Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الشركات الحكومية أصبحت عبئاً على الموازنة التونسية

ديون المؤسسات العامة تمثل 14 في المئة من إجمالي الناتج المحلي

تظاهرة لموظفي الخطوط الجوية التونسية في 19 فبراير 2021 (أ ف ب)

بعدما كانت لعقود عدة سنداً قوياً لموازنة تونس في توفير الموارد المالية الضرورية، ما جنبها اللجوء إلى الاقتراض الخارجي، صارت الشركات الحكومية في تونس مصدر صداع مزمن للحكومات المتعاقبة منذ عام 2011.

وتحولت الشركات الحكومية التي يفوق عددها 120 شركة، إلى "ضرس مسوس" ينخر موازنة الدولة ويضعفها ولم تقدر هذه الحكومات على اقتلاعه من جدوره وإصلاح أوضاع هذه الشركات بسبب غياب رؤية إصلاحية حقيقية وجادة من الحكومات المتعاقبة من جهة وتصلب "الاتحاد العام التونسي للشغل" في موقفه الرافض للتفويت في هذه الشركات ويعتبرها خطاً أحمر، مشترطاً جملة إصلاحات أهمها عدم بيعها والإبقاء على الوظائف فيها.

وتراكمت في السنوات العشر الأخيرة خسائر الشركات الحكومية في تونس وصارت حملاً ثقيلاً على موازنة البلاد في ظل عدم إيجاد أرضية ملائمة تراعي مصلحة البلاد الاقتصادية وإرضاء "اتحاد الشغل" الباقي على موقفه.

وفي تأكيد على أن الشركات الحكومية في تونس أضحت تمثل إشكالاً اقتصادياً ومالياً حقيقياً في موازنة البلاد، أظهر أحدث تقرير نشرته وزارة المالية التونسية منذ أيام، أن إجمالي ديونها بلغ حوال 19.4 مليار دينار (6.4 مليار دولار) حتى يونيو (حزيران) 2022، مقابل 18.7 مليار دينار في كامل عام 2021 أي ما يعادل نحو 14 في المئة من الناتج المحلي.

خسائر فادحة

وبلغت خسائر شركات النقل الحكومية بمختلف أصنافها (براً وبحراً وجواً) في العاصمة التونسية وحدها مع نهاية عام 2021 ما قيمته 6500 مليون دينار (2096 مليون دولار) واستأثرت الناقلة الوطنية "الخطوط الجوية التونسية" بالنصيب الأكبر من الخسائر بـ2200 مليون دينار (709.6 مليون دولار) ثم "شركة نقل تونس" بخسائر وصلت إلى 1836 مليون دينار (592.2 مليون دولار) بجانب شركة السكك الحديدية بخسائر بـ1600 مليون دينار 516 (مليون دولار).

كما بلغت خسائر ديوان المطارات 567 مليون دينار (183 مليون دولار) فيما تخطت خسائر شركة الملاحة البحرية 293 مليون دينار (94.5 مليون دولار).
وتعاني شركات النقل العام من ارتفاع غير مبرر وغير مدروس لعدد العمال والكوادر، إذ بلغ 20430 عاملاً، منهم 7350 عنصراً في شركة نقل تونس فقط.

 البنوك العامة في مأمن

نقطة الضوء الوحيدة في وضعية الشركات الحكومية المتدهورة في تونس تعود إلى القطاع المصرفي الحكومي عبر بنوكه الثلاثة التي حققت نتائج إيجابية.
ويفسر المتخصصون هذه الوضعية المريحة نسبياً إلى جرأة الدولة في إصلاح القطاع المصرفي الحكومي بإقرار خطط إصلاحية قوية واعتماد  معايير تسيير القطاع الخاص نفسها وإدراجها في البورصة، خصوصاً اعتماد معايير الحوكمة وحسن التصرف.
في غضون ذلك، سجلت البنوك العامة الثلاثة (بنك الإسكان والشركة التونسية للبنك والبنك الوطني الفلاحي) ارتفاعاً في الناتج المصرفي الصافي المجمع خلال الفترة ما بين عام 2019 و2021 بقيمة 323 مليون دينار (104 ملايين دولار) أي بنسبة 18 في المئة.

مديونيـة مرتفعة

وبلـغ رصيـد ديـون المجموعة المكونة مـن 45 شركة عموميـة تجـاه الدولـة مـع نهاية عام 2020 مـا قيمتــه 7419.4 مليون دينار (2393.3 مليون دولار) مقابـل 6024.2 مليون دينار (1943.2 مليون دولار) في عام 2019، مسجلاً بذلـك ارتفاعـاً ملحوظـاً بنسـبة 23.2 في المئة.

وواصـل رصيـد هـذه الديـون ارتفاعـه في عام 2021 مسجلاً زيـادة بنسـبة 11.6 في المئة مقارنـةً مع عام 2020 ليبلـغ 8278.9 مليون دينار (2670.6 مليون دولار).

خطر على موازنة الدولة

وكشف تقرير وزارة المالية وضعية المنشآت العمومية في تونس، إذ إن سبع شركات تمثل أخطاراً عالية وحقيقية على ميزانية البلاد، وهي شركة "ديوان الحبوب" والشركة التونسية للكهرباء والغاز والشركة التونسية لصناعات التكرير وشركة الخطوط التونسية وشركة النقل بتونس والصيدلية المركزية والصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية.

وصنفت درجة الخطورة وفق معايير عدة أبرزها حجم الدعم الموجه للشركة وحجم القروض المسندة من قبل الدولة أو الممنوحة بضمان الدولة إلى جانب متخلدات (فوائد) القروض المقدمة من الدولة، فالدور الاستراتيجي الموكل لعدد من المنشآت من خلال احتكارها لبعض الأنشطة على المستوى الوطني.

كمـا أن تدهـور الوضعيـة المالية للشركات العموميـة كان لـه تأثيـر مباشـر علـى عائـدات مساهمـات الدولـة التـي كانـت تتأتـى أساسـاً قبـل عام 2011 مـن الشـركات الناشـطة فـي قطـاع الاتصالات والفوسـفات والصناعـات المعملية.

ومن ضمن عوامل خطورة المؤسسات الحكومية على ميزانية الدولة، زيادة الإنفاق الحكومي المباشر لدعم المؤسسات والمنشآت العمومية، إذ بلـغ مجمـوع التحويلات للمؤسسـات والمنشآت العموميـة خلال 2021 مـا قيمتـه 10772 مليون دينار (3474.8 مليون دولار) مقابـل تقديرات بقانون المالية لعام 2021 بما قيمته 7729 مليون دينار (2493.2 مليون دولار) أي بزيادة نسبة 39.4 في المئة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومثل مجموع التحويلات خلال 2021 نسبة 8.9 في المئة من الناتج المحلي الخام مقابل 8.6 في المئة خلال 2020.
و تـم خلال عامي 2020-2021 توجيـه أكثـر مـن 60 في المئة مـن مجمـوع هـذه التحويلات إلـى الشركات العمومية المنتفعة من الدعم وهي "الشركة التونسية لصناعات التكرير" و"الشركة التونسية للكهرباء والغاز" و"ديوان الحبوب" إضافة إلى "الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية" و"الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي".

وأكد تقرير المالية التونسية أن "مسـتوى مديونيـة المنشآت العموميـة وقدرتهـا علـى سـداد ديونهـا يمثل خطـراً علـى ميزانيـة الدولـة وقـد يكـون هذا الخطر إما صريحاً، وذلك في حال منح الدولة ضماناً بعنوان هذه الديون أو قامت بمنح قروض، أو التزمت الدولـة دعـم المؤسسات والمنشآت التـي تعمـل فـي القطـاع الحيـوي عنـد الحاجـة".

كما شهد حجم القروض المسندة للمنشآت العمومية بضمان الدولة خلال السنوات الأخيرة ارتفاعاً بنسبة 66.3 في المئة خلال الفترة ما بين عامي 2016 و2021.

وأبرز التقرير أنه "ما بين عامي 2019 و2021، شـهدت شركات حكومية صعوبـات علـى مسـتوى الإيفاء بالتزاماتهـا وقـد تدخلـت الدولـة فـي مناسبات عدة لمساندتها في تسـديد أقسـاط قروضهـا الخارجيـة المستحقة وذلـك بمنحهـا قـروض خزينـة أو تسـبقات خزينـة".

أرقام مفزعة

من جانبه، يرى خليل العبيدي، المستشار الاقتصادي المتخصص في الاستثمار، أن "العبء الإجمالي لديون الشركات الحكومية أصبح يقارب 40 في المئة من الناتج الداخلي الخام للبلاد، وبات حقاً يمثل خطراً على موازنة البلاد".

ولفت إلى أن "تقرير وزارة المالية قدم أرقاماً صادمة ومفزعة عن الوضعية التي وصلت إليها الشركات الحكومية في تونس كانت منذ زمن ليس ببعيد من أهم نجاحات المنوال التنموي الاقتصادي التونسي".
وأرجع العبيدي أسباب تدهور وضعية الشركات الحكومية في تونس إلى "سوء قواعد التصرف والحوكمة وسوء اختيارات المسؤولين الأول عن تسييرها، فضلاً عن المواقف المتكلسة والمتحجرة للنقابات الرافضة لأغلب عمليات الإصلاح"، مبدياً دهشته من تصرفات بعض الشركات الحكومية، قائلاً إنها "تنشط في قطاعات تنافسية تروج لبيع منتجاتها بأسعار ليس لها علاقة بواقع السوق المحلية بالمرة، تطبيقاً لسياسة الدولة الاجتماعية على غرار قطاع النقل العمومي، إذ تروج شركات النقل تذاكر النقل بأسعار أقل من الكلفة مع عدم ضخ الدولة لهذا الفارق".

وانتقد العبيدي خيارات الدولة التونسية في ملف الشركات الحكومية، مشيراً إلى أنها "تسببت في تراجع نتائج أعمالها لتحقق خسائر فادحة"، موضحاً أن "جل هذه الشركات لم يعد بإمكانها القيام بالاستثمارات الضرورية لتطوير خدماتها وإكسابها التنافسية اللازمة"، وقال إن "استثماراتها أضحت موجهة لسداد أجور العمال الذين يفوق عددهم ثلاث مرات طاقة تحمل الشركات، بما يخالف المعايير الدولية".

واقترح العبيدي "تدشين خط تمويل" على غرار ما قام به "البنك الدولي" بتخصيص خط تمويل لإعادة الهيكلة المالية للمؤسسات الصغرى والمتوسطة في تونس لتجاوز صعوباتها المالية"، مشدداً على أن "خط التمويل يجب أن يكون كبيراً".

كما اقترح "إقرار مخطط إصلاح اجتماعي يرمي إلى تقليص عدد الموظفين وخصوصاً وجوب تحديث الأصول التي تملكها الشركات الحكومية في تونس، التي لها ممتلكات عقارية يمكن التفويت فيها والحصول على عائدات مالية يمكن إعادة استثمارها".

لا خيار

من جهته، جدد رضا الشكندالي، أستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسية طلبه إلى الحكومة بالتخلص من المؤسسات ذات المساهمة الضعيفة جداً للدولة في خطوة لإصلاح الشركات الحكومية، منتقداً "تكتم الحكومة على برنامج إصلاح المؤسسات الحكومية، ما أثار مخاوف الاتحاد العام التونسي للشغل"، مؤكداً أن "الانشغال في شأن مصير آلاف الموظفين قد يدفع النقابات إلى الاحتجاج وهو ما يهدد السلم الاجتماعي".

وقال إن "بيع أصول الشركات العمومية يجب أن يكون مصحوباً ببرنامج يضمن حقوق الموظفين، سواء بالاتفاق مع المشتري على تعويضهم مالياً أو عدم تسريحهم أو إعادة تشغيلهم في مؤسسات أخرى، لافتاً إلى أن "النقابات ستلجأ إلى كل الوسائل من أجل الدفاع عن حقوق منظوريها".

وتابع الشكندالي أن "إدارة السلطات لملف التفويت قد يتضمن عديداً من الأخطاء، ومنها اختيار المؤسسات المزمع بيعها وطريقة التفويت فيها"، معتبراً أنه "من غير المجزي بيع أصول مؤسسات تعاني من صعوبات مالية وسوء حوكمة"، مشيراً إلى أنه "في المحصلة النهائية، قد تستفيد تونس من عملية إصلاح الشركات الحكومية عبر التفويت في عدد منها بطريقة تدريجية ومدروسة وضخ موارد مالية لموازنة الدولة تغنيها عن الدين الخارجي من جهة، وتعطي نفساً جديداً لهذه الشركات المفلسة التي صارت تهدد موازنة البلاد".

اقرأ المزيد