Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سركون بولص أصدر مجلة "دجلة" في أميركا بحثا عن دعم

عدد يتيم ضم قصيدة طويلة بالإنجليزية لإتيل عدنان وقصائد عربية

سركون بولص أيام سان فرانسيسكو (منشورات كيكا)

مفاجأة جميلة حملتها منشورات كيكا في لندن إلى قراء الشاعر سركون بولص هي عبارة عن كتاب توثيقي باللغتين العربية والإنجليزية للكاتب والأكاديمي العراقي صالح جواد الطعمة (جامعة إنديانا - الولايات المتحدة الأميركية) عن سركون بولص، الشاعر العراقي المولود في منطقة على ضفة نهر الفرات في مارس (آذار) 1944 لعائلة آشورية، اضطرتها الظروف إلى الانتقال لاحقاً إلى مدينة كركوك المتعددة الأعراق، فتسجلت للشاعر تجربته الأولى مع النزوح وهي ستكون بداية لسلسلة طويلة من النزوح والتنقل بين مدن وبلدان عدة.

في كركوك، تمكن سركون، بين العرب والأكراد والأرمن والتركمان والآشوريين، من التواصل باللغتين الشائعتين في منزله، الآشورية والعربية، وبدأ في مراودة الشعر وهو لم يزل في الثانية عشرة كما حال الشعراء. ومن حينها لم تتوقف كلماته عن التدفق والتجريب وقد استحوذ عليه سحر الكلمة أيما استحواذ، كما كان للتعددية الثقافية والاحتكاك بمجموعة متنوعة من الكلاسيكيات الأدبية، أثر حاسم في تطوير أسلوبه الشعري على نحو فريد، وتشكيل رؤية عالمية لم تكن شائعة في بلده آنذاك.

تأشيرة الدخول

على امتداد الصحراء برمالها الحارقة، توجه سركون في عام 1966 إلى بيروت سيراً على قدميه، بلا أوراق هوية، وهدفه أن يطلع على أعمال آلن غينسبرغ وجاك كرواك وغيرهما من رواد الحداثة في مكتبة الجامعة الأميركية - بيروت التي كانت زاهرة آنذاك. كان يعمل على إعداد ملف عن شعراء "جيل البيت" أو "البيتنكس" في مجلة "شعر" التي نشر فيها مجموعة من النصوص الشعرية المترجمة من اللغة الإنجليزية، والتي كانت الحافز للوصول إلى سان فرانسيسكو باعتبارها موطن الحداثة في الشعر الأميركي.

يصف بيتر كلارك لحظة وصوله إلى سان فرانسيسكو، في مقال نشرته "الغارديان" البريطانية يناير (كانون الثاني) 2008، قائلاً "في عام 1967، قدم شاب عراقي رقيق الحال يبلغ من العمر 23 سنة، من دون وثائق، طلباً إلى السفارة الأميركية في بيروت للحصول على تأشيرة لدخول الولايات المتحدة. ادعى هذا الشاب أنه كاتب ولديه معرفة وثيقة بالشعر الأميركي. وحين سأله السفير عن الشعر، بدأ بوالت ويتمان وأشار إلى عديد من الشعراء المعاصرين، الذين لم يسمع السفير عنهم، غير أنه تأثر قائلاً (هذا يكفي!) ومنحه تأشيرة الدخول".

في سان فرانسيسكو، أتيح لسركون انفتاح غير مسبوق على الجماعات الأدبية والفنية وشرع في ترجمة معظم الشعراء الحديثين إلى العربية، مثل ألن غينسبرغ وكارل سنايدر ولورنس فيرلينغيتي، وترجم سوناتات شكسبير وشيلي وإزرا باوند وتيد هيوز وسيلفيا بلاث. وعلى رغم الظروف المضطربة تمكن من ترجمة أكثر من مئة قصيدة من الشعر الأميركي والبريطاني وسواهما. ودفعته الظروف بعد وصوله بعامين فحسب إلى إصدار مجلة عنوانها "دجلة-TIGRIS " ضم عددها الأول واليتيم، مجموعة من القصائد لستة شعراء عرب قام وحده بترجمتها باستثناء قصيدة للشاعرة الكبيرة إتيل عدنان، وهي وفق الترتيب: "أوراق الشتاء" لفؤاد رفقة وقصيدة "ميلاد" ليوسف الخال و"يبوس" لإتيل عدنان وثلاث قصائد لكل من سركون بولص ومؤيد الراوي وقصيدة واحدة لرياض فاخوري.

ثلاثة أسباب للنشر

لم يصدر من المجلة سوى عدد واحد، قام الناقد والأكاديمي صالح جواد الطعمة بتضمينه كاملاً في كتابه لثلاثة أسباب، أولها أن المجلة تمثل منجزاً إيجابياً مهماً في بدء حياة بولص الأميركية، يوحي بالاستقرار والاستمرار من دون أن يحققهما، لأننا نعلم بأنه منذ بدء هجرته إلى سان فرانسيسكو، مدينة الحلم الثالثة بعد بغداد وبيروت، حاول أن ينغمر في الحياة الأميركية بما فيها حركة الجيل الغاضب "البيتنكس" التي كان معجباً بها وهو في بيروت، وقطع فيها شوطاً متفاعلاً مع بعض أعلامها من الشعراء أمثال ألن غينسبرغ وغاري سنايدر ومايكل مكلور، وكان قد ترجم لهم في بيروت قبل الالتقاء بهم، غير أنه سرعان ما جابه مصاعب شتى تفرضها متطلبات المعيشة اليومية في أميركا وهي لا تخلو من قسوة أو صرامة، وقد عاشها عاملاً هنا وهناك في بعض الشركات أو المؤسسات، كما ذكرت الشاعرة والفنانة الكبيرة إتيل عدنان في رسالة شخصية (24/2/2013) ولكن من دون أن يضمن لنفسه نوعاً من الأمان والاستقرار والنظام في حياته. 

والسبب الآخر الذي يبرر إعادة نشر العدد اليتيم المذكور، بحسب صالح الطعمة "ما له من قيمة تاريخية وذلك لأنه نشر لأول مرة النص الكامل تقريباً لقصيدة إتيل عدنان (1925-2021 Jebu ( يبوس، وهي تعد من أهم قصائد المقاومة الفلسطينية التي كتبت بعد هزيمة يونيو (حزيران) 1967 في مواجهة العدوان الإسرائيلي ومسانديه في الغرب أو الولايات المتحدة. وكانت إتيل قد كتبتها أصلاً بالفرنسية". أما السبب الثالث، فيقول الطعمة إنه "خدمة لقراء سركون بولص والباحثين لكونها غير متوافرة في المكتبات العربية، وهي غير متوافرة في الولايات المتحدة إلا في مكتبات جامعية أو عامة محدودة (تسع مكتبات وفقاً للفهرس العالمي (WorldCat".

لكن محتويات العدد الذي أدرج في عداد المجلات في فهارس المكتبات الأميركية تدل على أن "دجلة" كانت مجموعة شعرية. في مقدمته للكتاب يشير صالح الطعمة إلى أن كلمة "مجلة" لا ترد في أي موضع من العمل المطبوع، وأن سركون نفسه كان يدرك بحكم نشأته الأدبية عاملاً أو ناشراً في عدد من المجلات العربية، أن ما أصدره لم يكن سوى محاولة أولى (وأخيرة) لنشر مجموعة صغيرة من قصائده وقصائد بعض أصدقائه من الشعراء المقربين إليه. يشير طعمة إلى أن سركون اختار لقصائده ثلاثة عناوين تحمل كلمة "تشكيل "Configuration بأرقام 4 و6 و12، ولكنه لم يتمكن من الوصول إليها بالعربية بخلاف عناوين قصائد الراوي "الاستمرار الثاني" و"اقتراب الوهم" و"نية للمغادرة". وعنوان قصيدة رياض فاخوري "البحر".

حل موقت

ولكن ما سر إقدام سركون على إصدار عدد كهذا أيام كان متنقلاً بين عمل وآخر؟ يستعين الطعمة في إجابته عن السؤال السابق بما ذكرته الشاعرة عدنان في رسالة شخصية 20/2/2013، وهو أن سركون أصدر المجلة للحصول على منحة، وكان من شروطها أن يكون له اهتمام أو منجز ثقافي أو أدبي، مستعيناً بنشر قصيدة "يبوس" Jebu المادة الأساسية التي احتلت معظم صفحات العدد. وأشارت إلى أن سركون توقف عن إصدار المجلة بمجرد حصوله على المنحة. ومن الجدير بالذكر أن سركون لم يكن في حينه يحمل حتى شهادة الثانوية العراقية.

أي أننا لا نعدو الصواب إذا قلنا إن سركون لم يكن يستهدف إصدار مجلة أو الالتزام به، بل اتخذه حلاً موقتاً، كالحلول الأخرى التي لجأ إليها طوال حياته، ليتفرغ للشعر في مختلف عصوره وأوطانه، وليعيش الشعر كما قال، وقد وفق في مساعيه إلى أبعد الحدود.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عاش سركون لما يقرب من أربعة عقود حياة هادئة لفنان يكتب الشعر وأحياناً يرسم، وبمرور الوقت ظهر أسلوبه في استقبال فاتر جزئياً بسبب خروجه عن الهيكل التقليدي لمعاصريه. فبينما كان الشعر الحر مطروقاً قبل عقود، فقد اعتبر شعره حديثاً أكثر من اللازم، لكن سركون كان مدركاً تماماً لموهبته في الكتابة، بالتالي لم يكن يريد أن يوصف بأنه كاتب عرقي أو سياسي، بل إنساني فحسب "ينقب عن المناطق الخفية لما عايشه".

لم يتبع سركون الطرق المعتادة التي عادة ما يتبعها الشعراء، لأن حياته -كما يقول- كانت مضطربة، ولم يجرب الحياة المريحة المستقرة بإصدار مجموعة شعرية والتعامل مع الناشرين. يقول "لقد عشت الشعر وأجد أن الشعر بالنسبة إليَّ حاجة عظيمة وخيفة وساحرة... وهذا هو معنى سفري الحقيقي ليس للاستشفاء ولا للاغتناء ولا للدراسة، وإنما لسبر جوهر الحلم والهبوط إلى تلك الأماكن التي حلقت إليها في أحلامي السابقة".

يحتل العدد المنشور من كتاب الطعمة خمسين صفحة غير مرقمة، ويشير إلى عنوان المجلة في سان فرانسيسكو، وسركون كمحررها، والأستاذة جوانا سميث كمساعدة له، لكنه لا يشير إلى تاريخ صدوره أو دار نشره أو مكانه سوى العنوان، وقد زين غلافه بثلاث لوحات فنية (طيور – عازف ناي – راع) لفنان من أميركا اللاتينية كان له مرسم في سان فرانسيسكو.

أيا ما كانت أسباب سركون في إصدار مجلته بعددها اليتيم، مثل يتم صاحبها الذي لم يكن يملك من الدنيا سوى قلمه ومخيلته، وبذل حياته في الغربة بحثاً عن منابع الإبداع، فإن ما فعله الطعمة بإنجاز هذا العمل وإصداره في كتاب إنما هو توثيق للتجربة وتكريم لصاحبها الشاعر الكبير.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة