Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الدماء تلطخ وجه الأسفلت العربي

عدم ترك مسافة آمنة السبب الأول في حوادث السعودية و"أولوية المرور" عبارة دائمة في مصر وتردي الطرق يفاقم مآسي السودان وترتيب صادم لتونس والثقافة غائبة عند الجميع

الخسائر المالية الناجمة عن الحوادث المرورية في السعودية تقدر بـ21 مليار ريال (5.59 مليار دولار) سنوياً (وزارة الداخلية السعودية)

لا يكاد يخلو بيت في العالم العربي من تراجيديا فقد عزيز أو قريب في حادثة سير، كما لا يمر عام إلا ويجتمع المعنيون بالسلامة على الطرق، وفي أقوال أخرى، المسؤولون عما يجري من مآس، لمناقشة سبل الأمان على الطريق. ففي شهر مايو (أيار) الماضي اجتمع وزراء الداخلية العرب للاحتفاء بـ "أسبوع المرور العربي" تحت عنوان "مرور آمن ومتطور"، لكن خارج قاعة الاحتفال كان مرور الوطن أبعد ما يكون عن الأمن أو التطور.

ويبدو الاهتمام بحوادث السير ونزف الأسفلت والسلامة على الطريق وكأنه حديث مخملي لا طاقة به لدول تعيش في ظروف استثنائية، والشعور بالأسى لملايين الأسر التي فقدت عائلها أو صغيرها أو أحد أفرادها في حادثة مميتة يتوقف عند حدود طلب الرحمة والدعاء بالمغفرة، أما البحث عن المسؤول لمعاقبته أو التنقيب عن السبب لعلاجه فرفاهية لا يجدر مجرد التفكير فيها، فما بالك بتفعيلها؟

جانب من الحكم على ما يجري في الطرق يأتي من الأرقام، فبحسب "منظمة الصحة العالمية" فإن الإصابات الناجمة عن حوادث المرور هي السبب الأول لوفاة الأشخاص في الفئة العمرية من 15 إلى 29 عاماً، ومجموع الأرواح التي تزهق على الطريق سنوياً لا يقل عن 1.3 مليون نصفهم على الأقل من "مستخدمي الطرق سريعي التأثر" أي المشاة وراكبي الدراجات الهوائية والنارية.

وتحتفظ الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط لنفسها بـ90 في المئة من الوفيات الناجمة عن حوادث المرور على ظهر الكوكب، على رغم أنها لا تملك إلا 45 في المئة من مركبات الأرض، فما الحال في الدول العربية؟


لبنان... أزمة المعيشة تقلل الحوادث

تطور كبير في لبنان حدث على صعيد السلامة المرورية، إذ واقعها يختلف عما يجري في الدول المجاورة، وصحيح أن الجائحة بكل ما لها من سلبيات قد انعكست إيجاباً على هذا الجانب، إذ أسهمت في انخفاض معدلات حوادث السير لا في لبنان وحسب بل في مختلف دول العالم، مع تراجع معدلات التنقل على الطرقات، إنما للبنان وضع خاص في ظل الأزمة الخانقة التي انعكست على مختلف الجوانب الحياتية.

وفي مقارنة بين معدلات حوادث السير عام 2014 وتلك التي حدثت عام 2021، تظهر الأرقام أن عدد حوادث السير بلغ نحو 5 آلاف حادثة عام 2014، فيما بلغ عدد القتلى 657 وعدد الجرحى 6463.

أما في عام 2021 فبلغ عدد حوادث السير 2648 حادثة مخلفة 375 قتيلاً ونحو 3 آلاف مصاب، أي أن معدل حوادث السير تراجع بنسبة 46.03 في المئة، بحسب ما تظهره أرقام غرفة التحكم المروري.

وبحسب مصدر أمني فعلى رغم التداعيات السلبية الكثيرة للجائحة، إلا أنها انعكست إيجاباً على السلامة المرورية، كما جاءت الأزمة الخانقة التي تمر بها البلاد لتترك أثرها الإيجابي أيضاً في هذا المجال، خصوصاً في العام الحالي مع تراجع حركة التنقل بسبب ارتفاع أسعار المحروقات وزيادة معدلات البطالة وتراجع معدلات التحرك للذهاب إلى العمل، إضافة إلى هجرة الشباب، وهي الفئة التي تميل إلى التنقل بمعدلات كبرى، حتى إن ارتفاع أسعار الكحول انعكس إيجاباً أيضاً وأسهم في الحد من حوادث السير الناتجة من استهلاك الكحول والسرعة، ويشار إلى أن معدلات حوادث السير ترتفع بشكل خاص بين الشباب وهم الفئة الأكثر انتقالاً وميلاً إلى القيادة السريعة.

ويبدو أن المرأة أقل مشاركة في حوادث السير كونها تتأنى أكثر في القيادة وعادة ما تكون أكثر انضباطاً والتزاماً بقوانين السير، وإن كانت تميل إلى استخدام الهاتف الخلوي بمعدل أكبر مما يعرضها لحوادث السير أحياناً.

أما المناطق التي تزيد فيها حوادث السير بشكل خاص فهي تلك التي في محافظة جبل لبنان، ويرتبط ذلك بالكثافة السكانية وزيادة حركة السيارات والتنقل.

وعكس ما يظنه بعضهم فإن معدلات حوادث السير الخطرة تتراجع في الشتاء، إذ يخفف قادة السيارات السرعة لظروف الطقس، فيما تزيد صيفاً بسبب زيادة التنقل والميل إلى السرعة، كما تزيد معدلات الوفيات الناجمة عن السرعة في فصل الصيف.

وقد تكون الأزمة خففت فعلاً من معدل التنقل، إنما في الوقت نفسه انعكست سلباً على حال الطرقات، فالإهمال الذي طاول قطاعات عدة في البلاد انعكس أيضاً على حال الطرقات التي تحتاج إلى صيانة يومية ضمن المعايير المطلوبة لسلامة المرور، وازداد الوضع سوءاً في عام 2022  فزاد ذلك من خطر الاصطدامات لعدم قيام وزارة الأشغال العامة والنقل بأية أعمال صيانة للطرقات وتوفير الإنارة اللازمة للحيلولة دون ذلك.

حادثة السير التي راح ضحيتها الفنان جورج الراسي قبل أشهر قليلة أحدثت ضجة واسعة، لاعتبار أنه وقع نتيجة إهمال من قبل وزارة الأشغال العامة والنقل لتركها حاجزاً أسمنتياً على طريق سريع من دون إنارة، وهذا ما دفع الفنانة ماجدة الرومي إلى القيام بمبادرة لتأهيل الطريق الدولي بين لبنان وسوريا الذي أطلقت عليه تسمية "طريق الموت" تحت إشراف فوج الهندسة في الجيش اللبناني، وتم بالفعل اتخاذ إجراءات احترازية لتجنب تكرار مثل هذه الحوادث.

الراسي لم يكن أول من يتعرض لحادثة سير قاتلة على هذا الطريق السريع، بل سبقه كثيرون، لكن لأنه فنان فقد أثيرت ضجة واسعة.

ويشار إلى أن الأرقام والإحصاءات في لبنان حول أعداد الوفيات الناتجة من حوادث السير قد لا تكون دقيقة، إذ لا يتم رصد الجرحى الذين يتوفون متأثرين بإصاباتهم.

 

وبحسب مؤسس جمعية "اليازا" زياد عقل، وهي الجمعية التي تعمل على تفادي حوادث السير ونشر الوعي، فإنه مع حلول موسم الشتاء وفي ظل الأزمة التي تعصف بالبلاد فليست الطرقات وحدها التي تعاني الإهمال وعدم الصيانة، بل إن سيارات المواطنين غير مؤهلة بسبب الوضع المعيشي الصعب، وتراجع القدرة المادية للبنانيين، كما أوقفت وزارة الداخلية المعاينة الميكانيكية الإلزامية للسيارات من يونيو (حزيران) الماضي مما يهدد بارتفاع مؤشر حوادث السير خلال المرحلة المقبلة.

يقول عقل، "ارتفاع أسعار المحروقات كان له أثر إيجابي في الحد من حوادث السير بسبب تراجع قدرة الناس على التنقل، وذلك على رغم الوضع الكارثي للطرقات والسيارات وفي ظل غياب شبه كامل لتطبيق القانون".

وتتفاقم الأخطار على الطريق بسبب سرقة أغطية "الريغارات" (البالوعات) بعد انفجار مرفأ بيروت، وتبين وجود عصابة تسرقها وتصدرها إلى خارج لبنان، وقد تقدمت "اليازا" بدعوى أمام النائب العام التمييزي لما يشكله ذلك من خطر على السلامة المرورية في لبنان.

الأردن... فاتورة باهظة لحوادث الطرق

يدفع الأردن فاتورة باهظة على حوادث الطرق بمعدل وفيات سنوية تقارب 700 شخص، وحوادث مرورية تناهز 150 ألف حادثة وكلفة تقارب 450 مليون دولار من دون أن تجد السلطات المعنية حلاً جذرياً، وفيما تتلقى الحكومات في الغالب وزر ما يحدث من مجازر مرورية، يرى مراقبون أن ثمة أزمة أخلاقية تتمثل في عدم الالتزام بالقواعد المرورية وتجاوز للسرعة المقررة واستخدام الهاتف أثناء القيادة، وهو ما يحيلها إلى رحلات ذهاب بلا عودة.

ويصنف الأردنيون ضمن أكثر الشعوب امتلاكاً للمركبات الخاصة لشيوع ثقافة التملك والاستهلاك من جهة، إضافة إلى عدم وجود نظام نقل أو مواصلات عام موثوق فيه.

ويعد الاختناق المروري اليومي في العاصمة عمّان من بين أبرز أسباب حوادث السير في البلاد، إذ تدخل عمّان يومياً 160 ألف سيارة في ساعات الذروة الصباحية والمسائية من تسعة مداخل ومن المدن الأخرى، فضلاً عن مليون سيارة موجودة فيها أصلاً.

ويقول مدير إدارة السير المركزية فراس الدويري إن مديريته تتعامل مع ستة ملايين حركة مرورية يومياً في العاصمة بسبب زيادة كبيرة جداً في عدد السيارات سنوياً بواقع 80 ألف سيارة، في حين بلغ عدد المركبات الكلي 2 مليون سيارة وناهز عدد السائقين الـ 3 ملايين شخص.

وفي عام 1986 كان لكل 12 مواطناً مركبة واحدة، أما في عام 2021 فأصبح لكل خمسة مواطنين مركبة، مع بقاء البنية التحتية على ما هي عليه طوال هذه السنوات.

أما الثقافة المرورية فتبقى أكبر الغائبين، ويرى مراقبون أن الأزمات المرورية في معظمها أزمة أخلاق وانضباط مروري، وهو ما يتجلى بشكل واضح في سلوكيات متهورة وخطرة على الطرقات.

وتشير "جمعية السلامة المرورية" إلى وجود خلل كبير في المنظومة المرورية، واعتبرت أن ظاهرة استخدام الهاتف المحمول أثناء القيادة باتت أقرب ما تكون إلى الإدمان، لا سيما من قبل السيدات، فضلاً عن مخالفات أخرى مثل التجاوز الخاطئ والمستهتر والقيادة بسرعة جنونية.

ومع وجود نحو مليوني مركبة في الأردن، باتت الأساليب التقليدية غير قادرة على ضبط الازدحام والفوضى التي تعانيها شوارع العاصمة يومياً، وبدت آليات الرقابة المرورية الذكية أكثر قدرة ومرونة ومن بينها استخدام طائرات "الدرونز".

بلغة الأرقام وبحثاً عن حلول، يقول وزير النقل السابق وجيه عزايزة إن زيادة حافلات النقل العام من شأنها تقليص عدد السيارات بواقع 150 ألف سيارة خاصة، كما أن تحديد ساعات العمل بين الثامنة صباحاً والخامسة مساء قد يسهم في تقليل عدد الحوادث، فثمة حادثة مرورية تقع كل خمس دقائق تقريباً في الأردن، وحادثة دعس تقع كل ساعتين، ويصاب شخص كل 35 دقيقة، في حين تتسبب الحادثة المرورية بوفاة واحدة كل 19 ساعة، فيما 60 في المئة من حوادث السير سببها استخدام الهاتف المحمول.

 

 

ويواجه السائقون الذين يستخدمون الهواتف المحمولة أكثر من غيرهم بأربع مرات أخطار التعرض إلى حادثة مرورية، والأمر لا يقتصر على الرد على الهاتف بل يصل إلى تصفح بعضهم منصات التواصل الاجتماعي وإرسال الرسائل النصية خلال قيادتهم.

وتقدر إدارة ترخيص السائقين والمركبات عدد النساء الحاصلات على رخص قيادة بنحو 650 ألف سيدة، مع ارتفاع لافت لعدد الحاصلات منهن على رخصة قيادة الدراجات النارية.

ويؤكد مركز "تضامن" للنساء أن ثمة صورة نمطية غير صحيحة عن قيادة النساء، تتركز في معظمها على أنهن لا يجدن القيادة ويتسببن في كثير من الحوادث المرورية.

ويقول المدير التنفيذي للجمعية منير دعيبس أن "هذه الآراء فيها إجحاف وتجن على النساء من دون مبرر أو دليل واقعي وملموس، وتنطوي في مجملها على تغليب الثقافة المجتمعية السلبية المسيئة إلى النساء"، مشيراً إلى أن البيئة الاجتماعية معادية للنساء السائقات، إذ يحاول عدد من الذكور مضايقتهن أو وضعهن في مواقف محرجة أو التعبير لهن عن الاستياء من قيادتهن.

وبعيداً من الخسائر الاقتصادية لحوادث السير في الأردن والتي تقارب 500 مليون دولار سنوياً، ثمة ممارسات اجتماعية غريبة باتت تشكل عبئاً أكبر على المجتمع، وتتجاوز القوانين في كثير من الأحيان، فبعضهم يرى أن التعويضات الضخمة التي يطالب بها المتضررون وذووهم تحول الجناة أحياناً إلى ضحايا للجشع.

وتتفاقم ظاهرة يسميها بعضهم "الحوادث المفتعلة"، وقدّرتها إدارة السير والمرور العام الماضي بـ119 حادثة، بينما استقبلت المحاكم النظامية الأردنية نحو 600 قضية خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، لحوادث سير مفتعلة بحثاً عن تعويضات مالية من شركات التأمين.

السعودية... خسائر مليارية تنزف على الطرقات

تبقى الخسائر الأفدح بشرية، لكن الخسائر المالية أيضاً فادحة في السعودية، إذ قدرت إحصاءات إدارة المرور التابعة لوزارة الداخلية الخسائر المالية الناجمة عن الحوادث المرورية بـ21 مليار ريال (5.59 مليار دولار) سنوياً.

وأوضحت الإدارة عبر الصفحة الرسمية لموقعها على الإنترنت أن معدلات فاقد الناتج الوطني بسبب تلك الحوادث يبلغ 4.7 في المئة، وقارنت تلك النسبة بدول أخرى مثل الولايات المتحدة الأميركية وأستراليا وبريطانيا التي لا يزيد نسب الفاقد من الناتج الوطني فيها عن 1.7 في المئة.

ولفتت إلى أن أكثر من خُمس الحالات التي أسعفها "الهلال الأحمر" هي حوادث مرورية، ويبلغ حجم الإصابات ست إصابات لكل ثمانية حوادث، في حين أن المعدل العالمي إصابة واحدة لكل ثمانية حوادث.

وفي السياق ذاته قال وزير الداخلية الأمير عبدالعزيز بن سعود إن "نسبة أعداد الحوادث الجسيمة خلال السنوات الماضية انخفضت بنسبة 34 في المئة، كما تراجعت أعداد الوفيات المرورية بنسبة 51 في المئة، فقد كانت سابقاً 28 وفاة لكل 100 ألف نسمة، لتصبح أخيراً 13.5 وفاة لكل 100 ألف نسمة".

وأوضح أن حكومة السعودية أولت عنايتها للسلامة المرورية وجعلتها ضمن رؤية 2030، وقال "بالعمل المؤسسي بين الجهات ذات العلاقة لإنجاز ذلك، أسهمت المهنية العالية في تحقيق كفاءة الضبط المروري والتوظيف الأمثل للتقنية".

 

مدير إدارة السلامة والصحة المهنية وسلامة العمليات بمصفاة "أرامكو" السعودية منصور المغامسي يرى أن من أهم أسباب الحوادث المرورية السرعة، وذلك لأنها تجعل السائق يفقد السيطرة على المركبة بشكل كامل، بينما قال المحكّم في هيئة المهندسين السعوديين سعود الدلبحي إن 90 في المئة من حوادث التصادم في الطرقات تحدث لعدم وجود المسافة الآمنة.

وأدخلت إدارة المرور عدداً من التعديلات على نظامها مستهدفة السلوكات التي ثبتت علاقتها المباشرة بوقوع الحوادث المرورية الخطرة وذلك بهدف خفضها، وتوضيح قواعد التفويض لقيادة المركبة والحالات التي يترتب عليها الحق العام عند وقوع الحوادث المرورية، وإجراءات الاعتراض على المخالفات وجعله إلكترونياً، والضوابط المقررة لبيع المركبات التالفة أو أجزائها.

المغرب... العامل البشري هو السبب

كلفة أخرى لا تقل فداحة تأتي من المغرب حيث النزف على الطرق مستمر، فبحسب وزير النقل واللوجيستيك المغربي محمد عبدالجليل فإن حوادث السير تؤدي سنوياً إلى مصرع 3500 شخص، و12 ألف إصابة خطرة، بينها عاهات وإعاقات جسدية، وذلك بمعدل 10 ضحايا و33 إصابة خطرة يومياً.

وتفيد أرقام الوكالة الوطنية للسلامة الطرقية أنه في سبتمبر (أيلول) 2021 سجل المغرب نحو 10.028 حادثة سير، وهو ما يشكل زيادة بنسبة 18.6 في المئة مقارنة مع الشهر نفسه من 2021 ونسبة 13.8 في المئة مقارنة بالشهر نفسه عام 2019.

ويقول مدير قطب التواصل والتربية والوقاية الطرقية في الوكالة الوطنية للسلامة الطرقية عبدالصادق معافة إن عدد الوفيات والإصابات على الطرق مقلق على رغم كل الجهود المبذولة من الجهات المسؤولة عن هذا الملف، وأشار إلى انخفاض معدلات الحوادث أثناء الجائحة، لكنه كان انخفاضاً موقتاً وسرعان ما عادت الأمور لفداحتها بعد عودة حركة التنقل إلى سابق عهدها.

الدولة من جهتها تحاول مواجهة نزف الطرق بالعمل على استراتيجية وطنية مدتها 10 سنوات بدأت عام 2017 وتنتهي عام 2026، والهدف المرجو هو خفض عدد الوفيات على الطريق إلى النصف، لكن حتى الآن وعلى رغم مرور نصف المدة لا يزال عدد حوادث السير مرتفعاً.

وتعزو الجهات المسؤولة ارتفاع حوادث السير إلى العامل البشري، وهو ما سبق أن صرح به أكثر من وزير للنقل في الحكومة، أحدثهم وزير النقل السابق عبدالقادر إعمارة الذي أكد غير مرة أمام نواب البرلمان أن العامل البشري هو الأكثر تسبباً في "حرب الطرقات".

من جهتها تلخص مديرية الأمن الوطني عوامل وقوع الحوادث بـ "عدم انتباه السائقين والمشاة وعدم احترام أسبقية المرور والسرعة المفرطة وعدم ترك مسافة الأمان وتغيير الاتجاه من دون إشارة وفقدان القدرة على التحكم وعدم احترام علامات وإشارات السير، إضافة إلى القيادة تحت تأثير الكحول".

 

 

الناشط النقابي في قطاع النقل وسائق سيارة أجرة بركات أفضيل يتحدث عن عوامل ربما يعرفها الجميع، لكن قلما يتحدث عنها أحد، ويقول إن هناك أسباباً أخرى أكثر تسبباً لحوادث السير، لكن لا يمكن الإشارة إليها رسمياً، من قبيل الضغوط الاجتماعية التي يعيشها السائق، خصوصاً سائقو الحافلات أو سيارات الأجرة.

ويضيف أن ارتفاع الأسعار وتعقد الحياة اليومية وكلفها ومشكلات الأسرة كثيراً ما تدفع السائق إلى التصرف بعصبية، مما يجعله يرتكب أخطاء قد تفضي إلى حوادث سير، إضافة إلى تردي الحال الميكانيكية للسيارات وانتشار الحفر في الطرقات.

وحرب الطرقات مثل أي حرب أخرى تؤدي إلى قتلى ومصابين، كما تتسبب في أزمات نفسية لمن يتعرضون إليها، ويقول عبدالله لمريس وهو موظف في القطاع الخاص، إنه احتاج مساعدة طبيب نفسي مدة سنتين بعد أن تسبب في قتل امرأة وطفلها بسبب السرعة المفرطة.

ويتذكر أنه يومها كان يقود بسرعة لارتباطه بموعد في العمل، لكنه فوجئ بسيدة وطفلها يقطعان الشارع وجرى ما جرى، وفقد عمله لأنه اضطر إلى ملازمة الأطباء النفسيين لإخراجه من الاكتئاب والشعور بالذنب.

أما الكلفة الاقتصادية فتشير إلى 1.7 في المئة من الناتج المحلي، بحسب ما أكده وزير النقل المغربي محمد عبدالجليل.

وعن الكلفة الاجتماعية تقول الباحثة في علم الاجتماع ابتسام العوفير إن أقسى ثمن لحوادث السير هو فقدان الأسرة أحد أفرادها صغيراً كان أو كبيراً، بخاصة إذا كان هو المعيل للأسرة، إذ قد يفضي ذلك إلى تشردها وتشتتها أو اضطرار الأطفال أو الزوجة للخروج إلى العمل لضمان لقمة العيش، وهو ما يفاقم الكلفة الاقتصادية إضافة إلى العبء النفسي والصحي، تقول العوفير إن "الندوب الاجتماعية والنفسية التي تتركها حوادث السير القاتلة أو الخطرة داخل الأسرة تحفر في ذاكرتها".

الجزائر... تهور السائقين الشبان

من الجزائر يتحدث نذير (41 عاماً) عن حادثة قلبت حياته رأساً على عقب، عندما انقلبت سيارة كان يستقلها مع أصدقائه أثناء توجههم من العاصمة في رحلة صوب الصحراء، "فقد السائق التحكم في السيارة فانقلبت بنا ولقي السائق وأحد أصدقائي حتفهما، أما أنا فقد مكثت في المستشفى شهرين وتم بتر ساقي، وكثيراً ما تطغى عليّ مشاعر اليأس والإحباط بسبب العجز الجسدي، لكني أتمسك بخيط أمل وأقول للسائقين لا سيما الشباب، أنصحكم بعدم السرعة في القيادة لأن العواقب وخيمة".

وسجلت الجزائر طفرة في عدد حوادث السير هذا العام، وهو ما دفع السلطات إلى التحرك بشكل عاجل لوضع حلول، إذ وصل متوسط عدد القتلى أسبوعياً إلى نحو 40 شخصاً.

وفي محاولة لخفض الحوادث وردع تهور السائقين، شددت العقوبة في مخالفات السرعة المفرطة أو المناورات الخطرة في الطرق، أو عدم استيفاء الشروط التقنية والمراقبة الفنية للسيارات.

وأفادت المندوبية الوطنية لأمن الطرق بأن "الجزائر سجلت خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الحالي 18 ألفاً و267 حادثة مرورية أدت إلى وفاة 2575 شخصاً".

والفئة العمرية الأكثر تورطاً في الحوادث هي المتراوحة أعمارها بين 18 و29 عاماً، إذ يشكلون نحو 35 في المئة من إجمال حوادث السير.

وأمام الزيادة الكبيرة في نزف الطرق، انعقد اجتماع لمجلس الوزراء في سبتمبر (أيلول) الماضي بغرض إدراج عدد من المخالفات المرورية ضمن خانة الجرائم المستوجبة تغليظاً للعقوبة، وقال الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون في الاجتماع إن "حوادث المرور تتطلب حلاً رادعاً نظراً إلى استفحالها في الآونة الأخيرة".

وتضمنت القرارات الجديدة تشديد العقوبات ضد المتورطين في تسليم رخص القيادة لغير المؤهلين، في إشارة إلى المدارس التي تتساهل في اختبارات تسليم شهادات القيادة، إذ يحصل بعض الشباب على الشهادة في مقابل رشاوى من دون خضوعهم للتدريب والاختبار اللازمين.

 

وفي الجزائر كغيرها من الدول فإن المتهم الأول في حوادث السير هو العنصر البشري بنسبة 96 في المئة، حيث عدم احترام قانون المرور وعدم التقيد بمسافة الأمان والإفراط في السرعة والإرهاق وعدم التركيز عند القيادة، إضافة إلى أسباب أخرى متعلقة بالمركبة.

وشرح رئيس الأكاديمية الجزائرية للسلامة المرورية والأمن عبر الطرق علي شقيان في حديثه إلى "اندبندنت عربية" مجموعة من الأسباب التي فاقمت ظاهرة إرهاب الطرق في الجزائر خلال السنوات الأخيرة، وعلى رأسها العامل البشري الذي لا يكلف الجزائر فقط الخسائر البشرية الفادحة، بل تقدر كلفتها المادية بنحو 100 مليار دينار جزائري (732 مليون دولار)، تخصص للاعتناء بالمصابين والتعويضات.

وقال إنه على رغم أن نسبة الدراجات النارية من مجموع المركبات في الجزائر لا يتجاوز 12 في المئة، إلا أنها مسؤولة عن 20 في المئة من حوادث المرور، لا سيما أن كثيرين ممن يقودونها يؤدون مناورات خطرة على الطرق ومنها ما يؤدي إلى حوادث مميتة.

ويقول الباحث الدولي في السلامة المرورية أمحمد كواش لـ "اندبندنت عربية" إن عام 2022 كان الأكثر دموية في حوادث المرور في الجزائر بعد عامين من الانخفاض بسبب الوباء، وأشار إلى أن البلاد تشهد سنوياً أربع ذروات لحوادث المرور، وهي بداية العام الدراسي والتقلبات الجوية ورمضان والصيف.

ويضيف كواش أن "حوادث المرور ليست مجرد أرقام تقيد في محاضر، إنما هي آلام وأحزان وإعاقات وأرامل وأيتام وخسائر مادية تضاهي أحياناً موازنة بعض الدول"، مطالباً بتصنيف حوادث المرور كملف صحي لا أمني فقط نظراً إلى الكلفة الباهظة التي يتكبدها القطاع الصحي.

وعن الاتهامات الكلاسيكية للمرأة بأنها تتسبب في وقوع الحوادث، يرد كواش الاعتبار المفقود إلى المرأة قائدة السيارة فيقول إن المرأة تختلف بالفعل عن الرجل في القيادة، وذلك لأن الإناث يحرصن على تعلم القيادة بشكل منضبط مقارنة بالذكور الذين يبحثون عن الحصول على الرخصة بسرعة ومن دون مراعاة الإتقان والتدريب، إضافة إلى أن العامل الفسيولوجي والنفسي للمرأة يدفعها إلى القيادة بحذر والاهتمام بجمال وصيانة المركبة، وفي معظم الأحوال تحترم المرأة قوانين المرور أكثر من الرجل.

ويؤكد أستاذ علم النفس في جامعة سطيف سليم كفان لـ "اندبندنت عربية" أن العوامل النفسية تلعب دوراً مهماً في ارتكاب السائقين الحوادث المروية، موضحاً أن "انفعالات السائق المزاجية تنعكس سلباً على قيادته، مثل القلق والعدوانية والاضطرابات النفسية التي يعانيها بسبب الضغوط والإحباطات في محيط الأسرة والعمل".

ويضيف كفان عاملاً مهماً لأسباب وقوع الحوادث وهو حب المغامرة لدى بعض الشباب الذين يضعون ثقة زائدة على الحد في السيارات الحديثة التي تعطيهم إحساساً كاذباً بأنهم يقودون طائرات لا سيارات.

تونس... "طائرات" على الطرق 

تحتل تونس المرتبة 138 بين 180 دولة من حيث السلامة على الطريق، والأسباب كثيرة ولا تختلف في معظمها عن بقية الدول العربية حيث فواجع السير لا تتوقف، وعلى رغم مرور ثلاث سنوات لا يزال التونسيون يتذكرون فاجعة عمدون (محافظة باجة شمال غربي تونس) التي أسفرت عن مصرع 33 شاباً وشابة وإصابة 13 آخرين بسبب انقلاب حافلة.

هذه الفاجعة المحفورة في ذاكرة التونسيين دليل دامغ على أن طرقات تونس غير آمنة ومحفوفة بالأخطار، فالبنية التحتية وشروط السلامة المرورية لا تحترم، كما لا يتم تطبيق القوانين.

الحافلة المنكوبة التي حصدت أرواح العشرات من الشباب، وبحسب تقرير رسمي، لم تكن مؤهلة للسفر، وهي واحدة ضمن مئات غيرها تسير على الطرق يومياً.

 

 

وبحسب إحصاءات المرصد الوطني للسلامة المرورية التابع لوزارة الداخلية التونسية بلغ عدد حوادث المرور بين عامي 2011 و2020 أكثر من 80 ألف حادثة، خلفت أكثر من 13 ألف قتيل و110 آلاف جريح، أي بمعدل 1300 قتيل سنوياً، وجرى تسجيل 5 آلاف حادثة سير هذا العام أسفرت عن مقتل 938 شخصاً.

ويقول خبير التعويضات عن حوادث المرور وعضو المجلس التنفيذي للجمعية التونسية للوقاية من حوادث الطرقات أشرف اليحياوي إن معدل أعمار ضحايا الطرقات في تونس 22 سنة، ومعظم المتضررين من الذكور وينتمون إلى فئات اجتماعية هشة ومن ذوي الدخل المتوسط أو المتدني.

وأشار إلى أن أكثر من 36 في المئة من قتلى حوادث الطرق من قائدي الدراجات النارية التي تعتبر أكثر عرضة للحوادث، بسبب عدم احترام السائقين لقوانين الطرقات وعدم ارتداء الخوذة الواقية وأيضاً فمعظم ركابها من الشباب وحتى الأطفال.

وتحتل العاصمة تونس الصدارة في نسبة حوادث السير القاتلة، تليها محافظة نابل ثم صفاقس، وهي محافظات كبيرة ويكثر فيها استعمال الدراجات النارية.

ويرى اليحياوي أن الدولة لم تعد مخططاً وطنياً لمكافحة هذا الخطر، على رغم أن السلامة على الطرق ملف أمن قومي ويجب معالجته عاجلاً، ويكفي أنه يكلف الدولة 4.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

وعن شيوع ثقافة عدم احترام قواعد الطرقات يقول "لدينا ترسانة قانونية متطورة، لكن للأسف لا تطبق ضد المخالفين ونشاهد التجاوزات بالجملة في غياب الردع القانوني، وهذا راجع أساساً إلى نقص آليات الرقابة على غرار الكاميرات على الطرقات".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مصر... حوادث الطرق "تفصيلة يومية"

حوادث السير على الطرق المصرية صارت تفصيلة من تفاصيل الحياة اليومية، فعلى الطرق السريعة تتوقف حركة السير فجأة لتظهر معالم حادثة على الطريق، وتتوقف المركبات الطائرة متعدية السرعات المسموح بها كالعادة، ويتطلع السائق والركاب على آثار الحادثة، أجساد مسجاة على الطريق، أحذية متناثرة، أجزاء مهشمة من السيارات الضالعة في الحادثة، يحوقل الجميع ويتمتم طلباً للرحمة والمغفرة للملقاة أجسادهم على قارعة الطريق والصبر لذويهم، ثم يعاود القائد الطيران بمركبته وحمولتها من الأرواح متوجهاً إما إلى مقصدهم الدنيوي أو مآلهم الختامي، بحسب أحوال الطريق وتصرفات "كابتن طيار" المركبة وأقرانه على الطرق.

كانوا يقولون إن الطرق مصيدة للأرواح، كما يشيعون أن "ضحايا لقمة العيش" هم من يدفعون الثمن الأفدح على الطريق لأنهم فقراء، ويدعون أن القضاء والقدر يتربص ببعضهم فيختار هذا شهيداً على الطريق وذاك مصاباً أو معاقاً مدى الحياة، والحق يقال فإن حجة "رداءة الطرق" لم تعد صالحة للاستخدام بعد استكمال الجانب الأكبر من المشروع القومي للطرق الذي انطلق عام 2014 واستهدف إنشاء طرق جديدة بطول مصر وعرضها، وبأطوال 3300 كيلومتر وكلفة إجمالية بنحو 36 مليار جنيه مصري.

هذه المليارات وثيقة الصلة بمليارات أخرى هي كلفة حوادث الطرق، وبحسب إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الصادرة عام 2019، بلغت الكلفة الاقتصادية لحوادث الطرق نحو 28.9 مليار جنيه عام 2017، وذلك بين تعويضات لأسر المتوفين والمصابين وعلاجهم إضافة إلى الخسائر المادية. ووقتها توقع الجهاز انخفاض كلفة الحوادث خلال الأعوام التالية، وذلك في ضوء شبكة الطرق الجاري تشييدها وبالتالي تقليل حجم حوادث الطرق وكلفتها.

لكن ما جرى بعدها لم يكن فقط مثيراً للعجب بل مشيراً إلى العكس، فقد تحسنت الطرق بشكل جذري وارتقت مصر 90 درجة على مؤشر جودة الطرق، فباتت في المكانة الـ28 عام 2021، بعد أن كانت في المرتبة الـ118 عام 2020.

وفي الوقت نفسه أفادت الإحصاءات الرسمية أن عام 2021 شهد ارتفاعاً بنسبة 15.2 في المئة في وفيات الطرق مقارنة بعام 2020، إذ فقد 7101 حياتهم في حوادث طرق عام 2021 في مقابل 6722 قتيلاً  عام 2020، أما الإصابات فشهدت انخفاضاً نسبته 9.3 في المئة عام 2021 بواقع 51511 مصاباً في مقابل 56789 مصاباً عام 2020، وهذا يعني أن الحوادث حتى وإن انخفض عددها صارت أكثر فتكاً وإراقة للدماء.

على الطريق الممهد والموسع والمزود بالخدمات حديثاً، طريق القاهرة – السويس والذي لا يؤدي إلى مدينة السويس فقط، لكنه الطريق الرئيس الذي يستخدمه ملايين القاطنين في التجمعات السكنية الحديثة، تدور رحى الألعاب البهلوانية، فما يجري عند بوابات الدفع الإلكتروني على الطريق أقرب ما يكون إلى الهزل المفرط، إذ تتناحر السيارات عند حارات الدخول المحاطة بكتل أسمنتية لدرجة أن حوادث احتكاك وتصادم عدة تحدث قبل منافذ الدفع بمترين أو ثلاثة، وذلك بسبب التناحر على أولوية المرور.

"أولوية المرور" عبارة دائمة التردد والتكرار في حوادث الصدام اليومية، سواء كانت مميتة أو شبه مميتة أو "ربنا ستر" على آخر لحظة، والمتابع لحركة السير في معظم الشوارع المصرية ينتابه شعور بأن الغالبية لا تقود مركباتها بغرض الوصول إلى مقاصدها، بل إن الجمع الغفير منقسم إلى فريقين، الأول مهمته المطاردة والتضييق والنيل من السائرين على الطريق، والثاني مهمته محاولة تفادي هجوم الفريق الأول.

 

ويرى نائب رئيس "مركز الأهرام للدارسات السياسية والاستراتيجية عمرو هاشم ربيع في مقالة عنوانها "حوادث الطرق (2022)"، إن التطور الكبير الذي طرأ على الطرق كان يفترض أن يقلل عدد الحوادث وهو ما لم يحدث، ويضيف، "المؤكد أن سبب ارتفاع حوادث الطرق خلال العامين الأخيرين إنما يرجع ضمن أمور كثيرة إلى الزيادة الكبيرة في عدد المركبات، ناهيك بأن جودة الطرق قد أغرت على ما يبدو كثيرين، فزادت رعونة قادة السيارات إلى حد كبير".

رؤية العين على الطرق تقول إن العنصر البشري هو المسؤول الأول والأكبر والأبرز عن الحوادث المروعة، وحجة الأرقام تؤكد أن قائد السيارة هو السبب فيما يزيد على 63 في المئة من الحوادث، بحسب دراسة أجراها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. وآراء ووجهات نظر خبراء المرور والطرق والسلامة على الطريق تجمع على توليفة عوامل، فبين غياب تام للثقافة المرورية وجهل بقواعد المرور وقوانينه وتجاوز السرعات المقررة، بما في ذلك وسائل النقل العام والمركبات الحكومية والرسمية وغيرها، والسير العكسي والانشغال بالهاتف المحمول أثناء القيادة واعتبار تجاوز السرعة وجاهة اجتماعية، وتعاطي المواد المخدرة واستخدام السيارات الربع والنصف نقل المكشوفة لنقل العمال، وتجاور التريلا مع الـ "توك توك" مع الدراجة النارية التي يقودها طفل على مرمى حجر من القطار، والتوقف الفجائي والانتظار في الممنوع وغيرها، تتفق الغالبية على ملء خانة المسؤولية.

تقع الحوادث في جميع أنحاء العالم وهذا واقع، والعنصر البشري في معظم الدول يأتي في المرتبة الأولى باعتباره المسؤول الرئيس، لكن ماذا عن إجراءات السلطات وإنفاذ القانون؟

الملاحظ أن عدداً كبيراً من كاميرات المراقبة وأجهزة الرادار وغيرها تم تركيبها في عدد من الشوارع والميادين، لكن الملاحظ أيضاً أن بعضهم لا يزال يحاول الطيران بمركبته، وبات السير العكسي ظاهرة والاجتياز الخاطئ سمة، والجهل أو تجاهل قواعد وقوانين المرور مستشرياً.

والغريب أن مصر لديها ترسانة من قوانين المرور يجري توسيع قاعدتها وزيادة نصوصها وتقوية دعائمها، لكن شعوراً عاماً يعتري القلة المهتمة في شأن السلامة على الطريق مفاده أن معظمها يرفع راية "مع وقف التطبيق".

العراق... متلازمة السرعة والأسبقية

في العراق لا تختلف الحال كثيراً، إذ تقول الشواهد إن عدم معرفة قواعد السير والأسبقيات والسرعة المبالغ فيها واستخدام الهاتف المحمول وعدم ترك مسافة أمان من أبرز مسببات الحوادث المميتة، وتكون النسبة الأعلى من الحوادث داخل المدن، إلا أن معظم الوفيات والإصابات تحدث على الطرق الخارجية بسبب السرعات الزائدة التي تصل إلى حد الجنون.

الأعداد الكبيرة من السيارات والبنى التحتية السيئة مع عدم الإلمام بقواعد السير والقيادة جعلت من شوارع العاصمة بغداد قنابل موقوتة.

ويشير تقرير للجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط الصادر هذا العام إلى زيادة نسبتها 30 في المئة بحوادث السير عام 2021 مقارنة بعام 2020، وبلغ عدد الحوادث أكثر من 10 آلاف، ولقي 2828 شخصاً حتفهم معظمهم من الرجال، وكان عدد قتلى حوادث السير عام 2020 نحو 8 آلاف شخص.

وكشف التقرير أن ما يزيد على 80 في المئة من الحوادث كانت بسبب أخطاء بشرية للسائق.

مدير المرور السابق اللواء عمار وليد يقول إن معظم حوادث السير القاتلة تكون على الطرق الخارجية، والسبب الأبرز هو السرعة الزائدة، مرجحاً أن يكون العدد الفعلي للحوادث أعلى من الإحصاءات الرسمية.

وأكد وليد أن معظم حالات الحوادث المميتة سببها قائدو السيارات من الرجال، وأن حوادث النساء عادة تكون بسيطة ويحدث معظمها داخل بغداد، مشيراً إلى أن النساء أكثر التزاماً بالقانون ولا يملن إلى القيادة بسرعة كبيرة.

 

وترى عضو "مفوضية حقوق الإنسان" السابقة بشري العبيدي أن عدم الالتزام بتطبيق القانون يؤدي إلى مقتل وإصابة الآلاف على الطرق، مشددة على ضرورة وضع ضوابط لعدد السيارات الهائل في شوارع لا تستوعب هذه الأرقام، كما أشارت إلى وجود حاجة ماسة إلى بناء الجسور في التقاطعات وصيانة الطرق.

ويشار إلى أنه منذ عام 2014 وحتى نهاية عام 2019 توقفت معظم مشاريع الطرق والجسور في العراق لأسباب تتعلق بالحرب ضد تنظيم "داعش"، ثم أثرت الأزمة الاقتصادية عام 2020 سلباً في حركة البناء والصيانة، إلا أنها عادت مطلع عام 2021 بشكل جدي لتطلق سلسلة من المشاريع.

وبحسب وزارة الإعمار والإسكان فإن العراق في حاجة إلى نحو 1500 كيلو متر من الطرق داخل المحافظات وخارجها.

ويحمّل رئيس لجنة الخدمات في مجلس النواب محمد خليل سوء الطرق جزءاً من مسؤولية وقوع الحوادث جنباً إلى جنب مع عدم التزام السائق بالقوانين.

السودان... الوباء خفّض الوفيات 

وعلى رغم أن التقرير السنوي لإدارة شرطة المرور في السودان لعام 2020 يشير إلى انخفاض إجمال حوادث السير لنحو النصف مقارنة بعام 2019، إلا أن 18 ألف حادثة في العام عدد كبير، ونحو 3100 وفاة على الطريق أمر مؤسف، كما أن عام 2020 كان عام "البقاء في البيت" بسبب الوباء، وهو ما يعني قلة الحركة المرورية ومن ثم انخفاض الحوادث.

ويؤكد العميد شرطة متقاعد هشام عبدالله إسماعيل أن السبب الرئيس للحوادث هو السرعة الزائدة، إضافة إلى التخطي الخاطئ وعدم التزام السائقين بالإشارات الضوئية وعدم التأكد من سلامة المركبات وبخاصة الإطارات والمكابح، وكذلك استخدام الهاتف المحمول أثناء القيادة يقع ضمن أبرز أسباب الحوادث القاتلة، مضيفاً أن عدد الوفيات في حوادث الطرق على رغم انخفاضه يبقى مرتفعاً مقارنة بالحوادث الجنائية.

وعن ضمان نجاح برامج السلامة المرورية، شدد إسماعيل على ضرورة العمل في اتجاهات عدة تبدأ بانضباط السائق وتأهيله للقيادة وإلمامه بقواعد استخدام الطريق وضمان اكتمال لياقته البدنية وسلامته العقلية إلى جانب توافر شروط ومواصفات الأمان في المركبات، وتحسين تصميم الطرق وتجهيزها بالعلامات والإشارات وفقاً للمواصفات العالمية.

ويرى أن السلامة المروية لا تتحقق بتفعيل القوانين فقط، لكنها عملية متكاملة تشمل علاج أسباب عوامل الخطورة والوصول إلى أفضل استخدام للطرق وتقليص الازدحام المروري ودمج قواعد السلامة المرورية في المناهج الدراسية، والتوعية عبر المنصات الإعلامية وتكثيف حملات الضبط المروري والتأكد من الأوراق الثبوتية مثل الرخص، مع التشديد في تنفيذ العقوبات وإجراءات الكشف الطبي الدوري على السائقين والتأكد من عدم القيادة تحت تأثير المخدرات، مع إيلاء ملف صيانة الطرق أولوية قصوى.

 

مهندس الطرق والجسور في الهيئة العمرانية للطرق والجسور الهادي حسين يقول إن تردي الطرق وانتهاء عمرها الافتراضي من دون إحلال أو تجديد أو حتى صيانة، أمور تؤدي إلى حوادث مميتة.

ويضيف أن هيئة الطرق والجسور تجري الصيانة الدورية للطرق من الموارد الذاتية التي لا تفي بالمطلوب، وبالتالي لا يتعدى ما يتم إنجازه 30 في المئة من المخطط له سنوياً، لكن الهيئة تسعى إلى إيجاد بدائل في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة.

ويقول إن هناك بادرة أمل مع إنشاء صندوق لصيانة الطرق، واعتباره مصدراً من مصادر التمويل للحفاظ على شبكة الطرق القومية وتأهيلها.

أما مدير وحدة النقل البري والمعابر في وزارة النقل السودانية موسى محمود فيشير إلى مشكلة أخرى على الطرق وهي السماح بسير شاحنات من دون موازين للحمولة، مما يترتب عليه ضغط عال على الطرق وتجريف للأسفلت، فضلاً عن أن إطارات بعض المركبات العامة تكون غير آمنة مما يؤدي إلى حوادث مميتة.

بات الموت عادياً

"الموت على الطريق" لم تعد عبارة تقشعر لها الأبدان بل أصبحت خبراً عادياً ضمن صفحات الحوادث العربية، وتختلف الأسباب الفرعية من دولة إلى أخرى، لكن تظل هناك توليفة متفردة لا يفهمها إلا أهل المنطقة أو الدارسون المتعمقون في التركيبة النفسية والعصبية والاجتماعية لهم.

الضغوط الاقتصادية والمشكلات الأسرية والرغبة في ترهيب الأنثى على الطريق واعتبار خرق القوانين بطولة وتعدي السرعات إنجازاً والحصول على الرخصة من دون شرط إتقان القيادة تميزاً، وغيرها خصوصيات لدول عدة في المنطقة، لكن تضاف إليها كذلك العوامل الكلاسيكية المسببة للحوادث من سوء حال المركبات أو الطرق أو كليهما، وتناول المواد المخدرة أو المسكرة، إضافة إلى القضاء والقدر المظلومين، وجميعها تصنع "وصفة" مؤكدة لحوادث الطرق.

ظلموا المرأة قائدة السيارة كثيراً، لكن الخبراء أنصفوها وبرأوها من تهمة التسبب في الحوادث، والغريب أن أسباب وقوع الحوادث شبه المتطابقة في الدول العربية منصوص عليها في "قائمة عوامل الخطر" التي حددتها "منظمة الصحة العالمية" تحت بند "انعدام السلامة المروية"، والمثير أن كل مكون من مكونات الخلطة المميتة له حلّان بدلاً من الحل الواحد، لكن يبقى التنفيذ والتطبيق مرفوعين من الخدمة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات