Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

وثائقيات كرة القدم... "ضربات حرة" لـ "الخيال والذاكرة"

بعضها تجاوز الإطار الرياضي إلى آفاق المغامرة الجمالية والآخر وقع تحت سطوة النجوم وسيرهم المذهلة

المخرج البريطاني آسيف كاباديا يحمل وشاحًا لدى وصوله العرض الأول لفيلمه "دييغو مارادونا" في أمستردام (أ ف ب)

لسنوات طويلة ترسخ الاعتقاد أن الأفلام الوثائقية تعد جنساً بصرياً مستقلاً عن الفنون الأخرى مثل الفوتوغرافيا واللوحة والسينما، لكن مع الطفرة البصرية المهمة التي ألمت بالفن المعاصر تغيرت كل مفاهيمنا حول هذه الصناعة الفنية وجعلتها موضع شك ونقد وتفكيك، إذ أصبحت الأعمال الوثائقية تختزن في باطنها بعضاً من التخييل الإبداعي الذي يحول الوثائقي إلى فن.

وخلال السنوات الأخيرة برزت أهمية هذه الوثائقيات بوصفها أعمالاً بصرية قادرة على انتزاع صور أخرى من المجتمع وذاكرة الناس وأحلامهم، لهذا يعتبر الفيلم الوثائقي أكثر الأنماط الفنية قدرة على التخييل والتوثيق في آن واحد، لا سيما حين يتعلق الأمر ببعض الأحداث التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية والرياضية، فهذا النمط الفني البصري يدخل في اشتباك حقيقي مع عنصر الحدث الذي سرعان ما يحوله إلى صورة أيقونية تستبد بالذاكرة الجمعية وأحلامها.

وثائقيات كرة القدم

وإذا كان الفيلم الروائي يشتغل وفق نمط جمالي يستند إلى عنصر "التخييل" باعتباره مفهوماً منه تتبلور الصور والمشاهد، فإن الوثائقي ينطلق من مفهوم مركزي يتأسس على التوثيق عبر صورة تحفر مجراها عميقاً في الذات الفردية وأهوالها، فتكون المشاهد عبارة عن صور توثيقية مفتوحة على تحولات الوجود، انطلاقاً من الذات الفردية في محاولتها العمل على إقامة مساواة بصرية بين فتنة التوثيق وسلطة الحكاية.

وتختلف الأفلام الوثائقية باختلاف أنواعها ودلالاتها ورمزية صورها بالنسبة إلى الموضوع، فإذا كانت الوثائقيات الفردية تستند إلى هاجس يقوم على محو الفواصل والسياجات بين التوثيقي والتخييلي كما نعثر عليها في الفيلم اللبناني مع كل من برهان علوية ومارون بغدادي وجوسلين صعب وجان شمعون، فإن نظيرتها المرتبطة بالغناء أو كرة القدم تنزع نحو صورة أكثر تجذراً في التوثيق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ففي الأولى يعمل الفيلم بوصفه مختبراً لتوليد الصور واجتراح أفق بصري إن كان يستند إلى واقع مأزوم، لكنه من جهة أخرى يبقى مرتبطاً بلحمة الخيال والإبداع داخل الوثائقي نفسه، فالواقع في سينما جوسلين صعب يدين فداحة الحرب الأهلية اللبنانية ويعري أعطابها وويلاتها ومدى تأثيرها في الراهن الاجتماعي اللبناني.

وجوسلين إذ تستعيد في عدد من أفلامها الوثائقية صورة بيروت المنكوبة، فإنها تعمل جاهدة على توثيق خرابها وحكاية ناسها وتحويلها إلى صورة تتأرجح بين التخييل والتوثيق، وحين توضع الصور داخل قالب درامي فإن النص يفرض رؤيته الخاصة عليها ويجعلها تنفي كل عملية إبداعية تستند إلى الأرشفة والتوثيق.

يقول الناقد نديم جرجوره، "الوثائقي الذي تصنعه جوسلين صعب لن يبقى أسير بيئة واحدة، فهو منبثق من عمل صحافي يدفعها إلى اكتشاف بلدان وتجارب مثل مصر وحرب أكتوبر (1973) وكردستان وأحوالها والعراق وسوريا وإيران والجولان، لكن هذا لاحق لدراس العلوم الاقتصادية في باريس قبل عملها في الصحافة الإذاعية والتلفزيونية لحساب محطات أوروبية وأميركية شمالية ويابانية، ولقد كانت فترة مفيدة جداً لها إذ نما فيها حس المغامرة والمواجهة والتحدي بارتكاز ثقافي على علم ومعرفة ووعي، لذا تنشأ العلاقة بينها وبين الكاميرا التلفزيونية والسينمائية الوثائقية بسلاسة، فتتحول العدسة إلى عين تراقب وتلتقط وتحتفظ، والكاميرا إلى أرشيف يوثق ويساجل ويكشف".

أيقونات خالدة

أما في وثائقيات كرة القدم فإن الصورة تنفي كل بعد تخييلي من خلال التركيز على توثيق حياة اللاعبين وفق مستويات متباينة، إما بالاستناد إلى أرشيف المجلات والصحف والفيديوهات، أو الانطلاق من صورة وثائقية خالصة ومباشرة في حال ما إذا كان اللاعب حياً. وهذا الاختلاف تتحكم فيه عوامل منهجية أكثر من كونها فنية أو جمالية، إذ عادة ما تكون هذه الأفلام ذات نمط ترفيهي يستغل سيرة اللاعب داخل كواليس الملاعب ولحظات التدريب وحياته اليومية الخاصة في فيلم مرتبك الصور والمشاهد.

 

وفي مقابل الوثائقيات يعثر المتابع على كثير من الأفلام الروائية التي اشتغلت على كرة القدم من الناحية التخييلية، من هندية وعربية وعالمية، وتختلف هذه الـ "فيلموغرافيا" بحسب المواضيع والدوافع الجمالية التي تحرك بنية السيناريو، فعلى رغم قلة هذه الأفلام التخييلية ومدى اختلاف مرجعياتها السياسية ودلالاتها الفنية فإنها تبقى مؤثرة بالمقارنة مع نظيرتها الوثائقية، كونها تدخل في عملية إبداعية تصبح فيها كرة القدم مجرد موضوع سينمائي مطبوع بهواجس المغامرة الجمالية.

حصل فيلم "الهروب إلى النصر" (1981) للأميركي جون هيوستن على إشادة كبيرة من النقاد، كونه يمثل نموذجاً قوياً للأفلام الروائية التي اشتغلت بطريقة عميقة على كرة القدم، بعد أن استفاد المخرج من وجوه سينمائية ورياضية مثل سيلفستر ستالون ومايكل كين وبوبي مور ثم البرازيلي بيليه.

وقد حصد الفيلم جوائز مهمة واحتل مراتب متقدمة بسبب أهمية النص وقدرته على تجاوز الإطار الرياضي من خلال طرق باب السياسة من وجهة نظر رياضية.

يحكي الفيلم قصة أسرى معتقلين خلال الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) داخل مخيم اعتقال ألماني بعد أن تم وضع خطة دقيقة للهرب تحت ذريعة كرة القدم، لكن ما وقع في النهاية كان ساحراً ومدهشاً لعشاق السينما، إذ رفض أحد اللاعبين (بيليه) الهرب من السجن قبل الانتهاء من المقابلة الكروية، معتبراً أن فوزهم سيريح أنفسهم ويجعلهم أحراراً وهم على عتبة الأسر.

لقد تجاوز جون هيوستن من خلال صوره السينمائية البعد الرياضي للعبة بعد أن قدم لها دلالات سياسية تنتقد الواقع وتدين الذاكرة وأوجاعها، وقد اعتبر الفيلم أهم ما أنجز سينمائياً حول كرة القدم لكون المخرج لم يستسلم إلى صور أيقونية تجعله ينصاع بشكل كلي للأبطال واستغلال نجوميتهم داخل فيلمه، بقدر ما جعل من عنصر الخيال خيطاً مضيئاً له حتى أصبحت كرة القدم مجرد موضوع جانبي لاشتغال مكثف تمليه الصورة ومتخيلاتها الجمالية.

فتنة التوثيق وسلطة التخييل

في مقابل الفيلم الروائي يسجل المشاهد مدى تكاثر الأفلام الوثائقية من حيث الإنتاج، إذ سرعان ما يقوم مخرجون مغمورون باصطياد سيرة لاعب وتحويله إلى أيقونة سينمائية، ويعتمد هذا النوع من الوثائقيات على إمكانات مشاهد مكررة تستعرض بعناية فائقة سيرة اللاعب في علاقته بحياته اليومية المرتبطة بجمهوره وتدريباته داخل البيت والملعب.

هذا الأمر يتكرر من فيلم إلى آخر، وبالصور نفسها مع اختلاف في سوسيولوجية الشخصيات وجمالية الأكسسوارات، لكن طريقة الرؤية تبقى واحدة متمثلة في استغلال تراث اللاعب والتعامل معه على أساس أنه نجم من دون التفكير في اقتحام عزلته ومشكلاته الشخصية مع زوجته وأولاده والنادي والفريق ومؤسسات الإشهار، فحياة اللاعب لا تخلو من المشكلات والمفاجآت التي يمكن بالنسبة إلى المخرج أن تغدو مادة دسمة لاجتراح صورة وثائقية قوية على مستوى المادة والتخييل.

 

ونظراً إلى الأهمية التي باتت تحتلها وثائقيات كرة القدم في وجدان المشاهد فقد نشرت مجلة "فرانس فوتبول" المعروفة عام 2020 قائمة لـ 10 أفلام كروية مثل "على طريقة كلارفونتان" و"بنزيمة.. معركة 4 نجوم" و"إنها قصة هدف" و"أقتل الحكم" و"اللغز تيري هنري" وغيرهما من الأفلام الوثائقية التي تغوص خلال سيرة كرة القدم في علاقتها بالصورة.

غير أن الملاحظ في عناوين هذه الأفلام المذكورة وغيرها أن مواضيعها لا تبقى حكراً على اللاعبين بل تغوص في سير أخرى ذات علاقة بكرة القدم ككل مثل الحكم والمدرب والجمهور والعائلة.

وتبقى أهم الأفلام هي تلك التي اعتمدت مقاربة بصرية مختلفة فحاولت المزج بين التوثيقي والتخييلي، فعلى رغم ما قد يتسم به الوثائقي من أرشفة وإعادة كتابة تاريخ للاعب، فإن البعد التخييلي يظل مكوناً جمالياً في بنية وثائقيات كرة القدم كونه يخرجها من الجمود والنمط الترفيهي الذي يحول اللاعب إلى أيقونة بصرية والفيلم إلى دعاية محضة كما هي الحال في فيلم "ديغو مارادونا" (2019) للمخرج البريطاني آسيف كاباديا، إذ يحضر ثقل الشخصية على طريقة اشتغال الوثائقي، فالموضوع يفرض نفسه على المخرج ويجعله ينصاع إلى هواجس توثيقية محضة كون سيرة هذا اللاعب تبقى مذهلة ومتشعبة وتصطدم بأسئلة تتعلق بالسياسة والاجتماع.

المزيد من سينما