Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رصاصة في القدس هزّت عرش المملكة الهاشمية

مقتل الملك عبدالله ابن الشريف حسين بن علي شريف مكة وقائد الثورة العربية الكبرى طرح مسألة الخلافة والتحقيق كشف الملابسات

الملك عبدالله الأول بن حسين مؤسس المملكة الأردنية الهاشمية استمر حكمه لعام 1951 حتى تم اغتياله أثناء زيارته المسجد الأقصى (ويكيبيديا)

منذ بداية القرن العشرين هزّت العالم العربي عمليات اغتيال كثيرة غيّرت في مسارات الأحداث والتطورات وبدّلت في تاريخ المنطقة. معظم هذه الاغتيالات تمّ بالرصاص قبل أن تتحول إلى عمليات تفجير، وأكثرها كان نتيجة الصراع السياسي. "اندبندنت عربية" تفتح بعض ملفات هذه الاغتيالات، وفي هذه الحلقة نتناول قضية اغتيال ملك الأردن عبدالله الأول في المسجد الأقصى في 20 يوليو (تموز) 1951.

بعد مرور ثلاثة أيام على اغتيال رئيس مجلس الوزراء اللبناني رياض الصلح في العاصمة الأردنية عمّان، وكان في ضيافة الملك الأردني عبدالله وفي سيارته، أعلن الملك "أننا لن نقعد عن دعاة الفتنة ولن نرضى بالتمكين لأي منظمة تقتل وتفجّر وتعتدي، وإنّ واجبنا القومي يحتّم علينا صيانة المجموعة الأردنية من كل معتدٍ أثيم وغدار لئيم"، ولكن بعد يوم واحد على هذا البيان في 20 يوليو (تموز) كان الملك يسقط ضحية عملية اغتيال.

 

 

ولد الملك عبدالله الأول في عام 1882، والده الشريف حسين بن علي شريف مكة وقائد الثورة العربية الكبرى في الحرب العالمية الأولى ضد العثمانيين، وهو ثاني إخوته بعد علي وقبل فيصل وزيد، وتولّى مسؤوليات عدة على عهد والده منها شريف مكة وملك الحجاز ثم قيادة القوات العربية وأصبح بمثابة وزير خارجيته. في عام 1921 وصل إلى شرق الأردن وأنشأ فيها إدارة موحدة للبلاد تحت سلطة الانتداب البريطاني بمقتضى الاتفاق الذي عقد بين والده وبين الإنجليز. وفي عام 1946 بعد انتهاء الانتداب، أصبح الأردن دولة مستقلة تحت تاج الملك عبدالله الذي تم تنصيبه ملكاً في 26 مايو (أيار) من ذلك العام في وقت كان شقيقه الملك فيصل قد تولّى حكم مملكة العراق. وقد كان للملك عبدالله ابنان طلال ولي العهد ونايف.

بين اغتيالين

كانت الساعة الثانية عشرة إلا ربعاً عندما همّ الملك عبدالله بدخول المسجد الأقصى لأداء صلاة الجمعة بعد انتقاله من عمّان إلى القدس. بعدما اجتاز الباب أطلق شاب عليه النار من مسدسه فقتله على الفور. جرت محاولات كثيرة للربط بين اغتيال الملك عبدالله واغتيال الرئيس رياض الصلح بسبب تزامنهما موحية إلى أن هناك جهات دولية واحدة تقف وراء الاغتيالين ومنفّذيهما، وأن هناك مؤامرة بريطانية للتخلص من الرجلين باعتبار أن الملك حاول إقناع الصلح بالعمل على توحيد الأردن والعراق وأن بريطانيا كانت تعارض هذه الوحدة، وبأن سبيرو حداد المشارك في عملية اغتيال الصلح قد لجأ إلى معسكر بريطاني أمّن تهريبه، وأن هذين الاغتيالين حصلا بينما كان الجنرال البريطاني غلوب باشا قائداً للجيش الأردني. ولكن، وفقاً للتحقيقات، لم يظهر أن هناك رابطاً بينهما. فمن شاركوا في عملية اغتيال الصلح ثلاثة من الحزب السوري القومي الاجتماعي، بينما الذي اغتال الملك عبدالله كان مصطفى عشّو الذي قتل على الفور وتبيّن لاحقاً أنه ينتمي إلى "حركة الجهاد المقدّس" وهي منظمة فدائية شبه عسكرية تأسست في فلسطين عام 1947، وتبيّن أيضاً أن مجموعة خططت لاغتيال الملك وساعدت عشّو وتم توقيف عدد من أعضائها ومحاكمتهم. وإذا كان ثابتاً أن الملك عبدالله فاتح الرئيس الصلح بموضوع الوحدة مع العراق فإن عمليتي الاغتيال بدأ التحضير لهما قبل وقت وفي ظروف مختلفة لكل منهما. وإذا كانت عملية اغتيال الصلح أتت تصفية لحسابات ضدّه بسبب إعدام أنطون سعادة، فإن اغتيال الملك عبدالله تسبّب بإرباكات وطرح تساؤلات حول وضع الأردن الخاص وحول عدم حسم مسألة الخلافة. فقد ارتسمت بعد اغتياله علامات استفهام كثيرة حول مصير المملكة الأردنية الهاشمية لأن مسألة وراثة العرش كانت على جانب كبير من التعقيد والغموض، إذ كان معروفاً أن ولي العهد الأمير طلال مريض وأنه في حاجة إلى العلاج وقد تم نقله إلى بيروت لهذه الغاية ثم إلى سويسرا. وكان أصدقاؤه والمحيطون به يعتبرون أن صحته جيدة وأن خلافه مع الجنرال غلوب باشا هو السبب وراء إبعاده، وجاء تعيين شقيقه نايف وصيّاً على العرش ليزيد الأمور تعقيداً.

حسين هو الحل

هذا ما كان يدور في أروقة المملكة، أما على الصعيدين الجغرافي والتاريخي فقد كانت المملكة تشكل موضوعاً حياً للتنازع الإقليمي بين سوريا والعراق وإسرائيل خصوصاً أن المملكة الأردنية كانت تسيطر على القدس الشرقية والضفة الغربية، وأن هذه الدول الثلاث لم تكن تنظر إليها وكأنها دولة مستقرة وطويلة العمر. فإسرائيل تريد أن تضم إليها الضفة والقدس وتحقيق دولتها الكبرى، والسوريون يسعون إلى وحدة عربية أوسع ولم يرتاحوا إلى أن يكون الأردن دولة جديدة مستقلة، بينما العراق كان يطمح إلى ضم نصفه الثاني أو الجزء الآخر من المملكة. لتلك الظروف والأسباب اتخذت قضية اغتيال الملك عبدالله هذه الأبعاد وحفلت بالتعقيدات ولكنها تعقيدات تم تذليلها عندما بلغ الأمير حسين بن طلال سن الـ 18 وصار ملكاً وتبوّأ العرش ليصير هو الحل للأردن ولتبدأ معه مرحلة هاشمية جديدة في تاريخ المملكة والمنطقة العربية. ولكن بغض النظر عن التعقيدات السياسية والتكهنات ورسم الصور المتعددة للخلفيات، تشكّل الوقائع التي رافقت عملية الاغتيال وما تلاها من توقيفات ومحاكمات وأحكام صدرت في حق المتهمين صورة حقيقية عن واقع المملكة الأردنية في تلك المرحلة.

في 19 يوليو 1951، كان الملك عبدالله انتقل من عمان إلى القدس على متن طائرة ملكية لقضاء يومين فيها وتأدية صلاة الجمعة في المسجد الأقصى. وفي اليوم التالي فيما كان يجتاز الباب الخارجي المؤدّي إلى الباب الداخلي فبهو المسجد، كان الجاني يكمن له خلف الباب ولما صار بين البابين خرج من مخبئه وأطلق عليه النار من مسدّسه فأرداه على الفور. وبعد فوات الأوان، أطلق الحراس النار على القاتل فقتلوه. وفي الساعة الثانية بعد الظهر، أي بعد ساعتين على اغتياله أعلن راديو عمان النبأ وكشف أن القاتل يدعى مصطفى عشّو وكان ينتمي إلى فرقة التدمير في "الجهاد المقدس"، وهي منظمة فدائية شبه عسكرية كانت تأسّست خلال حرب فلسطين في عام 1947، وإذ لم يبق لها أثر رسمي بعد تلك الحرب، فإن أعضاءها بقوا على اتصال في ما بينهم، وقد نشطت هذه المنظمة ضد البريطانيين واليهود ثم وسّعت نشاطها لاستهداف كل من اعتبرت أنهم كانوا السبب في ضياع فلسطين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبعد نقل جثمان الملك من القدس إلى عمّان أذاع مجلس الوزراء الأردني بيان نعيه وأعلن "وصاية الأمير نايف على العرش لوجود حضرة صاحب السمو الملكي الأمير طلال ولي العهد المعظّم في حال الاستشفاء في خارج المملكة تحت عناية الأطباء مدة موقتة"، وأعلن أيضاً "تعيين صاحب السمو الملكي الأمير نايف وصياً على العرش فأقسم اليمين الدستورية وباشر ممارسة سلطاته بينما تم إعلان حال الطوارئ في القدس وضواحيها.

بين الملك والمفتي

في المعلومات الأولية بعد الاغتيال، تبيّن أن القاتل من أهالي القدس. عمره 21 سنة وكان يعمل خياطاً في سوق الدباغة وينتمي إلى فرقة التدمير في "الجهاد المقدّس" التي كانت تتبع لمفتي القدس الحاج أمين الحسيني، وتبين أن له شركاء، وقد عثرت قوى الأمن في منزله على قنابل يدوية ورصاص من عيارات مختلفة، وعلى إثر ذلك، بدأت حملة تحريات في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين. وفي حين وصل إلى عمان الوصي على عرش العراق الأمير عبد الإله امتنع الحاج أمين الحسيني عن التعليق على المعلومات التي ربطته بالعملية بينما أعلن الأمير زيد شقيق الملك أنه لن يحضر التشييع وكان يشغل منصب سفير العراق في بريطانيا. وفي الوقت نفسه، راجت معلومات تقول إن ولي العهد الأمير طلال قد اختفى من سويسرا ولم يعرف إلى أين توجه وتمّ طرح حل لمشكلة الخلافة عن طريق أن يكون الأمير حسين بن طلال ولياً للعهد على أن يتسلم السلطة عند بلوغه سنّ الرشد بعد أربعة أعوام.

وتم تشييع الملك في 23 يوليو بينما كانت تحصل صدامات في القدس بين متظاهرين فلسطينيين وقوات الأمن الأردنية، وتم توقيف عدد من المتهمين من بينهم الدكتور داود الحسيني الذي وُصِف بأنه زعيم الإرهابيين، وتوفيق الحسيني الذي كان مسؤولاً عن الحرم الشريف وقد تمّ اتهام أقرباء للحاج أمين الحسيني بأنهم لم يأتوا للصلاة في المسجد الأقصى على غير عادتهم. كما تمّ الإعلان في عمان العثور على ورقة في جيب الجاني وفيها فتوى بقتل الملك عبدالله تقول إن من يقتله يدخل الجنة وتم توقيف كاتبها. وفي حين طلب الأردن من مصر الحد من تحركات المفتي الحسيني الذي كان موجوداً فيها استغربت مصر هذا الطلب وطالبت بأن يتولى الأمير طلال العرش. ولكن استقر الرأي في النهاية على أن يكون الأمير حسين هو الحل ويبقى الأمير نايف وصياً على العرش حتى بلوغه سن الرشد.

التحقيق والمحاكمة

في 11 أغسطس (آب) 1951، أعلن رئيس الوزراء الأردني توفيق أبو الهدى انتهاء التحقيق في اغتيال الملك عبدالله وتسليم أوراق الملف إلى محكمة عسكرية ستعقد جلساتها في إحدى ثكنات الجيش الأردني في عمان، وقال إن المحاكمة ستكون علنية وأعلن أن التهمة انحصرت بـ 10 أشخاص: اثنان منهم سيحاكمان غيابياً لأنهما خارج الأردن وهما عبدالله التلّ الذي كان ضابطاً برتبة رائد في الجيش الأردني وموسى أحمد الأيوبي، والثمانية الآخرون الموقوفون هم موسى عبدالله الحسيني، وعبدو محمود عكّة، وعبد القادر فرحات السدمير، وزكريا محمود عكة، وتوفيق صالح الحسيني، والأب إبراهيم عياد، والدكتور داود الحسيني، وكامل عبدالله القلعاوي، وكشف أن 21 شخصاً اعتقلوا وأطلقوا ولن يقدموا إلى المحاكمة لأن الأدلة لم تكن كافية ضدهم. ومع تحديد 18 أغسطس موعداً لبدء أول جلسة محاكمة، تحركت الهيئة العربية العليا لفلسطين التي كانت للمفتي الحسيني علاقة قوية بها وانتقدت التوقيفات والتحقيقات وشكّكت بالمحاكمة واعتبرتها دليل بطش.

وقد جاء في التحقيق أن عبدالله التل اجتمع في سبتمبر (أيلول) 1950 بالمدعو موسى أحمد الأيوبي في مصر واتفق معه على اغتيال الملك ودفع له مبلغاً من المال، وفي الشهر نفسه اجتمع التلّ بالدكتور موسى عبدالله الحسيني في القاهرة واتفق معه على اغتيال الملك ودفع له 70 جنيهاً، ووعده بدفع تكاليف العملية بعد تنفيذها. وقد حصل التلّ على أسماء الأشخاص الذين سيشاركون في التنفيذ، ووردت أسماؤهم مع التهم والأفعال المنسوبة إليهم، وقد كان هناك اتفاق بينهم على الهرب إلى سوريا، وحصل اتصال بين موسى الحسيني ووزير سوري لتسهيل هذه العملية كما أن المتهمين عبد القادر فرحات وزكريا محمود عكّة سلّما القاتل مصطفى عشّو المسدس الذي استخدمه في قتل الملك صباح اليوم الذي نفّذ فيه جريمته.

بين 18 و24 أغسطس، انعقدت جلسات المحاكمة وخصصت جلستان في 25 و26 منه للمرافعات وصدر الحكم في 28 منه، وقضى بإعدام كل من عبدالله التلّ وموسى الأيوبي الموجودين في مصر والدكتور موسى الحسيني والأخوين عبدو وزكريا عكّة وعبد القادر فرحات الملقب بـ "السدمير"، وتمت تبرئة الأب ابراهيم عياد والدكتور داود الحسيني وتوفيق صالح الحسيني الذين أطلق سراحهم فوراً.

ويوم الاثنين في الثالث من سبتمبر 1951 بعد ستة أيام على صدور الحكم، افتتح الأمير نايف الوصي على العرش الدورة الاستثنائية لمجلس الأمة الأردني بعد انتهاء الانتخابات النيابية، وبعد عودته من المجلس إلى القصر الملكي، أعلن أنه سينتقل في اليوم نفسه إلى سويسرا ليعود بمعيّة أخيه الأمير طلال متمنياً أن يعينه الله لتحمّل مسؤولية الحكم. ويوم الخميس في السادس من سبتمبر، عاد طلال وصار الملك طلال الأول، وفي 10 سبتمبر، وجّه خطابه الأول إلى الأمة وبعد أربعة أعوام استلم الملك حسين الحكم.

المزيد من تحقيقات ومطولات