Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"ناس الغيوان"... موسيقى تعزف على أوجاع الحياة في المغرب

التحمت بلسان حال الناس وأحلامهم وأحيت نماذج من الأغنية الشعبية لاجتراح مشروع غنائي متفرد بكلماته وألحانه

عمل للفنان الفرنسي جف أيروسول عن فرقة "ناس الغيوان"    (التواصل الاجتماعي)

حظيت فرقة "ناس الغيوان" بمكانة مركزية كبيرة في وجدان المستمع العربي، لكونها أول فرقة شعبية مغربية صرخت في وجه السلطة مع أنها لم تكن معنية بدرجة كبيرة بالنقد السياسي، بل حرصت أن تعبر عن قوة التزامها من خلال ذلك النمط الموسيقي المركب والساحر، الذي يجد عناصره وجمالياته داخل الموسيقى الشعبية المغربية.

أسست فرقة "ناس الغيوان" في ستينيات القرن الماضي بالحي المحمدي أحد أفقر أحياء الدار البيضاء وأكثرها شعبية، ويعني اسم الفرقة "أهل الفَهَامة"، وهم أناس يستنبطون ما وراء العبارة ولا يكتفون بظاهر لفظها، بل ينجذبون عميقاً إلى صفاء استعاراتها ومجازاتها. وأغلبهم شعراء جوالون، تأثروا بالطرق الصوفية الشعبية التي ظهرت بالمغرب مطلع القرن الرابع عشر الميلادي. لعل هذا وراء حرص أعضاء الفرقة على  تأصيل تجربتهم وجعلها ذات سمة تراثية مغربية، بعيداً من تأثيرات الموسيقى الغربية التي كانت تلوح في سماء الغناء العربي، سواء عن طريق الآلة التي قدم عبرها بعض الموسيقيين محتوى فنياً يهجس بالحداثة والتحديث. أو عبر استكناه جوهر الموسيقى الغربية والتعبير عن بعض علاماتها ونماذجها، حتى غدت نسخة مصغرة منها.

عراقة الموسيقى

ليست الأصالة الموسيقية فحسب هي ما أسهمت في ذيوع التجربة الغيوانية فقط، بل حساسية المرحلة التي انتمت إليها الجماعة وتوجتهم فريقاً غنائياً شعبياً ملتزماً قضايا الناس وهمومهم، نظراً إلى كون هذا الالتزام لم يبق حكراً على الأغنية الغيوانية، بعدما امتد واخترق جسد الفن المغربي. وبرزت بعده مشاريع فنية تدين فداحة السياسة والعنف الممارس على حرية التفكير والتعبير، إما على شكل أغان أو أفلام أو مسرحيات كانت قادرة على الجهر بحقائق لم يكن أحد يفكر فيها خلال ستينيات القرن العشرين.

فهذا الاحتقان الفني مهدت له عوامل عديدة تجد ملامحها في التحول الاجتماعي الذي طرأ على بنية التفكير داخل العالم العربي، ورغبة الأفراد في الخروج من براثن التقليد من خلال التعبير عن مآزق الجسد وأوجاعه. لا سيما أن الثورات الباريسية لم تمر من دون أن تترك تأثيرها في البلاد العربية، بخاصة على مستوى الصناعة الفنية التي بدت أقرب إلى ثورة جمالية منها إلى جدل سياسي.

 

 

حداثة أم تحديث؟

عدت هذه المرحلة بمثابة مختبر فني لميلاد الحداثة داخل الأغنية المغربية، لكونها شهدت جدلاً واسعاً في صفوف الفنانين والموسيقيين حول ثنائية الأصالة والمعاصرة داخل النظام الجمالي للأغنية المغربية. فهناك من اقترح التخلي عن الموروث الموسيقي الشعبي والانخراط في الموسيقى الغربية على خلفية الدخول في معترك العولمة وتحولات الزمن الراهن.

غير أن هذه النماذج سرعان ما وجدت نفسها تحاكي الموسيقى الغربية في نظامها وقوالبها وجمالياتها، وتنتج أغاني مستهلكة تحت مسمى الكونية والعالمية من دون البحث عن هويتها الجمالية، بقدر ما عملت على استعارة ذائقة الآخر الفنية، مما جعل أغانيها مستلبة وغير قادرة على خلق مشروع غنائي يعبر عن مضمونها وتاريخها.

في السياق ذهب فريق ثان إلى المزاوجة بين التراث الشعبي المغربي ومحاولة إقحامه داخل مختبر موسيقي غربي. وقدم هذا التيار أغاني مقبولة بالنظر إلى الفريق الأول. غير أن الاكتشاف المذهل كان مع الفرق الغنائية الشعبية التي التحمت بلسان حال الناس وأحلامهم، وعملت بالرجوع إلى نماذج من الأغنية الشعبية المغربية لاجتراح مشروع غنائي متفرد في كلماته وموسيقاه.

نمط المجموعة والبعد الأيديولوجي

يقول الباحث إبراهيم آيت حو "شكل إدخال نمط المجموعات على المشهد الغنائي المغربي العصري في حينه ثورة حقيقية، واختراقاً وتمرداً واضحاً على النظام الكلاسيكي المعتمد على المطرب الواحد، مع ما يستتبع هذا النمط من مميزات فنية وتقنية وإنسانية، شكلت في توحدها وتكاملها تميز هذه التجربة، وأكسبتها أصالتها وجماهيريتها".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أول ما يتبادر إلى الذهن لحظة الاستماع إلى الأغنية الغيوانية هو مدى تشابك معجمها مع الحياة اليومية التي شكلت بفقرها وأوجاعها معيناً لا ينضب بالنسبة إلى المجموعة، بخاصة أن حرصها على مظاهر الفقر والتهميش والتسلط جعل أغانيها تتجه تدريجاً صوب بعد أيديولوجي، بسبب ما وجدت فيها الجماهير قوة الكلمة السياسية المعبرة عن حالات التصدع والتهميش التي كان يعانيها المجتمع في تلك الفترة. والحقيقة أن الأغنية الغيوانية حظيت أكثر من أي فرقة غنائية بالدراسة والفحص والنقد، لكونها مثلت تجربة أليمة في تاريخ الأغنية المغربية.

من النقد السيميائي إلى الفني وصولاً إلى نظيره الأنثروبولوجي، عرفت الفرقة مساراً مغايراً في أذهان الناس، لأن هذه الكتابات فتحت لها أفقاً مختلفاً وحررت عملية الفهم من الإسقاطات الأيديولوجية التي انطبعت في ذاكرة الناس ومتخيلهم الرمزي. وهذا بالفعل ما نتلمسه في عدد من أغاني الفرقة التي بقيت بعيدة من الإسقاط السياسي.

الأمر نفسه ينطبق على فرق أخرى مثل "السهام" و"جيل جيلالة" و"لمشاهب" التي بدت منذ نهاية ثمانينيات القرن العشرين، وكأنها تخلت عن ملامحها السياسية من خلال شعرية الكلمة واتجاهها صوب قضايا أخرى تتعلق بالهجرة والبؤس والبطالة وغيرها.

يقول عمر السيد، أحد المؤسسين لفرقة "ناس الغيوان"، "أرفض أن تصنف أغانينا ضمن الأغنية السياسية، إذ نقدم فناً إنسانياً، لأن الأولى تموت بسرعة بعكس الأخير الذي يظل يقاوم الزمن". وعن كتابة أغاني المجموعة، يقول "كان (العربي باطما) منبع كتابة كلمات أغانينا. لقد كان كاتباً حقيقياً، يغيب لأيام ثم يعود وفي جعبته كنوز من الكلمات والمعاني".

أصالة النسق الموسيقي

راهن "ناس الغيوان" على الآلات التقليدية مثل "الطبل" و"الهزاز" و"البندير" من أجل اجتراح لغة موسيقية جديدة. وعلى رغم مظاهر الاحتقار التي كانت تواجه بها هذه الآلات بسبب حمولتها الشعبية، جعلتها الفرقة ركيزة أساسية لأغانيها. وشيئاً فشيئاً أصبح "البندير" هوية بصرية لباقي الفرق الشعبية الأخرى، بعدما أضحت هذه الآلات تستعمل بقوة وتعبر عن خطاب موسيقي مغربي يمتح عوالمه الجمالية من تراثه الفني.

لكن لاحقاً ستضيف الفرقة آلة السنتير كمحاولة لإعطاء الفرقة بعداً أفريقياً، وهو ما نجح فيه الغيوانيون ووسعوا مساحة انتشارهم، غير أن النظرة التي ظل ينظر بها الغرب إلى فرقة الغيوان، أنها عبارة عن فرقة راديكالية في تاريخ الأغنية المغربية، لكونها وقفت في وجه السلطة وقهرها خلال السبعينيات. لكنها ظلت تجهل الإمكانات الجمالية التي انطبعت بها، سواء على مستوى معجمها الشعري أو آلاتها الموسيقية الشعبية.

اقرأ المزيد

المزيد من فنون