Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

من الـ"أفروسنتريك" إلى نفرتيتي... الشمال والجنوب يلاحقان الحضارة المصرية

يزعم أتباع المركزية الأفريقية أن ملوك مصر القديمة هم الأفارقة السود وأن سكان مصر المعاصرين هم أحفاد المستعمرين

تمثال مصري قديم للإله القمر خونسو عثر عليه في الكرنك ويعود تاريخه إلى عهد الملك توت عنخ آمون (أ ف ب)

هل تتذكرون الفيديو كليب لأغنية مايكل جاكسون "Remember the Time" الصادر عام 1991، والذي ظهرت فيه الملكة نفرتيتي والمصريون القدماء من ذوي البشرة السوداء؟ ربما لم يهتم كثيرون وقتها بهذه المغالطة، لكن الواقع هو أن ثمة تياراً أيديولوجياً يعتقد أن "الحضارة المصرية بناها الأفارقة السود، بل إن أولئك أنفسهم هم من أسسوا الحضارة الإغريقية ومنها الحضارات الأوروبية"، وهو تيار يسعى منذ عقود للتغلغل في الأكاديمية الغربية بداعي "الدفاع عن تاريخ السود الذي قمعه الرجل الأبيض".

فما إن تم الإعلان عن زيارة الممثل الكوميدي الأميركي كيفن هارت إلى القاهرة لإقامة عرض "ستاند أب" (stand-up comedy show) حتى لاحقته حملة واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي رافضة حضوره إلى مصر، بسبب تعليقات سابقة له حول مصر القديمة تتعلق بما يعرف بـ"المركزية الأفريقية" أو "الأفروسنتريك"، وهو نهج لدراسة تاريخ العالم يهدف إلى تسليط الضوء على دور الأفارقة السود في تشكيل التاريخ الإنساني، والذي يزعم مؤيدوه أن ملوك مصر القديمة الذين أسسوا حضاراتها قبل آلاف السنين هم من الأفارقة السود وأن سكان مصر المعاصرين ليسوا من أحفاد المصريين القدماء بل هم جماعات غزاة أتوا إلى مصر.
ودشن المصريون هاشتاغاً على "تويتر" بعنوان "كيفن هارت ليس مرحباً به في مصر"، لإلغاء العرض الكوميدي المقرر، حيث حظيت الحملة بتداول واسع وانهالت التعليقات الرافضة لزيارة هارت على حسابه الشخصي وحسابات الشركة المنظمة للزيارة، مما اضطر الأخيرة إلى غلق قسم التعليقات على المنشورات الخاصة بالعرض على حسابها بموقع "فيسبوك". وشهد حساب هارت جدلاً ونقاشاً ساخناً بين المتابعين المصريين والأميركيين الأفارقة وغيرهم من مؤيدي نظرية "المركزية الأفريقية"، وتضمنت منشورات المصريين صوراً لرسومات مصرية قديمة يظهر فيها المصريون والأفارقة جنباً إلى جنب حيث تختلف ملامح الوجوه بشكل واضح.
وعلى رغم مرور نحو أسبوعين على الحملة المصرية الرافضة لزيارته، لم يعلق الممثل الأميركي الشهير حتى الآن كما التزمت الشركة المنظمة "أر برودكشنز" الصمت أيضاً.

نسخة سوداء من "المركزية الأوروبية"

ومن الجدير ذكره أن حركة "الأفروسنتريك" ليست الوحيدة التي لديها مزاعم في الحضارة المصرية وليست وحدها التي تنسب تلك الحضارة العظيمة إليها أو كما يتهمها المصريون بمحاولة سرقة حضارتهم، فسابقاً زعم اليهود أنهم من بنوا الأهرامات خلال فترة استعبدهم فيها ملوك فراعنة، وفق ما جاء في بعض الأديان التي تذكر انتقال اليهود للعيش في مصر لعقود عدة، ويزعم مؤرخون أرمن أن الملكة نفرتيتي هي بالأصل أميرة أرمينية تزوجت حاكماً مصرياً قديماً، ومع ذلك فإن "الأفروسنتريك" أو أتباع "المركزية الأفريقية" ربما هم الأكثر ضجيجاً ومدعاة للقلق بالنظر إلى تغلغلهم في الحقل البحثي الأكاديمي، فما "المركزية الأفريقية"؟

تشير الدراسات إلى أن أصل تلك الحركة يعود إلى نهاية القرن التاسع عشر، أسسها مثقفون أميركيون من أصول أفريقية (أفرو أميركان)، لتسليط الضوء على مساهمات الثقافات الأفريقية في تاريخ العالم، وهي قضية عادلة لكن في العقود اللاحقة انحرفت لتتخذ مساراً يعتدي على حضارات الآخرين وبخاصة في الشمال، لذا يعتبر كثيرون من العلماء أن نظرية "المركزية الأفريقية" هي بمثابة نسخة سوداء من "المركزية الأوروبية" البيضاء. إذ يدعي أتباع تلك النظرية أن الحضارة المصرية القديمة هي حضارة أفريقية سوداء، وأن المصريين المعاصرين هم أحفاد المستعمرين الذين توالوا على مصر. كما يزعمون أن الحضارة الإغريقية في اليونان أسسها المصريون، وأن حضارة اليونان كانت النواة لحضارة الغرب ومن ثم فإن الحضارات حول العالم منشأها الأفارقة السود.

الأيديولوجية التي تقوم عليها هذه النظرية ربما انطلقت من الصراع أو الكراهية للمستعمر الأبيض. ويقول إيهاب عمر، الباحث السياسي لدى المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، "إن المركزية الأفريقية أو الفاشية السوداء تزعم أن الغرب يخفي أسراراً علمية حول الأصول الأفريقية للحضارة المصرية من أجل إخفاء تفوق الرجل الأفريقي الأسود على الرجل الأوروبي الأبيض. وتلك النظرية تقوم على نسبة كل علوم العالم إلى الشعب الأفريقي الذي عاش واستوطن مصر بدلاً من شعبها البدائي الهمجي، وأن هذا الشعب الأفريقي هو صاحب الحضارة المصرية القديمة، ولكن عقب ذلك جرى الغزو اليوناني والروماني والعربي مما جعل الشعب الأفريقي -المصري الأصلي- يهرب من مصر إلى أفريقيا والعالم، بينما الشعب الموجود في مصر اليوم هو مجموع أبناء المستعمرين لمصر".

ووفق مقال بحثي نشرته جامعة بنسلفانيا لـ"آن ماسي روث" وهي أستاذة علم المصريات وعملت بعدد من الجامعات الأميركية ومن بينها "جامعة هاورد" في واشنطن، المختصة بأبحاث السود، فإن "علم المصريات الأفرو مركزية"، كما يمارس اليوم، وراءه مؤلفات علمية دولية. وبحسب المقال ذاته المنشور في التسعينيات فإن الحركة كانت أكثر بروزاً في فرنسا مما هي عليه في الولايات المتحدة، لكنها تتخذ في الأخيرة شكل حركة سياسية وتعليمية تهدف إلى زيادة احترام الذات والثقة لدى الأميركيين الأفارقة من خلال تأكيد إنجازات الحضارات الأفريقية، وبخاصة مصر القديمة. على هذا النحو يتم الترويج لها في الكتب والكتب المدرسية وحتى الملصقات التعليمية التي ترعاها مؤسسات تجارية كبرى ويبدو أنها حققت نجاحاً كبيراً في أهدافها التعليمية، إذ يتم تدريسها للطلاب من المدرسة الابتدائية وحتى المستوى الجامعي في جميع أنحاء أميركا. ويضيف المقال أن "هذا النوع من علم المصريات لا علاقة له بعلم المصريات الذي يمارسه علماء المصريات المحترفون".

جدليات عنصرية

وتقول البروفيسور الأميركية التي لها عشرات المؤلفات في علم المصريات "يعتبر كثيرون منا توغلات المركزية الأفريقية في مجالنا مصدر إزعاج. في معظم الحالات يكون رد فعلنا على المركزية الأفريقية هو التجنب: فنحن نتعامل مع القضية من خلال رفضها على أنها هراء، والاستخفاف بمعرفة مؤيديها، والعودة إلى علم المصريات الحقيقي. مع ذلك، من خلال القيام بذلك فإننا نتجاهل خطراً ونفوت فرصة". وترى آن ماسي روث أنه "لا يجب التعامل بعداء مع أولئك المركزيين لكن بدلاً من ذلك يجب تفعيل الحوار والعمل على تدريب جيل من الباحثين الأفرومركزيين على الأساليب العلمية في علم المصريات ومن ثم سيصبحون في ما بعد قادرين على تصحيح مفاهيمهم. ويجب على معلمي النظرية الأفريقية أن يشجعوا الطلاب على التحقيق في الأدلة الأولية وصقل معرفتهم بمصر والحضارات الأفريقية الأخرى".
يتفق باحثو التاريخ والأنثروبولوجيا وعلماء المصريات على استناد جدليات "الأفروسنتريك" إلى ادعاءات عنصرية لا أساس لها وبلا سند تاريخي أو علمي، بل إن بعض الباحثين من مؤيدي المركزية الأفريقية مضللون في واقع الأمر. ويشير كوامي أنتوني أبياه، وهو مؤرخ غيني أميركي عمل لدى عديد من الجامعات في الولايات المتحدة وألمانيا وغانا وجنوب أفريقيا وفرنسا، إلى أن "أصحاب نزعة المركزية الأفريقية يستندون إلى أفكار خاطئة عن العرق، فضلاً عن أنها عنصرية جنباً إلى جنب مع نزعة غير ديمقراطية للاحتفاء بإنجازات الأقوياء". ويشير إلى أن "اهتمام الأفرو-مركزيين بلون قدماء المصريين ينبع من فكرة أنهم إذا كانوا من السود فإنهم من العرق نفسه مثل الأفارقة السود المعاصرين، مما يجعل إنجازات قدماء المصريين واحدة من الأصول الأخلاقية للسود المعاصرين". ويضيف أنه "عند اختيار الحديث عن مصر وتجاهل بقية أفريقيا والتاريخ الأفريقي فإن دعاة المركزية الأفريقية يتشاركون التحيز الأوروبي ضد الثقافات الأخرى. فأتباع ذلك الفكر اختاروا مصر تحديداً لأن المركزية الأوروبية سبقتهم بمطالبات في البلد ذاته".
وبحسب عالم الآثار المصري زاهي حواس فإن "تلك الأيديولوجية لا أساس لها من الصحة". وأوضح حواس، وهو وزير آثار سابق ويحظى بشهرة عالمية في علم المصريات، في تصريحات تلفزيونية سابقة، أن "الأفارقة السود يستغلون جزءاً من التاريخ لا علاقة له ببناء الحضارة المصرية عندما حكم الكوش مصر في العصر المتأخر ولفترة وجيزة خلال مرحلة الأسرة الخامسة والعشرين (746 قبل الميلاد إلى 653 قبل الميلاد)، وهي مملكة أفريقية قديمة كانت موجودة على طول وادي النيل في ما هو الآن شمال السودان وجنوب مصر"، مضيفاً أن "حكم الكوش جاء بعد بناء الأهرامات بعقود، وأن الأفارقة السود لا صلة لهم ببناء الأهرامات من الناحية العلمية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


نفرتيتي الأرمينية

 السبب الذي يقف وراء دفع كثيرين حول العالم بمثل هذه المزاعم يمكن تلخيصه ببساطة بما قدمته الحضارة المصرية القديمة للبشرية من علوم أسهمت في تطوير البشرية. فبرأي مؤرخين وعلماء أنثروبولوجيا غربيين فإن الأهرامات وأبوالهول ربما يكونان كافيين لأن يجعلا كثيرين يرغبون في الانتساب إلى تلك الحضارة. ففي أرمينيا، هناك اعتقاد بأن الملكة نفرتيتي أرمينية الأصل وليست مصرية، إذ يعتقد بعض المؤرخين الأرمن أن الملك أمنحوتب الرابع (1383-1375) تزوج بالأميرة الأرمينية توتوخيبا المعروفة في مصر القديمة بـ"نفرتيتي"، التي انتقلت بالأساس إلى مصر للزواج من أبيه أمنحوتب الثالث قبل وفاته. وبحسب زعمهم فإن تلك الأميرة من مملكة ميتاني في المرتفعات الأرمينية.
ووفق رد منشور في صحيفة "الأخبار المصرية" بتاريخ 3 أغسطس (آب) 1961، أعادت "مؤسسة هنداوي" نشره على موقعها الإلكتروني، فإن اللبس في تحقيق نسب نفرتيتي لدى الأرمن ربما حدث نظراً إلى تاريخ الفترة التي تحدث عنها، وهي فترة مشهورة في تاريخ الشرق الأوسط القديم بكثرة علاقات المصاهرة بين الفراعنة وملوك الحيثيين والميتانيين، وغيرهم من شعوب الحدود بين آسيا الصغرى وما جاورها إلى الشرق وإلى الجنوب، ومن هؤلاء قبائل أرمينية إذا صح أن قبائل الحيثيين جميعاً ترجع في أصولها إلى شواطئ بحر الخزر من مشرقه إلى مغربه، حيث تتلاقى الحدود بين تلك الأقاليم والأقاليم الأرمينية إلى اليوم.

وقد فند عالم المصريات البريطاني الشهير، السير ألان غاردنر في كتابه "مصر الفراعنة"، الصادر عام 1961 في أكسفورد، هذه المزاعم. فمن المعروف أن نفرتيتي كانت بنت الحاجب الكاهن "آي"، وهو من سلالة الكهنة والرؤساء الأقدمين بوادي النيل. ووفقاً لغاردنر فإن الادعاء الأرميني يقوم في سبيله عائق يحول دون قبوله، وهو أن المعروف أن نفرتيتي كان لها أخت، وأن "تي" قرينة الحاجب الكبير كانت ترضعها وتربيها.

أكذوبة عبيد الأهرامات

وبينما يزعم بعض اليهود أن أسلافهم هم من بنوا الأهرامات خلال فترة استعبادهم في مصر القديمة، فإن هذه المزاعم تبددت بعدما عثر الأثريون على أدلة بأن العمال الذين عملوا في إنشاء الأهرامات كانوا من السكان المحليين الذين تم دفع أجور لهم مقابل خدماتهم وتم بناء قبورهم بجانب تلك الأهرامات تكريماً لجهودهم. وتشير مجلة "ديسكفر" العلمية إلى أنه في عام 1990 تم العثور على عدد من المقابر المتواضعة لعمال الأهرامات على مسافة قصيرة من مقابر ملوك الفراعنة. وفي الداخل اكتشف علماء الآثار جميع السلع الضرورية التي سيحتاج إليها العمال للتنقل عبر ممر إلى الحياة الآخرة، وهو كرم كبير من غير المرجح أن يمنح للعبيد العاديين، وفق تفسير العلماء.

وتم أيضاً العثور على ما يعتقد أنه كان منزلاً أو مقر إقامة لأولئك العمال، وداخل تلك الثكنات الكبيرة عثر العلماء على بقايا كثيرة من الوجبات التي تناولوها، بما في ذلك وفرة من الخبز واللحوم. ويمكن العثور على رسومات هؤلاء العمال في جميع أنحاء المباني التي قاموا بإنشائها. كانت العلامات المكتوبة باللغة المصرية مخفية على كتل داخل الأهرامات حيث تم تسجيل أسماء مجموعات عمل مختلفة، بما في ذلك "سكارى منقرع" و"أتباع التاج الأبيض القوي لخوفو"، وتم تسمية كلتا المجموعتين على اسم الفراعنة في عصرهما.

المزيد من تحقيقات ومطولات