Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بنديكتوس السادس عشر... بابا المفاجآت الهادئة

إرث البابا الراحل سيكتب فيه أنه التقى في جو من الألفة والمودة ممثلين من الجناحين التقدمي والرجعي المتمردين داخل الكنيسة الكاثوليكية

مثل صاعقة من البرق جاء قرار الحبر الروماني البابا بنديكتوس السادس عشر في فبراير (شباط) 2013، معلناً تخليه عن السدة البطرسية، في واقعة لم تتكرر منذ نحو 600 عام، وقد أثارت تلك الصاعقة وقتها علامات استفهام عديدة بدأت من عند لماذا استقال؟ ولم تتوقف عند أسباب تلك الاستقالة، بل تجاوزتها إلى ماذا بعد؟ وما مستقبل الكنيسة الكاثوليكية في ظل تطورات طبيعية تشهدها دائماً المؤسسات البشرية الكبرى الضاربة جذورها في التاريخ؟

كان المبرر والوازع عند البابا بنديكتوس السادس عشر لاتخاذه هذا القرار الجلل هو إدراكه أوضاعه الصحية، هكذا قال "لقد فحصت ضميري أمام الله مراراً وتكراراً، وتوصلت إلى اليقين بأن قواي بسبب تقدمي في السن لم تعد مناسبة للقيام بشكل مناسب بالخدمة البطرسية".

ومما لا شك فيه أن المقاربة الأولى التي تفرض نفسها على ذهن القارئ هي بين الأوضاع الصحية التي كانت متردية جداً للحبر الأعظم السابق، البابا يوحنا بولس الثاني السعيد الذكر، وحالة البابا الحالي التي تعد بجميع المقاييس أفضل كثيراً جداً.

قرار شجاع

 كانت علامة الاستفهام وقتها لماذا فعلها البابا الألماني؟

 الشاهد أن الرؤى والتحليلات تعددت، والجميع كان يزعم امتلاكه ناصية الحقيقة المطلقة في شأن ذاك الذي جرى في الفاتيكان، غير أن المؤكد بلا شك أن هناك تحولات كبيرة تجري في عالم اليوم، لا سيما في أوروبا، وقضايا دينية ومجتمعية، فرضت ذاتها بذاتها على الجالس سعيداً على كرسي ماربطرس، وجميعها احتاجت إلى زخم جسدي ونفسي ملموس.

 بات البابا بنديكتوس وقتها وبإقراره غير قادر على ملاحقتها، ومن هنا كان القرار لخير المؤسسة، شجاعًا حراً، وما لا يذكره كثيرون أنه تحدث بالفعل في بداية حبريته (مايو "أيار" 2005) عن نيته أو قراره الاستقالة حال وجد نفسه غير قادر على القيام بمهمة راعي الرعاة وخادم خدام الله.

يرحل "بابا المفاجآت الهادئة" والتعبير هنا لجورج ويغل اللاهوتي الكاثوليكي الأميركي، والزميل المتقدم في مركز واشنطن للأخلاقيات والسياسة العامة، مخلفاً وراءه عند غير المتخصصين في الشأن الفاتيكاني تساؤلات من عينة من فعلها قبله من الباباوات الرومانيين، ثم هل كان يحق له كنسياً القيام بهذا الأمر بالفعل؟

الشاهد أننا بالرجوع إلى السجلات التاريخية البابوية وجدنا نحو تسعة أسماء وهي بالترتيب الزمني كالتالي:

كليمنت الأول 92 - 101

بونتيان 230 ـ 235

 مارسيلينوس 296 ـ 304

مرتين الأول 649 ـ 655

بنديكتوس الخامس 964

بنديكتوس التاسع 1032 ـ 1045

غريغوري السادس 1045 ـ 1046

سليتاين الخامس 1294

غريغوري الثاني عشر 1406 ـ 1415

ويعني هذا أن البابا لم يكن الوحيد الذي ترك الكرسي البابوي، وإن كان لكل من هؤلاء الباباوات قصة مختلفة، تختلف عن الأسباب التي وقفت وراء رحيل بنديكتوس السادس عشر.

استقالة قانونية

هل يحق للبابا كنسياً تقديم استقالته؟

 بلا شك يحق له ذلك، فوفقاً للقانون الروماني الكنسي -الذي ينظم شأن الكوريا الرومانية "حكومة الفاتيكان" وبالتحديد المواد 331 ـ 335- للبابا حق الاستقالة بوصفه صاحب السلطة العظمى في الكنيسة.

كما أن البند الثاني من المادة 332 تنص على "إذا حدث أن تخلى الحبر الروماني عن منصبه يلزم لصحة التخلي أن يتم بحرية ويعلن عنه كما يجب، لكن لا يلزم أن يقبله أحد".

هل يمكن أن نتساءل عن إرث البابا بنديكتوس على نحو خاص من دون التوقف أمام الأبعاد والمهام الأساسية الموكلة إليه من دون إغفال أن الرجل كان قائداً روحياً لكنيسة منتشرة في قارات الأرض الست ويتجاوز أتباعها المليار و350 مليون نسمة، وبذات الفعل اعتبر رئيساً لدولة، حتى وإن كانت أصغر دولة في العالم، لكنها في واقع الحال إمبراطورية من دون حدود أو مستعمرات؟

هناك تعريف مختصر يذهب إلى أن "البابا دائماً وأبداً لاعب سياسي وقائد ديني عالمي ومشرع وحاكم وحيد للكنيسة الكاثوليكية...".

الطبقة الخارقة

هل بابا الفاتيكان على نحو خاص في مقدمة أعضاء الطبقة الخارقة الحاكمة في العالم قديماً وحديثاً؟

هذا ما يقر به الكاتب والباحث الأميركي ديفيد ج. روثكبوف في مؤلفه الكبير "الطبقة الخارقة: نخبة التسلط العالمي وأي عالم تبني"، وفيه إشارة واضحة إلى الدور الذي أسهم به البابا يوحنا بولس الثاني (1978 ـ 2005) في مواجهة الشيوعية، وكيف كانت بولندا موطن البابا المسمار الأخير الذي دق في نعش الشيوعية.

ووفق المصطلح الذي استعمله للمرة الأولى البابا غريغوريوس الكبير (590 ـ 604) يعتبر أسقف روما "خادم خدام الرب"، وتعترف الكنيسة الكاثوليكية بـ265 من هؤلاء الخدام كباباوات شرعيين، ولأنهم بشر وليسوا ملائكة فمنهم من دخل التاريخ من بابه الواسع، ومنهم من جهد في الظل طوال حياته.

بعضهم صار من القديسين، وبينهم أكثر من 20 شهيداً في مقدمتهم كبير الحواريين بطرس الذي صلب في زمن الإمبراطور الروماني نيرون، وهناك آخرون كانت حياتهم ملأى بالخطايا الآثمة.

 بعضهم كان من الإصلاحيين الذين لا نزال نرى حتى اليوم إرثهم في عقيدة الكنيسة الكاثوليكية وممارستها وآخرون ساروا في دروب مغايرة.

بعضهم كان من النوابغ على الصعيدين الفكري والتنظيمي، وآخرون كانوا عاديين جداً.

وفي الواقع يعتبر نفوذ البابوية الحديثة، وكما يؤكد ذلك جورج ويغل، وسحرها من المفاجآت، فعندما انتخب البابا ليون الثالث عشر عام 1878 وكان أول بابا منذ 100 سنة لا يسيطر على أراض واسعة ذات سيادة معترف بها دولياً ظن كثيرون أن البابوية باتت مفارقة تاريخية بلا حول ولا قوة، غير أن ليون أرسى قواعد البابوية الجديدة باعتبارها مركزاً يتمتع بسلطة إقناع معنوي.

والشاهد أن الحديث عن البابوية في حاجة إلى مؤلفات بعينها، لا سيما على صعيد تصحيح كثير من المفاهيم المغلوطة حول العالم وهذا أمر قائم بذاته، لكن الحديث بين يدي هذا المشهد يتعلق في مبتدأ الأمر وخبره بإرث بنديكتوس السادس عشر في حبرية لم تكمل السنوات الثماني (مايو 2005 ـ فبراير 2013).

إرث بنديكتوس السادس عشر

يذهب وزير الثقافة السابق أندريا ريكاردي والكاثوليكي بامتياز إلى أن جوزيف راتزينجر الذي وصفه البعض بأنه "توركيمادا" (أحد قضاة محاكم التفتيش القساة القلب في القرن السادس عشر) لم يكن على هذا النحو بإطلاق المشهد، بل كان رجلاً متواضعاً، كان جداً يعظم التقاليد، وبالتالي نال تقدير الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية بسبب نظرته التقليدية للكنيسة، وفي الوقت نفسه كانت استقالته لفتة مبتكرة جداً، وتشير إلى عدم تشبث الرجل ببهرجة العالم أو المجد الشخصي المستمد من الموقع الوظيفي.

هل عكس هذا التخلي عن المنصب البابوي مفهوماً ما مغايراً لخطأ شائع ينسحب على الكنيسة الكاثوليكية بوصفها الكنيسة التي لا تتغير أبداً؟

في عددها الشهري نوفمبر (تشرين الثاني)/ ديسمبر (كانون الأول) 2008 أماطت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية اللثام عن بعض الأجزاء الغامضة في مسيرة الكنيسة التي وصفها المؤرخ الأميركي الشهير وول ديورانت في موسوعته "قصة الحضارة" بأنها "أهم مؤسسة بشرية عرفها التاريخ"، والمادة العلمية كانت لـ"جون. ل إلين جوينور" أحد كبار المراسلين لمجلة "ناشونال كاثوليك ريبورتر" ومن كبار محللي الفاتيكان لشبكة "سي أن أن".

الخطأ هو القول إن المؤسسة الكاثوليكية لا تتغير أبداً، ذلك لأن الكنيسة لا تعترف بأنها تغيرت في حين أنها تتغير بالفعل، والكاثوليك القدامى يعرفون أنه عندما يبدأ شخص في منصب سلطة كلامه بعبارة "لطالما علمتنا الكنيسة..." فهذا يعني أنه سيتم تغيير بعض الأفكار أو الممارسات القائمة منذ زمن بعيد"... هل من أمثلة على ذلك؟

على سبيل المثال كانت الكنيسة في الماضي تعتبر أن فرض فائدة على المال المقترض خطيئة ربا، لكن هذا لم يعد موقف الكنيسة اليوم، ولنتذكر أن الباباوات عندما كانوا حكاماً مدنيين كانوا يعدمون المجرمين، وبإمكان السياح اليوم زيارة متحف الإجرام في روما لرؤية مقصلة بابوية محفوظة جيداً، وهي هدية من نابليون، اليوم طبعاً تقود الكنيسة الكاثوليكية الحملات العالمية المناهضة لحكم الإعدام.

ومن أمثلة التغيير كذلك ما ينسحب على بنديكتوس السادس عشر نفسه الذي توقف والكنيسة الكاثوليكية من خلفه عن الاعتراف بوجود ما كان يسمى في التعليم الكاثوليكي التقليدي" إليمبوس" وهو مكان راحة يذهب إليه الأطفال الذين يموتون قبل نوال سر العماد، لكنهم لا يرون الله تعالى، وهي قصة لاهوتية مثيرة.

متغيرات مسيرة الكنيسة

وضعت استقالة البابا بنديكتوس تغيراً نوعياً جديداً في مسيرة الكنيسة الكاثوليكية، التي انفتحت على العالم بالفعل منذ سنوات المجتمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (1962 ـ 1965)، فبعد 600 عام تقريباً امتلك بابا بعينه زمام المبادرة الروحية، ليضحى راهباً اعتيادياً في الظل، يراقب بعين المؤمن حال الكنيسة، من دون أية صلاحيات رسمية للتدخل كصانع قرار، وإن لم يغب أبداً كمنتج للأفكار وهو العلامة واللاهوتي والمثقف والفيلسوف وحارس العقيدة والإيمان لأكثر من ثلاثة عقود.

إرث بنديكتوس السادس عشر وفي استقالته تحديداً اعتبر فتحاً جديداً يضاف إلى قوى التجديد والتطوير الذاتية التي تتسم بها المؤسسة الفاتيكانية، وتضاف الاستقالة إلى ما جرى في المجمع الفاتيكاني الثاني عندما أصبح بالإمكان الاحتفال بالقداس بلغات عامة غير اللاتينية، وانتقلت الكاثوليكية من انتقاد الحريات الدينية إلى المدافعة عن حقوق الإنسان وأصبح المهرطقون البروتستانت "أخوة انفصلوا عنها".

هل كان راتزينجر حقاً بابا المفاجآت الهادئة وآخرها كانت تلك الاستقالة؟

لا يعرف كثيرون أيضاً أن الرجل لم يسع أبداً إلى منصب البابوية، لأنه كان يعتبر نفسه مسناً أكثر مما يجب لتولي المنصب وغير مناسب لتسلم مركز يستلزم مهارات إدارية أفضل من مهاراته. كان يحلم بالعودة إلى موطنه الأم بافاريا كي يتابع عمله كلاهوتي، غير أن البابا يوحنا بولس الثاني رفض استقالته ثلاث مرات.

مفاجآت البابا الراحل تبدت على هدوء، فقد زاد الجماهير التي تستمتع إلى عظته الأسبوعية كل أربعاء ثلاثة أضعاف أولئك الذين كانوا يحرصون على متابعة سلفه يوحنا بولس الثاني.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أسلوب جذاب

ومع أنه كان يفتقر إلى شخصية يوحنا بولس الثاني الساحرة فإن بنديكتوس السادس عشر تمتع بأسلوب جذاب في تقديم إنجيل صارم، لكن ممكن تطبيقه على طريقة اللاهوتي المتمكن من تعقيدات العقيدة، كما أن رباطة جأشه في العلن تكشف عن كثير من شخصيته.

حين قيل لسكرتيره ذات مرة في لقائه بالأطفال الإيطاليين إنه آن الأوان لإعطاء البابا خطابه، أجاب السكرتير "ليس بحاجة إلى نص، فهو محفور في قلبه"، وعندما كان بنديكتوس السادس عشر يلقي عظة ما فقد كان دائماً يستند إلى مدونات مكتوبة بخط يده.

وضمن الإرث الذي لا يلاحظه أو يلاحقه إلا المقربون من الشأن الفاتيكاني هو مقدرته على لم شمل المخالفين والساخطين بل والشاردين من أبناء الكنيسة الكاثوليكية، فعلى مدى عقود -يقول كريستوفر هيتشنز من "نيوزويك "الأميركيةـ كان يبدو أنه ليس أمام المنشقين إلا أن يعيشوا غرباء مرفوضين طوال حياتهم أو أن يعودوا إلى أحضان الكنيسة، غير أن البابا بنديكتوس قام بدلاً من ذلك بدفع الكنيسة الكاثوليكية إلى اليمين لاستيعاب من خرجوا عليها ورد الاعتبار إليهم.

ومن بين هؤلاء الأسقف ريتشارد ويليامسون، الذي شكك في المحرقة النازية، فضلاً عن أنه اتهم إدارة الرئيس بوش بتدبير هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 لتخلق لنفسها ذريعة لشن الحرب، وقد أثار قرار البابا بنديكتوس الخاص بتطبيق مبدأ لم الشمل على هذه العناصر التي يرى كثيرون أنها تحمل أفكاراً شاذة تساؤلات عميقة، وقد تجمعت تحت مظلة "جمعية القديس بيوس العاشر"، سخط كثير من الكاثوليك المعتدلين إضافة إلى بعض المحافظين.

وبذلك فإن إرث البابا الراحل سيكتب فيه أنه التقى في جو من الألفة والمودة ممثلين من الجناحين، التقدمي والرجعي المتمردين داخل الكنيسة الكاثوليكية. أضف إلى ذلك أنه لمح إلى إمكانية عقد مجمع كنسي مشترك مع أساقفة أرثوذكس، وهو أمر لم يحصل منذ أكثر من ألف عام.

البابا والعالم الإسلامي

على أن إرث البابا بنديكتوس والعالم الإسلامي تعرض لاهتزازات شديدة بعد محاضرة رينسبورغ في ألمانيا، ومع ذلك فقد كانت هناك لقاءات غير مسبوقة لبابا الفاتيكان مع رموز كبرى من العالم الإسلامي، وقد شهدت حبريته أول زيارة لملك السعودية (الراحل) الملك عبدالله بن عبدالعزيز لحاضرة الفاتيكان، وتعد زيارة البابا الراحل لتركيا علامة تصالحية مع الإسلام والمسلمين، كما يذكر أنه توجه إلى القادة المسلمين سائلاً إياهم اتخاذ مواقف أكثر صرامة إزاء العنف.

على أن الإرث الأكبر المفتوح للجدل والنقاش حتى الساعة يظل متمحوراً حول دعوة أوروبا إلى استرجاع عظمتها عبر إعادة اكتشاف جذورها التاريخية، وقد ألف البابا بنديكتوس كتاباً حول هذا الموضوع "بلا جذور" بالاشتراك مع مثقف إيطالي غير مؤمن يشاطر البابا رأيه في أن الأصول العلمانية وراء الأزمة الحضارية التي تشهدها أوروبا.

ربما كان تأثير بنديكتوس السادس عشر في الكاثوليك أقل ظهوراً لكنه فعلي تماماً كتأثيره في الذين سمعوه أو رأوه شخصياً، فجوزيف راتزينجر من أكثر الرجال ثقافة في العالم، كما أنه حافظ وحتى رحيله على حضوره كمعلم قديم وقادر على تبسيط العقائد المسيحية المعقدة ووضعها في المتناول في كل الأحوال.

يرحل البابا بنديكتوس والبابوية ليست لديها القدرة على أو السلطة لتركيع الأمراء الخطائين في الثلج كما فعل البابا غريغوريوس السابع مع الملك هنري الرابع، لكن تكشف البابوية الحديثة عن سلطة أكبر، سلطة الاقتراح والإقناع على الصعيدين الديني والأخلاقي، وثقل الباباوات يظهر من خلال تغيير حياة الناس، ومجرى التاريخ، وهذه في النهاية السلطة الوحيدة التي كان يملكها مؤسس الكنيسة الكاثوليكية سمعان بن يونا أو بطرس الصخرة.

المزيد من تقارير