لم يعد التحكم في الأسلحة بالأفكار خيالاً علمياً، بل هو قيد التطوير الآن من خلال الجيل المقبل من التكنولوجيا العصبية غير الجراحية التي تعمل عليها وكالة "داربا" الدفاعية التابعة للبنتاغون.
تعتمد هذه التقنية على فكرة حقن كمبيوتر دقيق للغاية في مجرى الدم لجندي وتوجيهه بمغناطيس ليصل إلى مناطق معينة من دماغه، ثم من خلال التدريب يمكن للجندي التحكم في أنظمة الأسلحة على بعد آلاف الأميال.
لكن هذه التكنولوجيا تثير أسئلة أخلاقية حول أخطار قرصنة الدماغ وسرقة المعلومات والتحكم في السلوك، وهل يجب استخدامها لكبح أو تعزيز مشاعر معينة؟ وما هو تأثيرها في الهوية الشخصية والصحة العقلية لمستخدميها؟
من الخيال إلى الواقع
قبل أعوام، مكنت شركة "باتيل" الأميركية، رجلاً مصاباً بسكتة دماغية وشلل رباعي من تحريك يده مرة أخرى باستخدام أفكاره فقط من خلال استعمال تقنية تسمى "واجهة الدماغ والكمبيوتر" المعروفة باسم "بي سي آي"، وهو نظام يربط الدماغ البشري بجهاز كمبيوتر للسماح للأشخاص بالتحكم في الآلات عبر أفكارهم، ومن خلال فك تشفير إشارات الدماغ ونقلها إلى جهاز خارجي لتنفيذ الإجراء المطلوب، لن يحتاج المستخدم سوى إلى التفكير في ما يريد القيام به وسينفذ الكمبيوتر ذلك نيابة عنه.
ويجري حالياً اختبار واجهات الدماغ والكمبيوتر على الأشخاص الذين يعانون اضطرابات عصبية عضلية شديدة لمساعدتهم في استعادة الوظائف اليومية مثل التواصل والحركة، بحيث يمكن للمرضى تشغيل مفتاح الضوء من خلال تصور الإجراء واستخدام واجهة دماغ كمبيوتر في فك تشفير إشارات دماغهم ونقل الأوامر إلى مفتاح الإضاءة، كما يمكن للمرضى التركيز على أحرف أو كلمات أو عبارات محددة على شاشة كمبيوتر، فيمكن لـواجهة الدماغ والكمبيوتر تحريك المؤشر لتحديدها واختيارها.
لكن هذه التكنولوجيا التي تعتمد على أجهزة مزروعة في الدماغ أو يمكن ارتداؤها وجدت طريقها إلى خارج المجال الطبي، إذ يستكشف الباحثون هذه التطبيقات في مجالات عدة، بما في ذلك الألعاب والواقع الافتراضي والأداء في الفنون المختلفة والتحكم في طائرات الدرون ومراقبة الحركة الجوية.
تطبيقات عسكرية
غير أن أهم هذه التطبيقات يتعلق بالمجال العسكري، ففي عام 2018 منحت وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة (داربا) التابعة لوزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) عقداً لفريق بقيادة شركة "باتيل" لدفع البحوث المتطورة في هذا المجال إلى عالم ما كان يعتبر سابقاً خيالاً علمياً ضمن برنامج "إن3" بحيث يتيح للجنود السيطرة والتحكم في عدد من المركبات غير المأهولة المسلحة (درون) أو تحريك الروبوت للقيام بمهمات محددة مثل التخلص من القنابل.
كما يجري العمل على نظام آمن وقادر على القراءة والكتابة إلى نقاط متعددة بالدماغ في وقت واحد بهدف إنتاج واجهة دماغ وكمبيوتر غير جراحية لأعضاء الخدمة العسكرية الأصحاء واستخدامها لأغراض تطبيقات الأمن القومي بحلول عام 2050، بحيث يمكن لجندي في القوات الخاصة على سبيل المثال استعمال واجهة الدماغ والكمبيوتر لإرسال وتسلم الأفكار والمعلومات مع جندي زميل له ومع قائد الوحدة، وهو شكل من أشكال الاتصال المباشر ثلاثي الاتجاهات من شأنه نقل التطورات الحاصلة في أماكن القتال لحظة بلحظة وبشكل فوري بما يحقق الاستجابة السريعة للتهديدات.
وتماثل هذه التصورات ما تقوم به شركة "نيورالينك"، وهي شركة شارك في تأسيسها إيلون ماسك، من تطوير وزرع أجهزة كمبيوتر دقيقة بأدمغة أشخاص أصحاء كي يتمكنوا من التواصل لا سلكياً مع أي شخص لديه جهاز كمبيوتر دقيق ومشابه مزروع في دماغه بالطريقة نفسها.
وبينما قد يكون جهاز واجهة الدماغ والكمبيوتر القابل للارتداء مناسباً لأغراض مثل الواقع المعزز والافتراضي أو الألعاب أو التحكم في روبوت صناعي، فإن زرع كمبيوتر دقيق للغاية يتم حقنه في مجرى الدم وتوجيهه بمغناطيس نحو الدماغ وربط أنسجة الدماغ به هو الأنسب للمرضى الذين يعانون الإعاقة الحركية أو فقد النطق، وكذلك يناسب أيضاً الجنود المقاتلين الأصحاء الذين يمكنهم التحكم في الأسلحة من مسافات تصل إلى آلاف الأميال باستخدام أفكارهم وحدها.
وعلاوة على ذلك يمكن أن يؤدي زرع نوع مشابه من الكمبيوتر في دماغ الجندي إلى إزالة خوفه وقلقه، مما يسمح له بتنفيذ المهمات القتالية بكفاءة أكبر، كما يمكن لجهاز مزود بنظام ذكاء اصطناعي أن يتحكم بشكل مباشر في سلوك الجندي من خلال التنبؤ بالخيارات القتالية التي يختارها في نفس لحظة حدوثها في ساحة المعركة.
الاعتبارات الأخلاقية
مع ذلك، فإن الاعتبارات الأخلاقية لم تواكب التغير السريع الحاصل في التطور العلمي والتكنولوجي، وبينما ضغط علماء الأخلاق والمدافعون عنها من أجل مزيد من البحوث والدراسات الاستقصائية الأخلاقية في ما يتعلق بالتكنولوجيا العصبية الجديدة بشكل عام، فإنه لم يتم النظر بشكل كامل في عدد من القضايا العملية حول واجهات الدماغ والكمبيوتر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في حين تدور أسئلة كثيرة حول ما إذا كانت فوائد واجهة الدماغ والكمبيوتر تفوق الأخطار الكبيرة التي يمكن أن تنتج من قرصنة جهات خبيثة أو استخبارات أجنبية للأدمغة أو سرقة المعلومات والتحكم في السلوك، وهل يجب استخدام واجهة الدماغ والكمبيوتر لكبح أو تعزيز مشاعر معينة لدى المستخدمين، وما تأثيرها في الهوية الشخصية والصحة العقلية لمستخدميها؟
هذه الأسئلة تبدو مهمة للمتخصصين ولعلماء تطبيقات واجهة الدماغ والكمبيوتر الحالية والمستقبلية، لأن مراعاة أخلاقيات استخدام هذه التكنولوجيا قبل تنفيذها، يمكن أن يمنع ضررها المحتمل، خصوصاً أن الاستخدام المسؤول لـواجهة الدماغ والكمبيوتر يتطلب حماية قدرة الأشخاص على أداء وظائفهم من خلال مجموعة من الطرق التي تضع في اعتبارها كون هؤلاء الناس بشراً في النهاية ولهم حقوق.
وحتى الآن، لم تفتح مشاريع البحوث المتسارعة عن هذه التقنيات الجديدة التي تنفق مئات ملايين الدولارات، نقاشاً عاماً حول أخلاقياتها في وقت يعترف الجيش الأميركي بضرورة التغلب على المفاهيم والتصورات العامة السلبية حول هذه التكنولوجيا حتى يمكن تطبيق واجهة الدماغ والكمبيوتر بنجاح، ولهذا السبب هناك حاجة إلى وجود إرشادات أخلاقية عملية لتقييم التقنيات العصبية بشكل أفضل قبل تطبيقها عملياً.
النظرية النفعية
أحد مناهج معالجة الأسئلة الأخلاقية التي تثيرها واجهة الدماغ والكمبيوتر ترتكز على النظرية النفعية، وهي نظرية أخلاقية تسعى جاهدة إلى تحقيق أقصى قدر من السعادة والصحة والرفاهية لكل شخص يتأثر بفعل أو سياسة.
وفي هذه الحالة، فإن تعزيز أداء الجنود ربما يؤدي إلى تحقيق أكبر فائدة من خلال تحسين القدرات القتالية لدولة ما وحماية القوات العسكرية من خلال إبقاء الجنود بعيداً من الخطر والحفاظ على الاستعداد العسكري.
ويجادل المدافعون النفعيون هنا عن التحسين العصبي بأن التقنيات الناشئة مثل واجهة الدماغ والكمبيوتر، تكافئ أخلاقياً أشكالاً أخرى من تحسين قدرات الدماغ شأنها في ذلك شأن المنشطات مثل الكافيين التي تعمل على تحسين سرعة معالجة الدماغ وتحسين الذاكرة، وهي لذلك مقبولة على نطاق واسع.
ومع ذلك يشعر بعضهم بالقلق من أن الأساليب النفعية في واجهة الدماغ والكمبيوتر لها تبعات أخلاقية مقلقة، وعلى عكس التطبيقات الطبية المصممة لمساعدة المرضى، فقد تم تصميم التطبيقات العسكرية للمساعدة في كسب الحروب، وفي هذه العملية ربما تتعدى واجهة الدماغ والكمبيوتر على الحقوق الفردية مثل الحق في التمتع بصحة جيدة عقلياً وإدراكياً ونفسياً.
وعلى سبيل المثال يشير الجنود الذين يستخدمون أسلحة طائرات الدرون في الحروب التي تجري منذ أعوام من على بعد آلاف الأميال، إلى مستويات أعلى من التوتر النفسي وما يسمى اضطراب ما بعد الصدمة ويعانون الزيجات المحطمة، مقارنة بالجنود العاديين على الأرض، وفي حين قد يختار الجنود التضحية أحياناً من أجل الصالح العام، فإنه إذا أصبح تعزيز القدرات العصبية شرطاً من شروط الوظيفة، فمن المؤكد أنه سيثير مخاوف في شأن إكراه الجنود على أعمال قد تضرهم عقلياً وإدراكياً ونفسياً في المستقبل.
الحماية من التكنولوجيا العصبية
لكن هناك نهجاً آخر لأخلاقيات واجهة الدماغ والكمبيوتر يتمثل في أن أنصار الحقوق المتعلقة بالتكنولوجيا العصبية يعطون الأولوية لقيم أخلاقية معينة، حتى لو لم يؤد ذلك إلى تحسين الصحة السليمة، إذ يدافع هؤلاء عن حقوق الأفراد في الحرية الإدراكية والمعرفية، وتعني الحق في تقرير المصير العقلي، وحرية الفرد في التحكم في عملياته العقلية والإدراك والوعي، إذ من المحتمل أن يمنع الحق في الحرية الإدراكية والمعرفية التدخل غير المبرر في الحال العقلية للشخص.
وهم يدافعون أيضاً عن الخصوصية والسلامة العقلية، أي قدرة البشر على السيطرة والتحكم في بياناتهم العصبية والمعلومات المتعلقة بعملياتهم العقلية، بحيث لا يستطيع أحد من دون موافقتهم قراءة هذه الحالات والبيانات أو نشرها أو تغييرها من أجل التأثير فيهم بأي شكل، وربما يتطلب الحق في الخصوصية والسلامة العقلية ضمان وجود مساحة خصوصية عقلية محمية ومنع الأضرار التي يمكن أن تلحق بالحالات العقلية للأشخاص.
إضافة إلى ذلك يدافع أنصار الحقوق المتعلقة بالتكنولوجيا العصبية عن الاستمرارية النفسية، وهي الحلقات المتداخلة من الروابط النفسية السببية والمعرفية التي تنتج من المعتقدات والرغبات والنيات والذكريات التجريبية وسمات الشخصية، ولهذا قد يحمي الحق في الاستمرارية النفسية قدرة الشخص على الحفاظ على إحساس متماسك ومتسق عن ذاته طوال مراحل العمر.
تأثيرات سلبية
يمكن أن تتداخل واجهة الدماغ والكمبيوتر مع العناصر العصبية بطرق عدة، على سبيل المثال إذا كانت واجهة الدماغ والكمبيوتر تتداخل وتعبث في تصورات وإدراك المستخدم عن العالم، فقد لا يتمكن المستخدم من تمييز أفكاره أو عواطفه عن النسخ المعدلة من نفسه، وهذا في حد ذاته ينتهك حقوق الحماية من التكنولوجيا العصبية مثل الخصوصية والسلامة العقلية أو الإدراكية.
ومع ذلك فقد الجنود بالفعل حقوقاً مماثلة، وعلى سبيل المثال يسمح للجيش الأميركي بتقييد حرية التعبير للجنود وحرية ممارسة الدين بطرق لا تنطبق عادة على عامة الناس، مما يطرح أسئلة عما إذا كان التعدي على الأعصاب سيكون مختلفاً.
القدرات البشرية
يصر نهج القدرات البشرية على أن حماية بعض القدرات البشرية أمر حاسم لحماية كرامة الإنسان، وفي حين أن المدافعين عن حقوق الحماية من التكنولوجيا العصبية يركزون اهتمامهم على حماية قدرة الفرد على التفكير، فإن وجهة نظر القدرة البشرية تأخذ في الاعتبار نطاقاً أوسع مما يمكن أن يفعله الناس وما يمكن أن يصبحوا عليه مثل قدرتهم على أن يكونوا بصحة جيدة جسدياً والتنقل بحرية من مكان إلى آخر والتواصل مع الآخرين والاستمتاع بالطبيعة وممارسة الحواس والخيال والشعور بالعواطف والتعبير عنها واللعب والإبداع وتنظيم البيئة المباشرة.
وإذا كان نهج القدرة البشرية مقنعاً بدرجة أكبر لأنه يعطي صورة أقوى للإنسانية واحترام كرامة الإنسان، يجادل متخصصون مثل نانسي جيكر، أستاذة أخلاق الطب الحيوي والعلوم الإنسانية في جامعة واشنطن، وأندرو كو أستاذ جراحة الأعصاب في الجامعة نفسها، بأن تطبيقات واجهة الدماغ والكمبيوتر يجب أن تحمي بشكل معقول جميع القدرات المركزية للمستخدم وأن تكون واجهة الدماغ والكمبيوتر المصممة لتعزيز القدرات بما يتجاوز القدرات البشرية العادية قد تمت هندستها بطرق تحقق أهداف المستخدم وليس أهداف الأشخاص الآخرين فقط.
مستقبل غامض
السبب في ذلك هو أن تقنية واجهة الدماغ والكمبيوتر ثنائية أو متعددة الاتجاهات تستخرج إشارات الدماغ وتعالجها وتوفر ردود فعل حسية جسدية مثل الإحساس بالضغط أو درجة الحرارة التي يشعر بها المستخدم، وهذا من شأنه أن يشكل أخطار غير معقولة إذا أعاق قدرة المستخدم على الوثوق بحواسه، وعلى هذا الأساس، فإن أي تقنية، بما في ذلك واجهة الدماغ والكمبيوتر التي تتحكم في تحركات المستخدم ستنتهك كرامته إذا لم تسمح للمستخدم ببعض القدرة على تجاوزها.
وفي حين قد يكون من الصعب تحديد ما يمكن اعتباره حداً مقبولاً لاستخدامات التكنولوجيا العصبية، يظل تعزيز القدرات البشرية مستمراً، وربما يغير العلماء ما يعتقد بأنه حد قياسي أخلاقي بما قد يؤدي في النهاية إلى تقديم قدرات بشرية جديدة تماماً، ولهذا ستتطلب معالجة الجوانب الأخلاقية استكمال نهج القدرات البشرية بتحليل أخلاقي أكثر اكتمالاً للإجابة عن هذه الأسئلة المحيرة.