على رغم السنوات الصعبة التي قضاها الأديب والشاعر اليمني سليم المسجد بين جدران السجن، إلا أن ظلمته لم تمنع قريحته من تفتقها كل يوم على واحات الشعر متعهداً القافية على ألا تموت أغصانها في ربيع الكلمة المبدعة بعد أن نبت نشيدها في حديقة العزلة والانفراد.
هل للجناية والسجن أن تنتج أديباً أريباً بحجم سليم؟ هذا ما اكتنفته القصة المثيرة التي انتهت بحزن واسع اكتسى وجوه الشعر والشعراء وبحوره بعد أن نُفّذ أمس الأحد، حكم الإعدام بحق الشاعر والأديب والقاص اليمني، سليم المسجد، بعد نحو 14 عاماً من سجنه، في قضية قتل أحد أقربائه.
عزاء واسع
وكان كتاب ونشطاء وشعراء عرب وأجانب، قد نعوا المسجد عقب أيام من حملات المناشدة لأولياء الدم بعتقه أطلقها كتّاب وأدباء تكفلوا بدفع الدية التي يطلبونها ولكن أولياء الدم رفضوا كل الوساطات.
والشاعر المسجد، من أبناء محافظة المحويت (شمال البلاد)، قضى نحو 14 عاماً في السجن على خلفية القضية، حتى بلوغ أولاد المجني عليه سن الرشد.
السجن منتدى
وخلال الـ14 سنة، كون الراحل علاقات طيبة مع النزلاء وحتى الجنود، وأحال السجن إلى واحة من الكتب والأوراق والدروس التي كان يلقيها للنزلاء والجنود وقضائه جل وقته للقراءة لينشئ مع عدد من الكتاب اليمنيين والعرب مجلة "نقش" الثقافية، من داخل السجن، وأصدر كذلك العديد من المؤلفات الأدبية، التي كتبها وهو في السجن، وقد فوض الكاتبة الأردنية وداد أبو شنب، بطباعتها وامتلاك كافة حقوقها الفكرية والأدبية، في وصيته التي كتبها على حسابه الشخصي بموقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، قبل أيام.
وقال "أنا الفقير إلى ربه سليم محمد علي سعيد المسجد (اليمن - المحويت) أفوّض في حال حياتي ومماتي تفويضاً مطلقاً للأخت الأستاذة وداد أبو شنب (الأردن - عمان)، وذلك في تولي مهمة القيام بطباعة ونشر أعمالي ومؤلفاتي".
وتتلخص تلك الأعمال في: كائنات زئبقية (قصص)، تمتمات الغضا والرماد (شعر)، الدورة التدريبية في أساسيات المقالة الأدبية، الدورة التدريبية في علامات الترقيم في الكتابة العربية، الشعر العمودي (أشكال القصيدة ومظاهرها)، الدورة التدريبية في العروض والتقفية، سحاب في بلاد الضباب (رواية)، ثلاث رسائل من أجلكم، وكتاب "الآن سأقرأ عليكم قصتي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يؤكد أصدقاء الشاعر المسجد أن تفانيه وحبه للمعرفة والأدب طوال فترة سجنه دفعت السلطات الأمنية للسماح له بالخروج وزيارة أهله، وعلى رغم قدرته على الهرب إلا أنه كان يعود للسجن بمحض إرادته وكأنه مكتبه وقاعة محاضراته، لدرجة أن رجال الأمن في السجن كانوا ينادونه بالأستاذ والشاعر وتعلقوا به كثيراً.
يوم حزين
ونعى العديد من الأدباء والكتاب والنشطاء إعدام المسجد الذين طالبوا أن تشفع له سنواته الطوال التي قضاها في السجن عند أولياء الدم.
يقول أستاذ النقد والأديب بجامعة، عبد الحكيم باقيس، "إنه يوم حزين... إعدام كاتب نبيل قصاصاً
لم تنفع الشفاعات، ولم تصبه الأمنيات، ولعل الله قد ادخر له ما هو خير من كلماتنا المزجاة".
انطفاء نور الثقافة
وقالت الكاتبة تيماء اليماني، لقد أصيبت الحروف باللعنة، والكلمات باللعنة أيضاً، لم تشفّع لنا القصائد والقصص والمقالات التي كانت تخرج من عُمق نفس، ابن المحويت الكاتب والأديب سليم المسجد عبر هذا العالم الأزرق، لقد تابعت الكثير من الخواطر والقصص الممزوجة بنور الثقافة اليمنية، الصادرة من بين ظلام جُب السجن.
كما نعاه الشاعر زين العابدين الضبيبي، وقال "أحاول أن أنشغل وأتحاشى رؤية المنشورات التي تلوح فيها صورك يا سليم المسجد لكنني أفشل في النوم وفي التجاهل".
من جانبها، نعت الكاتبة الأردنية وداد أبو شنب، زميل الكلمة والحرف المبدع. وتساءلت بأسى:
باسم من أقدم نعيك، وأعزي من فيك؟ نقش... أبجديات... جماعة الطفل... بربك أعزي من؟؟ أعزي الكون أجمع، إلا المحويت التي تأكل أبناءه".
قصيدة الرحيل الأخير
صديقه زكريا الغندري قال إن الراحل أهداه قبل يومين قصيدةً طلب منه نشرها بعد وفاته وها هو ينشرها في صفحته على الفيسبوك:
لمْ أبْكِ عمْراً عانق الأجَلا
كلا ولا طلّ الذي رَحَلا
أبْكي على تلك الربوع فقفْ
في دمْعتي الصفراء مُبْتهِلا
نبْكي على قومٍ كأنَّهمُ
من بعدِ صفـْوٍ قدْ غدوا وحَلا
كانوا نجوماً كنتُ أحْسَبها
مشكاة حبٍّ عانقتْ زُحَلا
إنْ ظلَّ رَكْبٌ في دُجى سَفَرٍ
باتتْ لهُ أضواؤها شُعَلا
واليومَ تاهَ السيْرُ، وا أسَفِي
يا قارئَ الفنجانَ ما حصلا؟
إني هنا روحٌ ممزَّقةٌ
عمراً، ونزْفُ الجرْحِ ما اندَمَلا
تجْثو على أنــَّاتِهِ حِممٌ
في وقــْدَةِ التأْوِيْهِ مرتحِلا
يتلو على وادي الغضا سورٌ
كم يبتغي عن حزنها حِوَلا
يبْكي، وماسرُّ البكاء سوى
أنقاضُ ليلٍ نجْمهِ أفَــَلا
يساءلُ الأفلاكَ في صَمَمٍ
ما بال (ليلِ) القومِ ما سألا؟
إنِّي هنا ليلٌ يسيلُ أسىً
هل يرتجي (السمسوم) إن سُئلا؟
لا لم يسلْ من وصْلِ ذي نسبٍ
قد أهدروا الأنساب والمِلَلا
غدراً على حدِّ الدجى ذبحوا
قلْباً كضوءِ الفجْرِ محتفِلا
لم تبدِ شمسٌ بعد فعْلتِهِم
تهدِي شعاعاً، يغـزلُ القـُبَلا
لَلّيلُ أبهى من سرائرِهِمْ
لا يرْتدي وجْهاً لهُ بَدَلا
كمْ في دموعي سار محْتشِداً
يُبَلْسِمُ الأسقامَ والعِلَلا
يسري وفي أكنافهِ غصصٌ
إنْ أنَّ جرحٌ؛ جاء مُنـْسَدِلا
إنْ قلْتُ: آهٌ، مسَّه حزَنٌ
إنْ خِفـْتُ دهراً، قال: لا وجَلا
أسري مع الصمتِ الرهيبِ وفي
معراجنا، أفِرْدسُ الأمَلا
لا أعْرفُ الشكوى الذليلةَ إذْ
جَفـْنَ الليالي بالأسى اكْتحَلا
وتعذر الأليالَ أسئلةٌ
صمّاءُ زارت من غدوا مَثَلا
ولم ينسَ الغنداري أن يودعه بقوله:
"صباح الخير يا سليم المسجد وأنت تمضي بعد لحظات إلى ساحة الإعدام، صباح يليق بشموخك أيها السعدي الذي استطاع أن يهزم القيد ويصل أثره إلى كل أرجاء الوطن العربي، بشعرك وأدبك وأخلاقك".
واجب الوداع
ولم يفوت الشاعر المسجد، إذ يُجَهز للمضي إلى ساحة الإعدام في السجن المركزي بصنعاء الخاضعة لسيطرة المليشيا الحوثية، أن يودع "أصدقائه":
"الأصدقاء، همُ العيون وهمُ النجوم وهمُ بزوغ الضوء في ليل الحياة...
الأصدقاء همُ الغيوم وهمُ البروق وهمُ المزون الساكبات
يا أصدقائي الطيبون يا كل من سل اليراع، وفاض حباً أو صلاة
شكراً لكم شكراً لكم شكراً لكم"
وبها، ينهي الشاعر السجين قصته الدرامية مبقياً حروفه مروية تؤرخ لكاتب قَتَل منفعلاً ولكن كلماته أصابت القافية وكافأته بطريقتها بأن تركت له إرثاً زاخراً سيخلده.