Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

موسكو تتذكر "خدعة مينسك" وترفض شروط زيلينسكي التفاوضية

خطط جديدة تشي بمرحلة مغايرة لا مكان فيها لأية مفاوضات بعد أن فقدت روسيا الثقة في شركاء الأمس وخصوم اليوم

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع وزير الدفاع سيرجي شويغو أثناء مشاركتهما في يوم البحرية الروسية (أ ف ب)

موسكو تنتفض. إذ أعلنت مصادرها الرسمية أن الرئيس فلاديمير بوتين يقبل التحدي، وقالت بزيف وعود الغرب وما يصدر عنه من تصريحات أو مبادرات سلام، في إشارة غير مباشرة إلى ما تردد خلال الأيام القليلة الماضية حول وجود "خطة سلام" ناقشها الرئيس الأميركي جو بايدن مع نظيره الأوكراني زيلينسكي خلال زيارته واشنطن.

وتذكرت موسكو ما اعترفت به المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل حول أن أوكرانيا والدول الغربية استفادت من "اتفاقات مينسك" التي لطالما انتظرت روسيا والملايين داخل أوكرانيا وخارجها تنفيذها من جانب السلطات الأوكرانية، بوصفها الحل الأمثل للخروج بالأزمة مما بلغته من طريق مسدود خلال السنوات الثماني الأخيرة.

وكانت ميركل قد أعلنت صراحة أن "اتفاقات مينسك" كانت "فرصة مناسبة" استغلتها أوكرانيا والدول الغربية من أجل الحصول على "الفسحة" الزمنية اللازمة لتجهيز أوكرانيا وتدريب قواتها المسلحة استعداداً للحرب مع روسيا، وذلك مما اعتبرته موسكو ليس "خداعاً" لروسيا وحدها، بل وأيضاً لمجلس الأمن الدولي الذي كانت روسيا قد حرصت على رفع "اتفاقات مينسك" لاستصدار قرار في شأنها من أجل تحصينها، وإضفاء طابع الإلزام والالتزام بتنفيذها بموجب قرار صدر عنه بالإجماع، وذلك ما عادت موسكو لتستند إليه فيما تقوله مصادرها الرسمية حول إن "روسيا لم تعد تؤمن بلغة الدبلوماسية، وعليها العمل من أجل تدعيم قدراتها العسكرية"، فضلاً عن إدراكها مغبة احتمالات إطالة أمد الحرب. وهو أيضاً ما تحولت إلى "التلويح" به، لتفنيد ما أعلنته كييف حول الدعوة إلى عقد "قمة سلام" تحت رعاية الأمم المتحدة، لبحث الأوضاع الراهنة حول أوكرانيا في فبراير (شباط) المقبل، من دون مراعاة الواقع القائم، بحسب تصريحات الكرملين. وها هي تعود مرة أخرى إلى التاريخ وما استخدمه الأسلاف من تصريحات على غرار أن "لروسيا حليفين فقط، هما الجيش والأسطول"، وأضافت موسكو المعاصرة إليهما حليفاً ثالثاً قالت إنه "القوات الاستراتيجية الفضائية".

ومن واقع العودة إلى إيمانه "الصوفي" بالتاريخ، على حد تعبير عميد الدبلوماسية الأميركية الأسبق هنري كيسينجر الذي استخدمه في إطار تفسيره لكثير من خطواته وسياساته، كشف بوتين عن بعض ما يضمره من خطط وتوجهات تقول ضمناً إنه يقبل التحدي، ويعلن عن قبوله بشروط اللعبة مع الولايات المتحدة وأوروبا التي تقول "إنهما لا تريدان السلام وتواصلان زيادة الضغط على روسيا"، بحسب تصريحات موسكو الرسمية. ومن هذه التصريحات ما يقول أيضاً إن "روسيا الاتحادية وفي ظل عدم وجود فرص للدبلوماسية، تبدو مضطرة إلى تدعيم قدراتها العسكرية".

بوارج وغواصات

ومن الأقوال إلى الأفعال يتحول بوتين ليعلن في نهاية ديسمبر (كانون الأول) الحالي عن دخول عدد من أهم بوارجه الحربية الاستراتيجية الجديدة إلى الخدمة في سلاح البحرية الروسية في توقيت شديد الحرج. أعلن بوتين عن ذلك صراحة خلال الاحتفالات التي أقيمت لتدشين انضمام الغواصة النووية "الإمبراطور ألكسندر الثالث"، والغواصة التي تحمل اسم القائد العسكري البحري "الجنرال سيموس سوفوروف"، بما تتسلحان به من صواريخ نووية، من طراز بولافا الباليستية العابرة للقارات وغيرهما من القطع البحرية "الضاربة".

ومضى بوتين ليكشف عن "خطة جديدة تقضي ببناء أربع غواصات أخرى خلال السنوات المقبلة، لدعم قدرات القوات البحرية النووية الروسية، وبما يضمن أمن روسيا لعقود طويلة قادمة". وأضاف بوتين أن حاملات الصواريخ النووية الروسية لا نظير لها في العالم، وأن روسيا جهزت هذه الغواصات والسفن السطحية بأنظمة الملاحة والاتصالات والصوتيات المائية الحديثة، وبأسلحة عالية الدقة، مؤكداً أنه "من المستحيل أن يثق المرء بكلمات السياسيين الغربيين الذين لا يعرفون سوى لغة السلاح"، وذلك كله إضافة إلى ما أعلن عنه من بدء استخدام الصواريخ الاستراتيجية بعيدة المدى، ومنها "صواريخ سارمات".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهكذا تتحول روسيا بين عشية وضحاها إلى موقف مغاير يقول برفضها للمباحثات على النحو الذي يريده زيلينسكي، وبموجب ما يطرحه من شروط ترفض السلطات الروسية حتى مجرد التعليق عليها. وثمة من يقول في موسكو، إنه لا أحد يمكنه في روسيا القبول بمجرد النظر في أي من بنودها، وهي التي تفرغ مجمل الموقف من محتواه، وما حققته من تقدم على الأرض بإعلانها عن ضم أربع من المناطق "الأوكرانية سابقاً" في سبتمبر (أيلول)، بموجب نتائج ما جرى من استفتاءات شعبية هناك.

ومن الملاحظ أن روسيا خلصت إلى مثل هذا الموقف، بعد مراجعة شاملة لسير العمليات العسكرية على صعيد المواجهة مع القوات الأوكرانية، المدعومة من جانب فصائل المتطوعين والمدربين والمتخصصين الأميركيين والبريطانيين وغيرهم من ممثلي عدد كبير من بلدان الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، بحسب المصادر الروسية.

مراجعة شاملة

ويفسر مراقبون في موسكو ما تشهده من تحول في السياسات، وما تعلن عنه السلطات الرسمية من قرارات وما تتخذه من إجراءات، بأنها وفي مجملها، نتاج "مراجعة شاملة"، و"إعادة نظر" لما حفلت به السياسات الروسية خلال الأشهر الأخيرة من "قصور وسلبيات"، لم تعلن عنها في حينه. وفي الوقت الذي يتحدث فيه كثيرون داخل روسيا وخارجها عن قصور السياسات الإعلامية الروسية، وعجزها عن مواجهة ما يتدفق من أنباء وتحليلات سياسية غربية، حول سير العمليات العسكرية في أوكرانيا، كشف فاسيلي نيبينزيا المندوب الدائم لروسيا في الأمم المتحدة عن بعض أسباب ذلك، ومنها ما قاله حول "تعرض روسيا لضغوط إعلامية واسعة النطاق".

وفي محاولة لتفنيد ما تعج به وسائل الإعلام الأجنبية من أخبار حول فشل "الحملة الروسية" في أوكرانيا، و"قرب تحرير القوات الأوكرانية لما سبق واستولت عليه روسيا من أراضٍ، ومنها شبه جزيرة القرم"، نقلت وكالة "تاس" ما كشفت عنه مديرة رابطة "الإنترنت الآمن"، يكاتيرينا ميزولينا حول "كلفة الهجمات الإعلامية على روسيا، والمستمرة منذ بداية العملية العسكرية الخاصة التي بلغت خلال هذا العام ما يزيد على 18 مليار دولار"، بحسب تقديرات الخبراء الروس. وأشارت ميزولينا إلى "إنفاق هذه الأموال على شراء مواقع الإعلانات والترويج للدراسات والبحوث، وإنتاج المنشورات التي تحتوي على معلومات غير موثوقة حول روسيا وجيشها باللغة الروسية، وعبر وسائل الإعلام الأجنبية، والمدونين والوكلاء الأجانب".

وبغض النظر عن مثل هذه التقارير والتصريحات، فإن الواقع الراهن في روسيا يقول باعتراف "جزئي" في إدارة "العملية العسكرية الروسية الخاصة" سارعت السلطات الروسية إلى تصحيحه، بما تجريه من تحولات وتحركات، تستعيد روسيا من خلالها بعضاً من الأراضي التي سبق وانسحبت منها وبخاصة في مناطق خاركوف في الشمال وخيرسون في الجنوب. ولعل ذلك هو ما تستند إليه موسكو في تصريحاتها حول عدم التراجع عما سبق ووصلت إليه من خطوط على صعيد جبهة القتال في جنوب شرقي أوكرانيا، وفي الجنوب الذي لم تتخل فيه سوى عن الشطر الأيمن من مدينة خيرسون على شاطئ نهر الدنيبر، على غير ما تقوله وسائل الإعلام الأجنبية.

ومن اللافت في هذا الصدد أن "انتفاضة" موسكو وعودتها إلى التلويح بما تملكه من قدرات وأسلحة، تقولان ضمناً إنها فقدت الثقة في شركاء الأمس وخصوم اليوم، بما تبدو معه وقد عقدت النية على المضي في "عمليتها العسكرية الخاصة" حتى النهاية التي لا تراها إلا في استسلام الرئيس الأوكراني زيلينسكي وقبوله بالأمر الواقع، بل وهناك ما يشير إلى أنها باتت أقرب إلى إعلان استعدادها للدخول في مواجهة مباشرة مع "الناتو" والولايات المتحدة، وذلك في الوقت الذي يشهد فيه ارتباكاً "غير معلن" في صفوف "المعسكر الأوروبي"، وظهور ما يشير إلى استعداد بعض أعضائه للخروج عن "إجماعه" المعهود، على وقع تصاعد المخاوف داخل الولايات المتحدة من احتمالات التورط في تدخل مباشر في "الحرب الأوكرانية"، تحسباً لاحتمالات تكرار تجربة حرب فيتنام، وما واكبها من "انتفاضات" مضادة في الداخل الأميركي، على وقع تصاعد عدد ضحاياها من الجنود الأميركيين إلى جانب ما استوعبته القوات الأميركية من دروس من أفغانستان. وذلك كله، وبحسب تقديرات رجال السياسة والدبلوماسية في موسكو، يجب وضعه في حيز الحسبان، جنباً إلى جنب مع ما يبدو من توجهات نحو التراجع عن فكرة المباحثات مع الجانب الأوكراني. وكان سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسية كشف عن ضرورة الالتفات إلى ما قاله بوتين حول أخطار المماطلة في إجراء هذه المباحثات، باعتباره "تصريحاً لا بد من أخذه على محمل الجد"، على حد تعبيره. وثمة من يقول إن كل ما سبق وصدر عن بوتين ولافروف وممثلي الدبلوماسية الروسية حول المباحثات بات في عداد الماضي. وعلى الرئيس الأوكراني الاستعداد لمواجهة حلقة أخرى في سلسلة الفرص الضائعة، وكان قاب قوسين أو أدنى من الحفاظ على سيادة ووحدة أراضي بلاده في مارس (آذار) الماضي، بحسب تقديرات المصادر الروسية.

ويذكر المراقبون أن زيلينسكي أعلن قبوله لنتائج مباحثات وفده الأوكراني مع نظيره الروسي في إسطنبول تحت رعاية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قبل أن يعود ويعلن رفضه لها، مقروناً بكثير من التشدد في شروطه التي تضمنت ضرورة العودة إلى حدود 1991، ومحاكمة المتورطين في الحملة الروسية ضد بلاده ودفع التعويضات، وغير ذلك مما سبق الإشارة إليه في أكثر من تقرير من موسكو.

وهكذا تتحول موسكو إلى مواقع تهدد بمزيد من "التصعيد"، بما يتضمنه من احتمالات اندثار ما بقي من "بصيص" أمل نحو إنقاذ ما يمكن إنقاذه، بعيداً مما يتكبده الجانبان من خسائر مادية وبشرية تتزايد مع كل يوم جديد من جراء "الإصرار على إطالة أمد الحرب"، تنفيذاً لإرادة خارجية تستهدف تحقيق مآرب ذاتية، بحسب تقديرات مراقبين كثر ممن يدركون حقائق المخططات الأميركية التي تستهدف تقسيم روسيا، وما تضمره من سياسات لإطاحة نظام الرئيس بوتين، بما تبدو معها أوكرانيا بوصفها "الآلية المناسبة" لتحقيقها، من دون التورط في صراع مسلح مباشر مع روسيا.

المزيد من تقارير