البنك الدولي، بالحصول على أكثر من مليار دولار سنوياً على شكل مساعدات اقتصادية. ولكن تراجع كل ذلك نسبة للتطورات السياسية التي تشهدها الخرطوم وتل أبيب، فضلاً عن تغيير الإدارة الأميركية التي نجحت في الفترة الأخيرة من رئاسة دونالد ترمب في إقناع السودان بالانضمام إلى "اتفاقات أبراهام"، لتكون الدولة السادسة التي ترتبط باتفاق سلام مع إسرائيل بعد مصر التي وقعت اتفاقاً مع تل أبيب عام 1979، والأردن في 1994، ثم الإمارات والبحرين اللتان وقعتا مع إسرائيل في سبتمبر (أيلول) 2020، ثم المغرب في ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه.

 

وعلى رغم إرجاع قرار التطبيع إلى الضغوط الأميركية التي مورست على السودان من أجل حل الأزمة الاقتصادية، فإنه تبعته إشارات إلى رغبة الحكومة في الحصول على رعاية إسرائيلية تمكنها من الاستمرار، وحسب المفهوم السائد أن إسرائيل هي أسهل طرق التأثير على الولايات المتحدة وحثها على رفع العقوبات. وفي الجانب الآخر، حذر كتاب إسرائيليون من "الافتتان" بشأن الاتفاق مع السودان لأن الفرص التي يتيحها "ستستغل من قبل معارضي خطوة التطبيع، كما ستبذل أحزاب المعارضة الإسرائيلية ما بوسعها من أجل الإضرار بتطبيق مقتضيات الاتفاق".

تبني التطبيع

في سنواته الأخيرة، أعلن النظام الحاكم السابق في السودان من خلال بعض الأعضاء في حزب "المؤتمر الوطني" عن تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وتلك كانت مرحلة تالية بعد أن أدرك النظام أن استعادة العلاقات مع الولايات المتحدة لا بد من أن تمر عبر تل أبيب. وكانت الولايات المتحدة قد صنفت السودان عام 1993 دولة راعية للإرهاب لإيوائه متطرفين بينهم زعيم تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن، ودعم عدد من المنظمات المصنفة إرهابية بما فيها حركة "حماس" و"حزب الله" المعاديتان لإسرائيل. وخلال العشرية الأولى من حكومة الرئيس السابق عمر البشير، كان السودان حليفاً لإيران التي عملت على تهريب صواريخ وأسلحة أخرى عبر البحر الأحمر عن طريق ميناء بورتسودان ومنه عبر شبه جزيرة سيناء وصولاً إلى فصائل فلسطينية في قطاع غزة.

خلال تلك الفترة، بدأت الأزمة السياسية داخل الحزب الحاكم بالمفاصلة الشهيرة مع عراب النظام حسن الترابي عام 1999، ثم انفصاله وتكوين حزب "المؤتمر الشعبي". ومن ضمن ما نتج عن ذلك، كان أن تخلص حزب "المؤتمر الوطني" بقيادة البشير من ثقل الحمولة العاطفية التي كان يكنها الترابي والفصيل المنشق للقضية الفلسطينية، وتحريم تطبيع العلاقات مع إسرائيل. ولأن فورة استخراج النفط والاستفادة من عائداته كانت طاغية في تلك الفترة، فلم تظهر بوادر الأزمة الاقتصادية بصورة محسوسة إلا في الألفية الثانية، وبدأ معها استجداء التقارب مع الولايات المتحدة.

وفي سبيل رفع العقوبات، استجابت الحكومة مرة أخرى لمطالب الإدارة الأميركية بإقامة انتخابات عام 2010 لحقتها شبهات تزوير وأسفرت عن فوز البشير. ثم استجابت للمطالبة بإجراء استفتاء على انفصال جنوب السودان أملاً في رفع العقوبات، ولكن بعد انفصاله إلى دولة مستقلة في عام 2011، استمرت العقوبات، فتطور التعاون بين الحكومة السودانية والإدارة الأميركية إلى "محاربة الإرهاب"، ومع الاتحاد الأوروبي في مكافحة "الاتجار بالبشر" والجرائم العابرة للحدود. غير أن كل تلك التطورات لم تسفر عن رفع العقوبات عن السودان، ثم تبنى عدد من أعضاء الحزب الحاكم مشروع التطبيع مع إسرائيل، ولم يتحول إلى إعلان رسمي إلا بعد سقوط البشير فتلقفته الحكومة الانتقالية وسرت بين المكونين المدني والعسكري موجات مؤيدة وأخرى رافضة.

"الأصدقاء الجدد"

لعب الرئيس التشادي السابق إدريس ديبي والأوغندي يوري موسيفيني دوراً في تمهيد الطريق نحو تطبيع علاقات إسرائيل مع السودان، بلقائهما رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أثناء ولايته السابقة قبل عامين، إذ أكد أن السودان يسعى إلى التعاون في مسائل أمنية ودفاعية ضمن العلاقات بين إسرائيل وعدد من الدول العربية والإسلامية في الشرق الأوسط وأفريقيا. وأسفرت تلك التحركات عن لقاء سري جمع بين نتنياهو والفريق عبدالفتاح البرهان رئيس السلطة الانتقالية في عنتيبي بأوغندا في يونيو (حزيران) 2020، الذي أعلن عنه بعد مرور يوم واحد قائلاً، إن الاجتماع "عُقد من منطلق مسؤوليته عن الحاجة إلى العمل بلا كلل من أجل الحفاظ على الأمن القومي السوداني وحمايته وتحقيق أعلى مصالح الشعب السوداني".

واتفق البرهان ونتنياهو على بدء تعاون يؤدي إلى تطبيع العلاقات بين البلدين، ووعد نتنياهو أن دعماً عالمياً وعربياً وأفريقياً في إطار التطور الدبلوماسي "سيمكن إسرائيل من تحقيق سلام من منطلق القوة، ومن دون أن تضطر إلى تقديم تنازلات في مستوطنات الضفة الغربية". وفي زيارة هي الأولى منذ الإعلان عن الاتفاق، أوفدت إسرائيل مسؤولين إلى السودان، في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه، أكد المتحدث باسم مجلس السيادة الانتقالي السوداني محمد الفكي سليمان أنها "ذات طابع عسكري". ومضياً في طريق التعاون، أعلن مكتب نتنياهو على موقع "تويتر" أننا "نتطلع إلى سلام دافئ ونرسل على الفور ما قيمته خمسة ملايين دولار من القمح لأصدقائنا الجدد في السودان. وإسرائيل ستعمل بشكل وثيق مع الولايات المتحدة للمساعدة في عملية الانتقال في السودان".

وقبل هذه التطورات كان السودان قد صوت في فبراير (شباط)، مع الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية لصالح مشروع قرار يرفض خطة الإدارة الأميركية للسلام. ووفقاً لهذه التطورات المتتالية، اعتبرت السلطة الفلسطينية أن واشنطن في عهد إدارة ترمب عملت على عزلها من خلال تشجيع هذه الدول على التطبيع كخطوة لاحقة لاعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل.

تحول الموقف

وبني المنطق الأساسي لتوقيع السودان اتفاق سلام مع إسرائيل على فكرة تحقيق مكاسب مشتركة لم يحاول أي من الطرفين إخفاءها. فمن ناحية إسرائيل، يلعب التاريخ دوراً أساسياً في سياستها وعلاقاتها في المنطقة العربية عموماً، انطلاقاً من أن رسالتها هي "رسالة تاريخية"، لذا نجد ملامحها في كل اتفاقيات السلام، وعلى ذلك يمكن تفسير التحول في الموقف السوداني بما حمله من رمزية انطلاقاً من محطات تاريخية معينة. وينظر إلى الاتفاق على أنه سيزيل حال العداء التاريخي بسبب مشاركة السودان خلال حرب 1948 حيث انضمت ست سرايا عسكرية سودانية إلى القوات المصرية في محاربة إسرائيل. وكذلك استضافت الخرطوم في عام 1967 قمة "جامعة الدول العربية" بعد وقت قصير من انتهاء حرب "الأيام الستة". وأعلن في القمة عما سمي "اللاءات الثلاث" (لا سلام مع إسرائيل، ولا اعتراف بإسرائيل، ولا مفاوضات مع إسرائيل).

وبمثل ما ذكرت رئيسة قسم الدراسات الأفريقية في جامعة تل أبيب إيريت باك أن الوضع الجيوسياسي للخرطوم قد يكون مثيراً للاهتمام للغاية بالنسبة لإسرائيل، لجهة أنها ستكون الجسر بين شمال أفريقيا، وأفريقيا جنوب الصحراء. فإن السودان أيضاً ينظر إلى علاقات إسرائيل مع إثيوبيا وإريتريا وجنوب السودان، وإذا كان هو الدولة الرابعة في هذه المجموعة فستمثل كتلة جيوسياسية في منطقة القرن الأفريقي، يمكن أن تتداخل مصالح سياساتها الإقليمية والأمنية في منطقة البحر الأحمر، وقضية سد النهضة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبالنسبة لكثير من قطاعات الأعمال السودانية والإسرائيلية، فقد ركزت على أن يسهل الاتفاق عقد صفقات تجارية مربحة واستثماراً في المجال الزراعي وتصدير المنتجات الزراعية، والتعاون التقني وغيره. وأن تتحول إسرائيل من استيراد اللحوم من أميركا الجنوبية إلى السودان، كما تسعى للحصول على إذن لطائراتها للتحليق فوق السودان ما يساعد في تقليص عدد الساعات من وإلى أميركا الجنوبية.

ويراهن مجلس السيادة الانتقالي على أن الاتفاق سيمكن السودان من تطوير علاقاته مع الولايات المتحدة ورفع العقوبات فضلاً عن المساعدات الاقتصادية والعسكرية والإعفاء من الديون.

جبهة مقاومة

وفور إعلان الاتفاق بين السودان وإسرائيل، أعرب فصيل من "قوى إعلان الحرية والتغيير" عن رفضه له وأعلن عن تشكيل جبهة مقاومة لهذا الغرض. ومسوغات هذا الرفض، أن "قوى الحرية والتغيير" عدت قرار المكون العسكري فردياً لم يشرك فيه الرأي العام وأنه استبق تكوين مجلس تشريعي لاتخاذ القرار في مثل هذه القضايا ما يعد انتهاكاً للوثيقة الدستورية. وكان ذلك الموقف متسقاً مع ما دعا إليه رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك، إذ إنه أثناء مفاوضات السودان مع الإدارة الأميركية من أجل إزالة السودان عن قائمة الدول الراعية للإرهاب، دعا واشنطن إلى ضرورة الفصل بين عملية رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب ومسألة التطبيع مع إسرائيل، كما قال إنه مستعد من حيث المبدأ لتطبيع العلاقات مع تل أبيب، لكنه اشترط حصول مصادقة البرلمان الانتقالي الذي لم يشكل بعد، لأن التشريع حظر إقامة علاقات دبلوماسية وأي علاقات تجارية مع إسرائيل مع عقوبات بالسجن والغرامة تنفذ على من يخالف ذلك.

وكانت واشنطن قد منحت السودان في 16 أكتوبر (تشرين الأول) 2020 مهلة 24 ساعة لقبول تطبيع العلاقات مع إسرائيل في مقابل الحصول على مساعدة مالية وشطب البلاد من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ما أحدث انشقاقاً بين المكونين العسكري الذي وافق مباشرة، والمكون المدني الذي انقسم أيضاً بين معارض ومؤيد أعلن استعداده للتعايش مع التطبيع. وبعد ذلك، ألغى مجلس الوزراء قانون المقاطعة الإسرائيلي الذي يعود إلى أكثر من 60 عاماً، كما صادرت السلطات أصول شركات مرتبطة بحركة "حماس".

وكان لبعض قادة الرأي الإسرائيليين مآخذ على هذا الاتفاق أبرزها أن "إسرائيل لم تنجح في إقامة أي حوار حقيقي عميق مع القادة المدنيين الذين كان من المفترض أن يحكموا السودان بعد انتخابات يوليو (تموز) 2023". وحاول آخرون التشكيك في المفهوم المترسخ حول مدى تأثير إسرائيل على الولايات المتحدة إذ قالوا إنها "أوهاماً مصبوغة بمعاداة السامية"، ووصفوه بأنه "مفهوم خاطئ أيضاً من حيث إنه يخفق في قراءة الخريطة الإقليمية والدولية".

دفعة نهائية

وبعد أشهر من توقيع الاتفاق، أعلن الفريق البرهان عن إجراءات 25 أكتوبر، وبما أن المكون العسكري وعلى رأسه البرهان كان القوة الدافعة وراء اكتمال الاتفاق والسير بخطوات نحو التطبيع، فقد سرت بعض الشكوك بأن المسؤولين الإسرائيليين كانوا على علم باستيلاء العسكر على السلطة واستبعاد المكون المدني، إضافة إلى ما رشح عن زيارة وفد أمني سوداني إلى إسرائيل. ومع ذلك لا يرجح أن يكون ذلك هو العامل الأهم في تجميد التطبيع وإنما تكمن العوامل الأخرى في المشاكل الداخلية لدى الطرفين، كما أرجعه البعض إلى الأسلوب الذي استخدمته واشنطن للضغط على الخرطوم حتى توافق على تطبيع العلاقات مع إسرائيل ما أتى بنتائج عكسية. وهناك أيضاً الشارع السوداني المنقسم، ومعارضون إسرائيليون لهذه الخطوة لأنها تمت مع المكون العسكري الذي يناهضون اتجاهه للانفراد بالحكم، خصوصاً أن السودان على طريق الحكم المدني ما يمكن أن يقوض التحول الديمقراطي، وإن تم، فإنه يستدعي إعادة تقييم هذه العلاقة.

وتدل إشارات تجميد التطبيع بين السودان وإسرائيل إلى أنها عملية معقدة وبطيئة "تحتاج إلى دفعة قوية من كلا الجانبين"، وإذا تمت فإنها ستكون غير مستقرة، وستتعرض لهزات بين وقت وآخر لأن القوى السياسية للطرفين ستحاول الاستفادة القصوى منها.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل