Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تم تخريب "هيئة الخدمات الصحية" البريطانية. لم نتردد في قول ذلك؟

لا أحد يرى ملصقاً يعلن: "صوتوا من أجل تدمير الخدمة الصحية" ثم يقول في نفسه " بالضبط، يا لها من فكرة جيدة!". يعمل الأمر بالتدريج على مدار السنين والعقود.

 لقد نجم عن جائحة كوفيد-19 تصدعات عميقة في قدرة الخدمة الصحية الوطنية على الصمود لتجد الحكومة نفسها فجأة بلا حول ولا وقوة (غيتي)

"غير مقبول ولا يمكن تحمله"، بهذه الكلمات وصف رئيس جمعية الطب البريطانية البروفيسور فيل بانفيلد وضع هيئة الخدمات الصحية البريطانية. إنها أزمة شاملة، إذ يموت ما يصل إلى 500 شخص أسبوعياً من دون داع بسبب الاكتظاظ والتأخير في أقسام الحوادث والطوارئ.

ليس الأمر مجرد خلل في الخدمة أثناء فصل الشتاء، فمنذ سنوات ونحن على هذه الحال. لقد نجم عن جائحة كوفيد-19 تصدعات عميقة في قدرة الخدمة الصحية الوطنية على الصمود لتجد الحكومة نفسها فجأة بلا حول ولا وقوة بعد أن كانت خفضت تمويل هيئة الخدمات الصحية البريطانية خفضاً منهجياً عبر سنوات مما جعل الهيئة هشة وضعيفة. وقد جاءت استجابتها الطارئة لصالح ضخ الأموال في جيوب المانحين والمقربين من الحكومة، وتركت هيكل الخدمة الصحية من دون إصلاح.

في بلد متعقل – وحتى في عديد من البلدان غير المتعقلة – فإن من شأن موت الأشخاص وهم ينتظرون على الكراسي النقالة في ممرات المستشفيات بينما يظفر مانحو الحزب الحاكم بملايين الجنيهات الاسترلينية إسقاط الحكومة.

ومع ذلك فإن بعض أقسام الصحافة وحزب المعارضة التزموا الصمت بنحو غريب هنا، لم يغيبوا تماماً، فما تزال وسائل الإعلام حاضرة والأزمة تحظى بالتغطية، ولكن من دون الغضب العارم المتأجج الذي تشتهر به الصحافة البريطانية. ما يضعف من انتقادات المعارضة افتقارها إلى خطة بديلة وعدم قدرتها المرضية على ذكر أوضح وأهم حقيقة وهي أنه لا يمكن إصلاح هذا الوضع من دون إنفاق المال، كثير منه. سيكون الأمر باهظ الثمن على المدى القصير ولربما أكثر كلفة على المدى الطويل، ما من حل وسط للمسألة. 

وعلى رغم كل الحديث عن "أشجار المال السحرية"، لا تزال هناك بعض الحقائق الأساسية بخصوص كل شيء. إذا كنت تريد المستشفيات، عليك أن تشتريها، عليك أن تدفع للحفاظ على تشغيلها، وعليك أن تدفع لتوظف أناساً فيها. هذا ليس "تفكيراً سحرياً" مثلما قد يراه بعض النقاد المتعاقلين، هذا نوع من التفكير في الأساسيات، ألف باء المنطق السليم الواضح للجميع. لا يمكن لجميع المخططات الذكية ومدخرات الكفاءة ومخططات إعادة التنظيم في العالم أن تجعلك تلتف على حقيقة أن العمل عمل وأن له من الكلفة ما له، لا يمكنك أن تحلب تيساً.

إلا أن الأعذار تأتي بشتى أصنافها، يقولون لنا إن هيئة الخدمات الصحية البريطانية لا تصلح لغرضها وأنها ضعيفة في أساسها وهذا هو السبب في فشلها، مع كل الاحترام الواجب، هذا محض هراء. يشبه هذا أن يخبرك أحدهم وهو يحمل مطرقة ثقيلة مغطاة بغبار من الطوب أن التحليل الهيكلي الذي أجراه للتو لمنزلك يكشف عن أن جميع الجدران بها ثقوب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لقد تواصلت عملية هدم هيئة الخدمات الصحية البريطانية على مدى 40 عاماً بأيدي أولئك الذين أوكلت لهم مهمة رعايتها، وقد بذلت الحكومات المتعاقبة كل ما في وسعها في ذلك الهدم وفي فتح أية ثغرة يمكن من خلالها إدخال مشغل خاص للهيئة. لقد أعيد تنظيمها وأعيدت هيكلتها وأعيد تسويقها وتقطيع أوصالها وتجفيف مصادر تمويلها، وها هي تترنح الآن على حافة الفشل، لكن بالله عليكم، ألم يكن هذا ما أرادوه من وراء كل ما فعلوه؟

بعيداً من إثبات الضعف في أساس الهيئة، أود أن أضع أمامكم حقيقة أن الهيئة لم تنهر بعد كل ما فرض عليها من متاعب، وهي الحقيقة التي تظهر مدى قوتها المذهلة بصراحة. لن يكون النظام الصحي الأقل مما لدينا سوى جثة تتلقفها نسور الأسهم الخاصة الأميركية لنهشها.

وثمة طبقات من اللوم هنا، بالطبع هناك من ألحق الضرر، أولئك الذين شرعوا في تفكيك النظام الصحي في هذا البلد لأسباب تتعلق بالخبث أو الفساد أو الأيديولوجية أو الغباء أو مزيج من هذا كله، واليد التي تحمل السكين تتحمل الجرم الأكبر.

لكن هناك أيضاً المتواطئون، الذين أداروا التدخل حين قالوا لنا إنه ليس هناك بديل و أن مجرد "استثمار مزيد من المال" كانت فكرة غبية لأطفال حمقى. أخبرونا أن ما نراه واضحاً لن ينجح، وأن سذاجتنا منعتنا من رؤية أننا في الواقع بحاجة إلى خطة معقدة بشكل لا يصدق مع كثير من مستشاري الإدارة. أخبرونا أن المشكلة هي أن كثير من الأجانب يستخدمون هيئة الخدمات الصحية البريطانية، بعد ذلك أخبرونا أن كثيراً من الأجانب يعملون فيها. أخبرونا أن مسألة دفع عجلتها ستكون باهظة الكلفة.

وعندما أشرنا بالبنان إلى أن الناس في أوروبا يحصلون على نتائج أفضل من خلال الاستراتيجية الغامضة المتمثلة في "إنفاق مزيد من المال"، أخبرونا أن هذا ببساطة ليس ناجعاً هنا لسبب ما.

وسواء قدمت الفكرة بشكل جذاب أو في هيئة كراهية الأجانب المحرجة، أو بسلوك المحاسب الكئيب، فإن الرسالة كانت متسقة. أخبرتنا فرق التحرير في بعض الصحف وكذلك مقدمو البرامج ومراكز الفكر وأطباء الدوران السياسي أن آخر شيء يمكننا فعله هو فرض ضرائب على أشخاص مثلهم وإنفاق هذه الأموال على الرعاية الصحية والاجتماعية. لقد كان هناك دائماً سبب للتذرع بأن ذلك لن ينجح. 

البروباغندا لا تعمل على الفور، فلا أحد يرى ملصقاً يعلن: "صوتوا من أجل تدمير الخدمة الصحية" ثم يقول في نفسه "بالضبط، يا لها من فكرة جيدة!"، البروباغندا تعمل تدريجاً على مدى سنوات وعقود من خلال التكرار المستمر ومن خلال ثني الطرق البديلة للتفكير، إنها تغمر السكان بكذبة حتى يغرقوا فيها في نهاية المطاف.

وكما هي الحال دائماً، هناك نوعان من الأشخاص المتورطين في مخطط تخريب هيئة الخدمات الصحية البريطانية، نوع بقصد المتعة وآخر بهدف الربح. ثمة أولئك الذين يعتقدون حقاً أنه ينبغي بيع الهيئة للقطاع الخاص من أجل "إطلاق العنان لديناميكية السوق" أو أياً كان، وأولئك الذين يعرفون أن هذا محض هراء لكنهم يرغبون في كسب أموال طائلة عن طريق بيع أصول الدولة لخلانهم.

وكذلك الحال بالنسبة إلى المتواطئين، فهم يحاولون حتى قول إن كل شيء مستحيل باستثناء الأشياء غير المجدية، وأنا لا أستطيع التحدث عن دوافعهم الواعية، فهؤلاء أيضاً من منتجات البروباغندا فضلاً عن كونهم من مروجيها. سيكون هناك كثر ممن يؤمنون حقاً بأننا لا نستطيع أن نفعل الأمر البسيط الناجع، وعلينا أن نفعل الأمور المعقدة التي لا تنفع، لأنهم عاشوا في عالم كانت فيه هذه القناعة مقدسة لعقود ولم يخطر ببالهم أبداً أنها قد تكون قناعة خاطئة. كما سيكون هناك بعض الذين يعرفون بالضبط ما يجري ولكنهم يعلمون أيضاً من أين تؤكل الكتف. 

وكما يحدث عادة، لا يهم حقاً أي الناس هم المؤمنون الحقيقيون وأيهم المستفيدون الساخرون، ولسنا بحاجة إلى أن نرى خفايا صدورهم بشأن هذا الأمر، إلا أن التبعات كلها متشابهة. 

ولكن إذا سمحت لنفسي بشيء من التكهنات فأظن أنه في أدمغة كثير من هؤلاء السحالي الضالعين في هذه الفوضى، في الجزء الذي يتعرف على ظل النسر على الأرض فيجري للاختباء تحت صخرة، هناك شعور متزايد بعدم الارتياح. إذا بدأنا في القيام بأشياء بسيطة كبيرة ونجحت، فإن الأشخاص الذين أمضوا 40 عاماً يقولون لنا إنها لن تنجح سيبدوون مثل البلهاء أو الوحوش – أو كلاهما.

فآخر ما يريدون أن يفعله الناس هو النظر إلى الكوارث المتشابكة التي تتكشف من حولهم والبدء في التساؤل "لماذا قلتم لنا أن هذه هي الطريقة الوحيدة؟".

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من آراء