Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الشاعر كريستيان بوبان اختبر النسك في عالم صاخب

نصوصه الفريدة جددت بشكلها ورهاناتها وظيفة الأدب ومشهده الراهن

الشاعر الفرنسي كريستيان بوبان (صفحة الشاعر - فيسبوك)

"سيأخذنا الموت، واحداً تلو الآخر، ببراءة طفلة صغيرة تقطف زهور المرج، واحدة تلو الأخرى"، كتب الشاعر الفرنسي كريستيان بوبان (1951 ــ 2022) في "أطلال السماء" (2009). ونودّ أن نصدّق أن الموت الذي غيّبه قبل أيامٍ قليلة، بعد صراعٍ ضارٍ مع المرض، اقتطفه كما يستحق، برقّة يد طفلة صغيرة. رحل هذا الكاتب الفريد إذاً، لكنه ترك خلفه ثماراً حية لا يقوى عليها الزمن: 11 مجموعة شعرية و60 رواية وبحثاً أدبياً يحلو لقرّائه همس عناوينها. قرّاء يتعذّر إحصاؤهم، ومن جميع الأعمار والفئات، لأن هذا العملاق، بخلاف الكثير من شعراء فرنسا المعاصرين، عرف كيف يطاولهم ويمغنطهم بنصوصٍ بسيطة، لكن نادرة العمق، تعيد إلى الحياة شعريتها وجاذبيتها.

لطالما صُوِّر بوبان كناسك يعيش في صومعة. وثمة حقيقة في هذه الصورة، لأنه كان فعلاً يعيش في عزلة طوعية، منشودة، داخل منزل على أطراف غابة. لا جار له سوى العصافير والغزلان والأشجار. لا أثاث في منزله سوى "سريرٍ من ضوء، كرسي من صمت، وطاولة من خشب الأمل" ("الانبعاث، 2001). ولا رفاق سوى الكتب وزوجة، شاعرة مثله، ليدي داتاس.

حيوية الشعر

 

عن إنشاده هذه العزلة، أجاب يوماً: "ثمة في ما تسمّونه بلطف انسحابي (من العالم) جانبٌ مزاجي، نوع من العفّة، وخوف من أن يفقد الكلام من حيويته بالتكشّف غالباً في وضح النهار. لا شيء أكثر إبهاراً من آثار قدمَي عصفور دوريّ على الثلج. لكن كي يحدث ذلك، يتوجّب الثلج. ومعادل الثلج في حياة بشرية هو صمتٌ، سرّية، أي تلك المسافة التي تسمح بالرابط الحقيقي".

إثر تلقّيه خبر وفاة بوبان، تحدّث ناشره أنطوان غاليمار، في نص تكريمي، عن كاتب يتعذّر تصنيفه، كان يروي الأشياء البسيطة للحياة في قصائده ونصوصه القصيرة، "مفضِّلاً الكتابة المركَّزة، المصنوعة تارةً من ملاحظات مختصَرة، مدوَّنة فور استشعارها، كما في دفتر رسّام، وطوراً من رؤى شعرية مكثّفة للغاية، تحفر في أعماق النفس البشرية، وتقارب موضوعات شاملة كالحب والكآبة والغياب". وختم غاليمار نصّه بحثّنا على قراءة بوبان لأنه "يشفينا من الحزن والشك، ويدعونا إلى بحثٍ عن السعادة بكلماته المستعارة ذات الحساسية الكبيرة". ,من جهتها، حيّت وزيرة الثقافة الفرنسية، ريما عبد الملك، الشاعر بكلمة قالت فيها: "كائن من شعر، سخي في عزلته، منحنا على مدى نحو خمسين عاماً استكشافاً باهراً لموضوعات نتشاركها جميعاً: الفقدان، الحساسية تجاه الطبيعة، عبور الزمن، الحميمية، ودائماً تلك الحاجة إلى التأمل".

كاتب حصيف إذاً، نفر بوبان طوال حياته من السهرات الاجتماعية الدنيوية، وبقي متعلّقاً بقوة بمسقط رأسه، بلدة لو كروزو التي صرّح مختارها إثر صدور خبر وفاته: "كان ذلك الكائن السرّي الذي نلتقي به ولا ننساه أبداً، ذلك الرجل الخيّر والإنساني بعمق الذي كان يعرف قلمه كيف يرتقي بكل كلمة، بكل انفعال". "وُلِدتُ في مهدٍ من فولاذ"، قال الشاعر هذا الخريف لأحد الصحافيين، من منطلق كونه ابن أستاذ الرسم الصناعي، وابن بلدة ضمّت في الماضي مصانع صلب. لكن لا واقعية اجتماعية ولا صراع طبقات في نصوصه، بل فنّ تنقيطي يشخص في الطبيعة والسماء: "فضّلتُ التوجّه نحو ما يتجاهل مرور الزمن: الزهور، الحب في حيائه الأول، الانتظار، جمال وجه، الصمت، الأمد الطويل... كل تلك الأشياء التي بدأت الحياة الحديثة تنتزعها منّا شيئاً فشيئاً".

الشهرة طاردته في عزلته

 

الكاتب الذي لم يكن يكترث إطلاقاً لمفهوم الشهرة، كان ينشر كتبه بانتظام. بعضها بقي سرّياً، وبعضٌ آخر تجاوزت مبيعاته مئة ألف نسخة. في حوار معه عام 2019، أسرّ بأنه يكتب بيدٍ عمياء: "أكتب بإلقاء يدي داخل ظلام اللغة للعثور على الكلمات التي من شأنها أن تنير، أن تدعمني على الاستمرار وتساعدني على الحياة". وحول هذه الكتابة الحرّة من أي قيد، قال في حوار آخر: "أحلم دائماً ببلوغ كتابة لا تُنسيها سعادتها شيئاً من مآسي البشر، ولا تكون مسلّية فقط، بل منيرة قبل أي شيء".

منذ طفولته، عثر بوبان على ملاذ له في الكتب، فقرأ بنهمٍ كلوديل، كافكا، راموز، بيكيت، بونج، أبولينر وغوستاف رو الذين كرّس لهم لاحقاً أحلامَ يقظةِ مؤلَّفٍ فريد من نوعه بعنوان "كتاب عديم الفائدة" (1992). قرأ أيضاً فلاسفة كثراً ودرسهم بشغف، قبل أن ينطلق في الكتابة في سن الـ 26، فكان كتابه الأول "حرفٌ أرجواني" (1977)، وهو مجموعة شعرية نقرأ فيها: "أحب أن أضع يدي على شجرة تصادف طريقي، لا للتأكد من وجودها ــ الذي لا أشكّ فيه ــ بل من وجودي". ومنذ مطلع الثمانينيات، اختار النثر والأشكال القصيرة لبلورة كتابة مشبعة بالشعر والروحانية. كتابة أنجب بواسطتها كتباً هي عبارة عن "عِلَبُ موسيقى مليئة بالحبر". كتب تصف وتفكّك بطريقة شبه زاهدة، حميمية، الاضطرابات التي تعتري حيواتنا، وتبيّن كم كان صاحبها ماهراً في الإمساك بالسعادة البسيطة، كما في "فستان عيد صغير" (1991)، أو في التقدم إلى مشارف الموت والشخوص في عيني ملاكه، كما في "الأكثر من حيّة" (1996)، أو في العثور على دفقِ نهرٍ خلف سوناتا، كما في "موزار والمطر" (1997): "اليوم دخل الواقع إلى فمي، والمطر معه. لم أتلفّظ بشيء. موزارت أطعمني، زقّةّ زقّة، والمطر مسح شفتيّ".

 

ومع أنه نأى بنفسه عن ضوضاء باريس ومحيطها الأدبي، بالتالي عن هاجس الشهرة، لكن هذه الأخيرة لحقت به وبلغته داخل صومعته، يوم أصدر كتابه "الأسفل جداً" (1992) الذي رصده للقديس فرنسيس الأسيزي، وحصد جائزة Les Deux Magots العريقة. كتاب ليس سيرة ذاتية تقليدية، بل نص شعري بامتياز، ونزهة في قلب النفْس، نفْس ذلك الشاب الرائع الذي كان عليه فرنسيس الأسيزي. ومن خلال صورة هذا القديس، تحضر رؤية بوبان للإلهي، رؤية من أقرب مسافة إلى الناس البسطاء والأشياء المتواضعة، سيبقى وفياً لها في جميع كتبه وتأملاته اللاحقة.

فعل البحث

إن كان علينا أن نلخّص هذا الشاعر بكلمة واحدة من كلماته، لاخترنا بلا تردد "أبحثُ". فعلى طول حياته واظب على البحث، تارةً تحت ضوء الشمس، بابتسامة كبيرة تعلو وجهه، وطوراً في المحنة والليل الدامس: "لم أر الجنة أبداً إلا متّكئِة على الجحيم، كمقابل له، كنشيدٍ مضاد. كل نور ــ من كلام، من وجه أو من مادة ــ هو حدثٌ لي، حادثٌ ينقذني في كل مرة. لا أعرف شيئاً عن الحياة سوى أنها، في عمق جوهرها، منيرة، أثيرية، تتعذّر محاصرتها".

 

ولذلك، بقي بوبان كاتب النور المخفي، لا كاتب الظل، كما تشهد على ذلك جميع كتبه، وخصوصاً "أعطني شيئاً لا يموت" (1996)، و"السيدة البيضاء" (2007)، و"الحياة الكبرى" (2014)، و"الزنبق الأحمر" (2022). بضعة عناوين من عملٍ كتابي ضخم يتعذّر تصنيفه، عرف كيف يجدد، بشكله ورهاناته، طريقة الإمساك بوجه، بلحظة، بطفولة، ومن خلال ذلك، المشهد الأدبي الفرنسي الحديث.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في "صوت أرجوحة" (2017)، كتب بوبان عن الكتب التي أحبها كثيراً: "طرقتُ أبواب الصمت والموسيقى وحتى الموت، لكن لم يفتح لي أحد، فتوقّفت عن السؤال. أحببتُ الكتب لما كانت عليه، كتل من سلام، أنفاس بطيئة لدرجة أننا بالكاد نسمعها". وإذ سيخلّف تواريه فراغاً كبيراً داخلنا، ستستمر كتبه في تزويدنا بأجمل الأنفاس وأعمقها، وفي تأجيج داخلنا تلك "الرغبة المستهامة في العيش داخل جرس زنبقة".

مقتطفات من آخر حوار مع كريستيان بوبان. رداً على سؤال ما هو المقدّس بالنسبة إليك؟، أجاب: "إنه الآخر. الشخص الذي تأتي به الحياة لملاقاتي. إنه أيضاً الطبيعة، الحيوانات، رقّة الحيّ الشديدة. الحياة البسيطة، المتواضعة، الزائلة. حياة هشّة، طبيعية وخارقة في الوقت نفسه: صوت الريح في أوراق الشجر، اليد المجعّدة لمولود جديد، قصيدة رائعة. أظن أحياناً أنني أستشعرها، تقترب ثم تبتعد. أكتب للشهادة على ما رأيته وهزّني. ذلك التأرجح الطفيف لزهرة ملتصقة بجدار، لأمرٌ مدهش. الأحداث الصغيرة هي الأكثر شجية وحسماً لمستقبل العالم". وعن سؤال "غالباً تكون قاسياً مع العالم لكن متساهل مع البشر الذين يقطنونه؟"، يقول: "ما أسمّيه العالم هو ذلك المكان الذي نتظاهر فيه، الذي تسود داخله الأعراف التي تمحي الوجوه. تكنولوجياتنا تجعل الحياة أكثر بعداً. بحجة إحضار العالم كله إلينا، نُبعِد جارنا، ونضع الواقع على مسافة لا تصدَّق. كل واحد منا ثمين، لا يمكن استبداله، ويستحق أن يُكرَّس كتاب له. لكن ثمة أوقات خلال النهار نغيب فيها عن أنفسنا، وتفقد كلماتنا وزنها. يمنعنا العالم من رؤية مَلَكية كل إنسان".

وعن سؤال "هل أنت متشائم؟"، يجيب: "الأمل ما زال حياً، ولا شيء قادر على قتله. الأكثر إثارة للاهتمام هو استعادة الدروب القديمة التي يمكننها أن تعيدنا إلى أنفسنا: السكون، الجمال، القصيدة، الانتباه للآخر. أنا لا أعارض العالم، لكني أفضّل السير على الطرقات الجانبية".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة