قبل أيام من نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي، لم تكن تعتقد السلطات الإيرانية الساعية بكل قوة لتقويض الاحتجاجات الشعبية المناهضة لها، إثر وفاة الشابة الكردية مهسا أميني (22 عاماً) بعد توقيفها من قبل "شرطة الأخلاق"، صحة إعلان الملياردير الأميركي، وصاحب شركة "سبايس إكس"، إيلون ماسك، عزمه تفعيل خدمات الإنترنت المؤمنة عبر الأقمار الصناعية "ستارلينك" في إيران، فسلاح فرض القيود بشكل متزايد من قبل الحكومة على وصول المحتجين لشبكة الفضاء المعلوماتي أثبت كفاءته وقدرته في مناسبات مماثلة سابقاً.
لكن وأمام التطور التكنولوجي الواسع، كان "صادماً" بالنسبة للحكومة الإيرانية، مع عودة مالك منصة "تويتر"، بالتغريد، قبل أيام من بداية العام الجديد 2023، أن ما يقرب من 100 محطة استقبال أرضية لخدمات "ستارلينك" تعمل حالياً في إيران، ما أعاد النقاش بين المراقبين حول قدرات تلك الشبكة المرتبطة بأقمار اصطناعية صغيرة تدور حول الأرض في مدار منخفض على توفير خدمات الإنترنت لأي بقعة في العالم، أمام السيطرة الكلاسيكية على الشبكة العنكبوتية من قبل الحكومات والتحكم في إتاحة وصولها للمواطنين.
كيف ظهرت "ستارلينك"؟
في 2015، أعلنت شركة "سبيس إكس" (تأسست في 2002)، المتخصصة في خدمات استكشاف ورحلات الفضاء، إنشاء مشروع يحمل اسم "ستارلينك"، بهدف توفير خدمات إنترنت عالية السرعة من الفضاء، تصل إلى المناطق النائية على الأرض، بالاعتماد على الأقمار الصناعية المحلقة في المدار المنخفض حول الأرض (تدور على بعد نحو 550كم من سطح الأرض)؛ وبعد سلسلة من المحاولات والتجارب، تمكنت "ستارلينك" من إطلاق أول أقمارها التجريبية إلى الفضاء في 2018، لتتجاوز تدريجاً الآن أكثر من ثلاثة آلاف قمر اصطناعي.
ووفق الموقع الإلكتروني لـ"سبيس إكس"، تقوم فكرة "ستارلينك" في الأساس على توفير خدمات الإنترنت إلى البشر جميعاً، بخاصة في الأماكن النائية التي لا تتوفر فيها بنية تحتية تسمح لسكانها بالحصول على الإنترنت الأرضي، المعتمد على الكابلات الأرضية، وكذلك غير المتوفر بها تغطية جيدة لشبكات المحمول اللاسلكية، كذلك العمل على توفير الاتصال بالإنترنت في أوقات الأزمات والكوارث الطبيعية.
ومن الفضاء إلى الأرض، يعتمد اتصال خدمات الإنترنت الفضائي من "ستارلينك"، على معدات الاستقبال الأرضي، التي تتمثل في طبق استقبال يتم تثبيته أعلى المنزل، ويتم توصيله بجهاز يقوم بتوزيع الإشارة لاسلكياً داخل المنزل، الذي يقوم بدور "الراوتر".
ورغم الكلفة العالية للخدمة مقارنة بنظيرتها المتاحة حالياً من مزودي الإنترنت التقليديين، فإنه ووفق أحدث الإحصاءات، تمكنت "ستارلينك"، من توسيع نطاق انتشار تقديم خدماتها تدريجاً على مدى العامين الماضيين، حيث وصل عدد منصات الاستقبال المبيعة إلى 500 ألف شخص على مستوى العالم، بحسب ما نقل موقع "زدنت" المتخصص، موضحاً أن "ستارلينك" تحقق إيراداتها من خلال عمليات شراء الهوائيات وأجهزة المودم والاشتراكات بأسعار تتباين بحسب الدول.
وبحسب موقع الخدمة، فإن سرعات الإنترنت الفضائي مع "ستارلينك" تتراوح بين 50 و250 ميغابيت في الثانية الواحدة، على مستوى الاستخدام المنزلي، بينما السرعات تصل إلى 350 ميغابيت في الثانية بالنسبة للشركات المشتركة في الخدمة ذاتها، مشيراً إلى أنه منذ نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بات لدى "ستارلينك" 3271 قمراً صناعياً في المدار، منها 3236 قمراً عاملاً.
وعلى عكس اتصال الألياف الضوئية، تعمل خدمة ستارلينك عبر طبق يتصل مع الأقمار الصناعية التي ترسل بيانات الإنترنت من وإلى المحطات الأرضية، ويتصل جهاز التوجيه بالطبق مما يسمح للمستخدمين بالوصول إلى الإنترنت من خلال إشارات "واي فاي".
وفي تصريحات سابقة، أعلن إيلون ماسك مالك شركة "سبيس إكس"، أن المشروع يهدف لإطلاق 12 ألف قمر صناعي توضع في مدارين، المدار الأول سيضم 4425 قمراً على ارتفاع 1200كم، أما المدار الثاني فسيضم 7518 قمراً على ارتفاع 340كم، بهدف أن يتم التواصل بين الأقمار في المدارين وكوكب الأرض بسرعة كبيرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إلا أنه في المقابل، ووفق مراقبين، تكمن الانتقادات للخدمة في الوقت الراهن، في أن عدم إتاحة خدمات الإنترنت الفضائي في كل الدول أو أن بعض الدول لا تسمح بها، بخلاف أن تكلفة الحصول عليها أعلى من خدمة الإنترنت الأرضي، بجانب أن أغلب الشركات المقدمة لخدمة الإنترنت الفضائي في الوقت الحالي تقدم سرعات الأعلى فيها أقل بكثير من السرعات المقدمة عبر الإنترنت الأرضي.
"ستارلينك" تتجاوز القيود التقليدية
من بين دول العالم التي تعمل فيها خدمة "ستارلينك" إيران وأوكرانيا صاحبتا الجدل الأكبر في شأن تزويد الإنترنت لسكان البلدين، ففي الحالة الأولى لبى الملياردير الأميركي دعوة السلطات الأوكرانية لمواجهة التدمير الذي خلفه الاستهداف الروسي للبني التحتية خلال الحرب الدائرة منذ فبراير (شباط) الماضي، وفي الثانية، سعى ماسك لمواجهة القيود المفروضة من السلطات الإيرانية على وصول المواطنين للفضاء المعلوماتي في خضم الاحتجاجات المشتعلة منذ سبتمبر (أيلول) الماضي.
ففي الحالة الأوكرانية، وبعد يومين من اندلاع الحرب، طالب نائب رئيس الحكومة الأوكرانية ميخايلو فيدوروف ماسك عبر تغريدة على "تويتر" بضرورة توفير خدمة الإنترنت للأوكرانيين عبر أقماره الصناعية، وهو ما تجاوب معه الملياردير الأميركي، وجعل خدمة "ستارلينك" متاحة في أوكرانيا عبر شحن نحو 15 ألفاً من الأطباق وأجهزة التوجيه، كما تم توفير الخدمة في ساحات القتال.
وبحسب مجلة "فورين بوليسي" الأميركية وعلى مدار أشهر الحرب لعبت "ستارلينك" دوراً حيوياً في إبقاء القوات الإوكرانية والمواطنين متصلين بالإنترنت، ساعدت القوات على التواصل مع بعضها البعض في ساحة المعركة وحتى تمكين الطائرات من دون طيار وأنظمة الأسلحة من الاستمرار في العمل، متجاوزة بذلك تحديات استهداف روسيا للبنية التحتية للاتصالات السلكية واللاسلكية والكهرباء في البلاد، وهو الأمر الذي أقر به نائب رئيس الحكومة الأوكرانية فيدوروف خلال قمة في لشبونة في أوائل نوفمبر قائلاً "لقد كانت بداية قصة رائعة، لأن تقنيات ستارلينك غيرت هذه الحرب".
من جانبها، نقلت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، عن مارينا ميرون، باحثة الدراسات الدفاعية في كلية كينغز كوليدج في لندن قولها إن "القوات الأوكرانية تستخدم ستارلينك للتواصل على سبيل المثال، بين المقرات الرئيسة والقوات في الميدان"، مضيفة "لا يمكن التشويش على إشاراته كما يمكن أن تكون إشارات الراديو العادية، ويستغرق إعداد المجموعة 15 دقيقة فقط".
وحول قدرة روسيا على تعطيل خدمة "ستارلينك" في أوكرانيا، قلل إيلون ماسك، في تصريحات سابقة نقلها عنه موقع "بيزنيس إنسايدر" الأميركي من قدرة أي دولة على تدمير الخدمة، قائلاً "إذا حاولت روسيا إزالة ستارلينك، فهذا ليس بالأمر السهل، لأن هناك ألفي قمر صناعي"، وأضاف "هذا يعني كثيراً من الصواريخ المضادة للأقمار الصناعية"، وتابع "أعتقد أنه يمكننا إطلاق أقمار صناعية أسرع مما يمكنهم إطلاق صواريخ مضادة للأقمار الصناعية".
وفي الحالة الإيرانية، وأمام القيود الصارمة والمتزايدة على وصول الإيرانيين لخدمات الإنترنت في خضم الاحتجاجات المشتعلة في البلاد كان لافتاً تغريدة ماسك في الشهر ذاته، معلناً عزمه تفعيل خدمة "ستارلينك" في إيران في إطار جهد تدعمه الولايات المتحدة "لتعزيز حرية الإنترنت والتدفق الحر للمعلومات" للإيرانيين.
وفي أكتوبر (تشرين الأول)، نقلت شبكة "سي أن أن" الأميركية عن مسؤولين أميركيين لم تسمهم أن البيت الأبيض انخرط في محادثات مع ماسك حول إمكانية إنشاء خدمة الإنترنت عبر الأقمار الصناعية "ستارلينك" التابعة لشركة "سبيس إكس"، داخل إيران، وتدريجاً باتت الخدمة تملك ما يقرب من 100 محطة استقبال أرضية لخدمات الإنترنت المؤمنة عبر شبكة "ستارلينك" تعمل في إيران حالياً، وفق ما غرد به ماسك في 27 ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
لكن وأمام القيود الإيرانية المفروضة على أجهزة تشغيل "ستارلينك" على أراضيها، كان السؤال عن كيفية وصول مثل هذه الأجهزة إلى طهران، وهو الأمر الذي تم وفق صحيفة "وول ستريت جورنال"، عبر عمليات تهريب قادها مجموعة نشطاء إيرانيين أميركيين ورجال أعمال في كاليفورنيا.
الصحيفة الأميركية، قالت نقلاً عن مصادر داخل المجموعة المسؤولة عن هذه الجهود، إن "المهربين يعملون على إعادة تعبئة الأجهزة في صناديق مخصصة لأفران الميكروويف أو غيرها من الأدوات المنزلية"، موضحة أن عمليات النقل تتم عبر طرق مختلفة منها عبر البحر من خلال قوارب في الخليج العربي تذهب مباشرة إلى الموانئ الإيرانية، إضافة إلى شحنها عبر مركبات تعبر الحدود البرية أو تنقل يدوياً عبر الحدود الجبلية مع العراق.
وذكرت "وول ستريت جورنال" كذلك، أن المهربين فرضوا ما يصل إلى 600 دولار أو أكثر من سعر المعدات لنقل مثل هذه "البضائع الخطرة"، مشيرة إلى أن السلطات الإيرانية ضبطت شحنة واحدة فقط.
في سبتمبر الماضي، خففت الولايات المتحدة القيود الخاصة بتصدير التكنولوجيا التي تفرضها على إيران وذلك قصد توسيع الوصول إلى خدمات الإنترنت التي قيدتها الحكومة الإيرانية بعد حملة قمع المظاهرات، ومكن تخفيف القيود الأميركية شركة "سبيس إكس" من تفعيل خدمة الإنترنت "ستارلينك" والشبكات الخاصة الافتراضية وتقنيات الشبكات الأخرى في إيران، وقالت "وول ستريت جورنال"، إن مؤيدي حركة حقوقية استمرت لشهور لمساعدة المتظاهرين في الالتفاف على تخفيف السلطات لسرعة الإنترنت أو حجبها جزئياً، عملت على تهريب نحو 200 من أجهزة "ستارلينك" إلى إيران.
وإجمالاً وفيما يرى كثيرون في خدمة "ستارلينك" أو منافسيها ممن يقدمون خدمات الإنترنت عبر الأقمار الاصطناعية التي تدور حول الأرض في مدارات منخفضة، مثل "وان ويب" و"فياسات"، أنهم ينتزعون من الدولة "جانباً كبيراً من سلطتها على الفضاء المعلوماتي، ويزيدون من التحديات أمامها على ممارسة تدخلها ورقابتها بشكل مطلق"، يتخوف آخرون من "فوضى" الأقمار الاصطناعية في الفضاء، الذي يجعله أقل أمناً من حيث الصدامات، مشيرين إلى احتمالات وقوع بعض الحوادث خلال السنوات الأخيرة من قبل أقمار "ستارلينك"، بما في ذلك الأخطاء، التي أعلنتها "سبيس إكس" حول بعض أقمارها الاصطناعية القريبة مع محطة الفضاء الصينية.