Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ماسيدونيو فرنانديز كتب في العشرينيات رواية ما بعد الحداثة

 رواية أولى تترجم إلى العربية  للكاتب الأرجنتيني الذي سبق عصره وأرسى نظرية طليعية

الروائي الأرجنتيني ماسيدونيو فرنانديز السابق عصره (وزارة الثقافة الأرجنتينية) 

تشكّل رواية "متحف الرواية الأبدية" للروائي الأرجنتيني ماسيدونيو فرنانديز (ترجمة طارق فراج، دار "خطوط وظلال للنشر" – عمّان) تحدّياً مباشراً للقارئ وتشتمل على هذا القدر من الصعوبة والاختلاف. على أن التحدي والصعوبة والاختلاف تكمن في أن النص يطرح أولاً سؤال النوع الروائي ويطيح بخصائصه الفنية فالرواية "لا تريد أن تكون رواية على الإطلاق"، على حد تعبير آدم ثيرويل في مقدمتها الأولى. ثم ثانياً أن  النصف الأول من الرواية يتألف من مقدمات كثيرة تكسر نمطية التقديم، وأن النصف الثاني منها تجري أحداثه المتخيّلة في فضاء روائي غرائبي، وأن النصفين يتكاملان في اختصار المسافة بين الرواية والحياة إلى حد محوها. وثالثاً أن الشخصيات تتحرّك بين الحيّزين وتنخرط في علاقة مع المؤلف وتتدخل في مجرى الأحداث، وأن المؤلف نفسه يتحوّل إلى شخصية روائية يدخل إلى الرواية ويخرج منها، وأن القارئ يتحوّل بدوره إلى شخصية روائية لها رأيها. وبذلك، نكون إزاء نص صعب مختلف يحتاج القارئ معه إلى شيء من الصبر. ومع هذا، فإن عملية القراءة محفوفة بكثير من المتعة والفائدة. ولعل إلقاء نظرة سريعة على الروائي من شأنه أن يجلو هذه المكامن، ويفسر ما تمثّله من تحدٍّ وصعوبة واختلاف.

 

 نستنتج من المقدمات الثلاث الأولى التي كتبها آدم ثيرويل ومارغريت شوارتز والمترجم أن ماسيدونيو فرنانديز (1874- 1952) بدأ في كتابة روايته في العام 1925، وكتبها خمس مرات حتى وفاته، وحاول فيها دحض الأفكار المتداولة عن الوقت، وعمل على تخييل الواقع بما يؤدي إلى التحرر من فكرة الموت، وسعى إلى إرساء نظرية روائية خاصة به تقوم على مشاركة الشخصيات والقرّاء في قراءة الرواية وكتابتها. وهو ما تؤيده "متحف الرواية الأبدية" التي تعتبرها إليزابيت دي بيجوف رفضاً للرواية واستطراداً الوجود. وتؤيده عناوين الأعمال المختلفة للكاتب الصادرة بين عامي 1928 و1999.

  تنظير روائي

 

في النصف الأول من الرواية، نقع على المقدمات الثلاث الآنفة الذكر، وعلى ما يزيد على خمسين مقدمة، مختلفة في الشكل والجهة المستهدَفة والمضمون، وضعها الكاتب بنفسه، في نوع من التدرّب على كتابة "الأعمال الكاملة للمقدمة"، على حد تعبيره، وفي محاولة منه لإرساء نظرية روائية جديدة. ففي الشكل، يتراوح طول المقدمة بين بضعة أسطر وبضع صفحات، وتتوزع على التحية والرسالة والتمهيد والتقديم والإهداء والانطباع والوصف والسيرة الأدبية الذاتية. وفي الجهة المستهدَفة، تستهدف المقدمات المؤلف والشخصيات الروائية والقراء والنقاد والأشياء. وفي المضمون، تنطوي المقدمات على مضامين مختلفة، ويتم الانتقال من مضمون إلى آخر من دون معيار محدد أو قرينة معينة تستدعي انتقال، بل يحصل ذلك في إطار من "الفوضى الخلاقة" القائمة على التشظّي والناسفة للنسق، سواء في المقدمات أو الرواية، ما يجعلها تنتمي إلى مرحلة ما بعد الحداثة على رغم أنها مكتوبة في العشرينيات من القرن الماضي. وبذلك، يسبق فرنانديز عصره، ويرسي أسس نظرية روائية مختلفة. على أن المضمون الأكثر تواتراً في المقدمات يتعلّق بالرواية ما بعد الحديثة وجمالياتها. ومن ميزاتها: إلغاء المسافة بين الرواية والحياة، مشاركة المؤلف والشخصيات والقراء في كتابة الرواية وقراءتها، دخول المؤلف والقارئ إلى الرواية، خروج الشخصيات منها.

 

وبذلك، ينسف فرنانديز في مقدماته النظرية ونصه التطبيقي عناصر الرواية التقليدية، من مقدمة وحكاية وحبكة ونهاية، ويعيد الاعتبار للقارئ فيجعله شريكاً في التأليف بعد أن كان في الرواية التقليدية مجرد طفل يُسقى الأحداث بالملعقة، ويترك له حرية بناء روايته بنفسه بجمع نثارها من الفصول المختلفة، ما يجعل المستهدَف بالرواية هو القارئ المتخطي وليس النظامي التقليدي، وهذا ما يفسّر إمكانية تخلّي الأخير عن متابعة القراءة.

  أسس نظرية

 تتوزع الأسس التي يحاول الروائي إرساءها لروايته الجديدة على المقدمات المختلفة المذكورة أعلاه، وتتناثر فيها على غير انتظام، ويكون على القارئ المتخطي أن يقوم بجمعها وتصنيفها وتبويبها إذا ما أراد رسم ملامح هذه الرواية، ما يتمظهر في أقوال المؤلف، من قبيل: "رواية يتم فيها تصحيح كل تناقضات الحبكة الروائية معاً، عن طريق قطع مستعرض يظهر ما تفعله جميع شخصيات الرواية في كل لحظة" (ص55). "كل شيء معروف في هذه الرواية، أو على الأقل مؤكد، فلا تجبر شخصية على إظهار جهلها علانية، أي أنها لا تعرف ما يحدث لها..." (ص60). "إن وجود هذه الرواية في حد ذاته هو أمر روائي [...]، وأي قارئ يفهمها هو نفسه رواية كذلك" (ص62). "إن المحاولة الجمالية الحالية هي استفزاز للمدرسة الواقعية، برنامج شامل لتشويه الحقيقة أو الواقع الذي تقوله الرواية" (ص89)، على سبيل المثال لا الحصر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

   

في النصف الثاني من "متحف الرواية الأبدية"، يقوم فرنانديز بتطبيق الأسس التي حاول إرساءها في مقدّماته، سواء على مستوى الفضاء الروائي أو الشخصيات أو المؤلف أو القارئ أو الناقد أو الأحداث الروائية؛ فالفضاء الروائي مجازي وواقعي في آن، يتمثّل المجازي  في منزل ريفي في منطقة أسناسيا يدعى "منزل الرواية"، تلتقي فيه الشخصيات الروائية، وتتفاعل في ما بينها وتعيش في ألفة وسعادة. ويتمثّل الواقعي في مدينة بوينس آيريس التي تقوم هذه الشخصيات بغزوها باسم الجمال، في محاولة منها لتطهيرها من الفظاظة والقبح. وهي، بمعظمها، غير محددة الملامح ولا علامات فارقة تميّزها، ويكتفي المؤلف بإطلاق أسماء الجنس عليها (الرئيس، الأب، الحبيبة، الحبيب، البسيط، العاشق، المؤلف، القارئ)، ما خلا قلّة قليلة منها لا يبخل عليها بأسماء العلم من دون وجود معيار واضح لمنح التسمية أو حجبها، فبعض المسماة منها يملك حضوراً ملحوظاً في الرواية (إتيرنا، مايبيجينيوس)، وبعضها هامشي الحضور (بترونا، لارينيف). على أن العلاقات التي تنخرط فيها الشخصيات المختلفة لا تفضي إلى مآلات محددة، وتبقى معلّقة بين: الرواية والحياة، أسناسيا وبيونس آيرس، الحلم والواقع، الصداقة والحب، الحياة والموت. وبذلك، يمكن القول إن معظم الشخصيات في "متحف الرواية الأبدية" هي أقرب إلى الحالات الذهنية المجرّدة منها إلى الشخصيات الواقعية ما يعزز ما بعد حداثية الرواية.

  رواية أفكار

 

تجري معظم الأحداث في "منزل الرواية" في أستانسيا، وتتّخذ شكل حوارات متعاقبة تدور بين الشخصيات التي يوزع الرئيس المهام عليها، وتقوم بغزو بيونس آيرس يومياًّ باسم الجمال لتطهيرها من الفظاظة والقبح، وتعود يومياًّ إلى المنزل للتشاور والتقييم. وهكذا تتحرّك بين حالة صداقة في المنزل تعيش فيها الألفة والسعادة، وحالة عمل في بيونس آيرس تخلو من المشاعر والعواطف، حتى إذا ما أنجزت المطلوب منها وعادت إلى المنزل بشكل نهائي، لا تجد السعادة التي عاشتها سابقاً وتبدأ التفكير في مغادرة الرواية، الأمر الذي يتحقق، في نهاية المطاف، فتخرج منها بظهور منحنية، في إشارة روائية واضحة إلى أن تأثير الزمن لا يقتصر على الشخوص الحقيقية في الحياة بل يتعدّاها إلى الشخصيات الروائية في الرواية. ولأن الحدث المحوري الذي يتكرر في الرواية كلازمة هو اللقاءات الحوارية التي تعقد في "منزل الرواية"، ويتم الخوض فيها في النظرية الروائية والأحوال العاطفية والأفكار الفلسفية وأسئلة الموت والحياة والخلود، ويشترك فيها الجميع، بشكل أو بآخر، يمكن القول إن "متحف الرواية الأبدية" هي رواية أفكار لا رواية أحداث.

  علاقات مجهضة

من خلال الحوارات المتعاقبة، نتعرّف إلى العلاقة غير المتكافئة بين الرئيس وإتيرنا، المرأة المثالية الخارقة، وإحساسه بالنقص إزاءها رغم ما يمتلكه من سلطة الرئاسة، وإذا بسلطة الجمال تتفوق على ما عداها. ونتعرّف إلى علاقة الحب بين مايبيجينيوس والحبيبة التي لا تؤتي ثمارها على رغم تبادليّتها. ونتعرّف إلى العلاقة الملتبسة بين الأب وابنته الحبيبة. ونتعرّف إلى العلاقة المستحيلة بين الروائي المؤلف وإحدى شخصياته الروائية، وسواها من العلاقات التي لا تفضي إلى خواتيم منشودة واضحة في نهاية الرواية. ومن خلال هذه الأنماط العلائقية، يطرح فرنانديز في روايته الصعبة المختلفة ما بعد الحداثية أسئلة الحب والصداقة والموت والرواية والفن والوعي...، في توليفة روائية نادرة، تتشابك فيها الخيوط، ويختلط الحابل بالنابل، ويكون على القارئ المتخطي أن يتنكب عناء فك التشابك وفصل المختلط، ويعود من القراءة بالألم المحفوف بلذة الاختلاف، وبالتعب المقرون بمتعة الاكتشاف.   

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة