خلال الحياة المتوسطة الطول نسبياً التي عاشها، أنتج الكاتب النمساوي ستيفن تسفايغ (1881 – 1942)، عدداً كبيراً من الكتب بين روايات وقصص طويلة وسير ذاتية وسير لآخرين، وهو عاش خلال ما يزيد قليلاً على ستين سنة، حيوات عديدة وتنقل بين مدن وبلدان كثيرة بحثاً عن مواضيع وآفاقاً جديدة أحياناً، وهرباً في أحيان أخرى من عالم لم يرض كثيراً عن تغيراته وهو بالتحديد "عالم الأمس" الذي أفرد له واحداً من أجمل كتبه وأكثرها جدارة بأن تقرأ بين معظم ما أصدره مجايلوه من كتب مماثلة، بل لعل "عالم الأمس" يقرأ اليوم بأكثر كثيراً مما تقرأ روايات تسفايغ التي كانت أواسط القرن العشرين، الأكثر شعبية بين الروايات التي يقبل عليها الجمهور العريض حين يكون مثقفاً حقاً.
ولعل أحد أسباب ذلك أن روايات تسفايغ ونصوصه الروائية والقصصية بشكل عام، وصلت إلى جماهير أعرض من طريق السينما والتلفزة، بل حتى الشرائط المصورة، بأكثر مما فعل أي أدب أوروبي آخر.
انتشار أدب ما
ترى أفلا يمكننا أن نحصي عشرات الأفلام المصرية وغير المصرية اقتبست خلال العصر الذهبي للسينما الإنسانية الاجتماعية، مواضيع وحبكات نصوص لتسفايغ دون أن تكلف نفسها عناء ذكر المصدر؟ فمن "رسالة من إمرأة مجهولة" إلى "24 ساعة من حياة امرأة" و"حذار الشفقة" لم يكن نادراً أن يظهر بطل تسفايغي من هنا أو بطلة من هناك، تحت ملامح فريد الأطرش أو شادية في أفلام بالكاد يخمن أحد "أصولها الأجنبية"،
غير أن تلك سعادة قد يحلم بها أي كاتب، لكن تسفايغ رحل عن عالمنا دون أن يعيشها، بل هو انتحر مع زوجته في البرازيل حيث كان لاجئاً في عام 1942، خوفاً من هيمنة النازية على العالم وانتهاء "عالم الأمس" الذي كان يتوق إلى استعادته، انتحر يائساً وهو الذي تمتلئ نصوصه بالتفاؤل والإقبال على الحياة، وانتحر مرعوباً هو الذي بقي حتى لحظاته الأخيرة يقاوم الرعب، لكنه مباشرة قبل رحيله على تلك الطريقة، ولأن الرجل كان يعرف كيف ينظم حياته، كان لا بد له وقد اتخذ قراره، أن يكتب ما اعتبره كثر "نصاً أخيراً" نصاً أدبياً أخيراً شاء منه أن يحمل وصية أدبية. ولم يكن غريباً أن يحمل النص، وكان قصيراً نسبياً، عنوان "قصة لعبة الشطرنج"، وإن كان سيعرف لاحقا بـ"لاعبي الشطرنج"، لم يكن ذلك غريباً وإن كان كثر من المؤرخين لا يزالون يبحثون عن المعاني المتضمرة في نص شاءه كاتبه أن يكون آخر نص أدبي يكتبه، بيد أنه لن يكون كذلك، إذ كثيراً ما يحدث أن تكتشف نصوص أخرى للكاتب لم تنشر في حياته، ومنها مثلاً قصته الطويلة "السفر إلى الماضي" التي لن تنشر إلا بعد "لاعبي الشطرنج" بنحو نصف قرن، ولا بد من عودة إليها في مناسبة أخرى على أية حال، أما هنا فما يهمنا هو "لاعبا الشطرنج" التي تثير أسئلة محيرة أكثر كثيراً مما تطرح إجابات مريحة!
شطرنج على متن سفينة
كما ألمحنا هذه القصة التي نشرت للمرة الأولى عام 1943 بعد عام من انتحار تسفايغ وزوجته، ربما تكون من أقصر قصص الكاتب وموضوعها يدل عليه العنوان، هي لعبة شطرنج متعددة الجولات تخاض على متن سفينة ركاب تقصد الأرجنتين قادمة من أوروبا حاملة لاجئين ومنفيين هاربين من النازية عشية الحرب العالمية الثانية، والحبكة تدور بكل بساطة من حول جولات الشطرنج التي يخوضها بطلان كبيران من أبطال اللعبة على الصعيد العالمي، وتتقاطع الجولات كما يحلو لتسفايغ أن يفعل عادة، بحكايتي حياتي ذينك البطلين بما يمكننا من التعرف عليهما والإحاطة بتصرفات كل منهما وسلوكه وأخلاقياته خلال اللعب. فمن ناحية هناك البسيط والواضح تشنتوفيتش المعروف بكونه بطل العالم في لعبة الشطرنج، هو شخص بسيط لا يتمتع بأية ثقافة على الإطلاق، لكنه بارع في رياضته إلى درجة يصعب على أي كان أن يهزمه، فهو يربح ميكانيكياً على طول الخط ومهما كان من شأن خصمه، وخصمه هذه المرة شخص ليس معروفاً على الإطلاق يقدم إلينا بكونه السيد "ب"، وتقول لنا حكايته التي تروى خلال الصفحات المكرسة له، إنه مجرد أرستقراطي نمساوي لم يكن قد مارس الشطرنج قبل أن يودع السجن ذات يوم فيعثر في زنزانته على كتاب حول فنون اللعبة يمضي أيامه ولياليه قارئاً له بدقة وفهم حتى ينتهي به الأمر إلى استيعاب اللعبة ذهنياً ويصبح بارعاً فيها براعة مطلقة، وهذا ما سوف نعايشه بأنفسنا خلال تلك المباريات التي سوف تخاض على متن السفينة أمام أعيننا، وقد جعل منا الكاتب شهود عيان على ما يحدث، وما يحدث إنما هو تلك المجابهة التي نعيشها بعدما تعرفنا على الرجلين، بين عقليتين ونمطين هائلين من أنماط الذكاء والسيطرة على النفس، وذلكم هو بالتأكيد الموضوع الأساس لهذه الرواية الفريدة.
سحر غامض
في الحقيقة أن فرادة هذه الرواية وربما سحرها الغامض أيضاً لا يمكن أن يتأتى من موضوعها أو حبكتها، بل تحديداً مما يمثله بطلاها وما تعنيه المجابهة بينهما، بل إن ثمة هنا قدراً كبيراً من سحر يتمتع به كل أولئك الذين يقدمون على قراءة الرواية وفي ذهنهم نصوص عديد من روايات وقصص ستيفن تسفايغ الأخرى، بل وقد نقول أيضاً، وفي ذهنهم عديد من كتب السير التي كان قد سبق لتسفايغ أن كتبها عن حيوات آخرين.
وفي هذا السياق لعل من الإنصاف القول إن المهم هنا، ولا بأس من تكرار هذه الفكرة، ما يكتشفه القارئ مما يمثله كل من المتنافسين بالنسبة إلى الآخر، فهما متعارضان كل التعارض وعلى الأقل كما تفيدنا من ناحية خاصة سيرة حياة تشنتوفيتش الذي يخبرنا "الراوي" أنه منذ طفولته لم يكن نافعاً في شيء، بل عالة على المجتمع، لكن ظرفاً ما جعله يتمسك بالشطرنج كخشبة خلاص لحياته، وصار الشطرنج تلك الحياة وتلك الخشبة لا يتكلم إلا عنه ولا يمارس سواه، بل جعل منه دربه للتفوق على الآخرين. وللتفوق بالنسبة إليه عنوان وحيد: لا شيء سوى الانتصار، النصر أو لا شيء، فهل ترانا بعيدين يا ترى عن التفكير بأدولف هتلر؟ هل نحن في حضرة شخص آخر؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
توارد تواريخ
الحقيقة أن كثراً من النقاد الذين اشتغلوا حقاً على هذه الرواية لم يبتعدوا إطلاقاً عن الربط بين الزعيم النازي وشخصية هذا اللاعب الميكانيكي، بخاصة أنه كان من بين النقاد من لفتتهم تواريخ معينة في "سيرة حياة تشنتوفيتش"، فهو اكتشف الشطرنج للمرة الأولى عام 1933 أي العام نفسه الذي وصل فيه هتلر إلى السلطة، وهو بات بطل العالم المطلق في اللعبة عام 1939، عام اندلاع الحرب العالمية الثانية... وفي المقابل يكاد السيد "ب" أن يكون إنساناً آخر تماماً، إنه بعد كل شيء مفكر ذو نزعة إنسانية يعتبر نفسه ضحية من ضحايا النازية، وهو لم يكتشف الشطرنج إلا خلال سجن النازيين له وبالصدفة! أما مأساته فتكمن بكل بساطة بأنه، وبحسب مؤرخي الرواية، لم يكتشف اللعبة إلا من طريق الكتاب وليس بقادر على أن يمارسها إلا ذهنياً أي على طريقة أولئك الذين بقدر ما يلعبون الحجارة البيضاء مثلاً، ينسون أن هناك أيضاً حجارة سوداء في المقابل، عليهم أن يلعبوها!
حكاية العالم وحربه
باختصار إذا ثمة فرضية تقترح علينا هنا أن ما نشهده أمامنا في الجولات العديدة التي يخوضها هذان اللاعبان المثاليان، ومن دون أن نكشف طبعاً عن الكيفية التي ستنتهي إليها المباريات والجولات (هي تحمل عديداً من الخبطات المسرحية الشيقة على أية حال)، ما نشهده إنما هو كناية عما كان يشهده العالم كله إبان تلك الحرب العالمية المدمرة التي كانت تخاض بين عقليتين ونوعين من التفكير، بين عقل متكامل مسيطر على نفسه وعلى لعبته بالنظر إلى أنه غير قادر على الاهتمام إلا بها، وعقل آخر منفصم لا يكف عن أن يطرح على نفسه سؤالاً بسيطاً، لكنه محير، ما الذي تراني أفعله هنا؟