Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الفتى "بينوكيو" يبث الدهشة في مهرجان البحر الأحمر

فيلم استعراضي بصري مذهل على وقع الموسيقى والأغاني

نظرة سينمائية جديدة إلى شخصية "بينوكيو" (ملف الفيلم)

قبل أيام قليلة من طرحه على منصة "نتفليكس" شهد مهرجان البحر الأحمر السينمائي في دورته الثانية (1 - 10 ديسمبر - كانون الأول) العرض الأول لـ"بينوكيو"، فيلم غييرمو دل تورو بالتعاون مع مارك غستافسون، وهو مشروع العمر الذي يعمل عليه المخرج المكسيكي الشهير منذ 15 سنة.

 هذه المرة، اختار دل تورو التحريك لسرد القصة الشهيرة التي كتبها الروائي الإيطالي كارلو كوللودي في عام 1881، بعنوان "مغامرات بينوكيو"، التي تحولت مع الزمن إلى واحدة من أشهر القصص الفانتازية، قبل أن تخلدها "والت ديزني" في أشهر نسخة، المطلع على سينما دل تورو، ومن سبق له أن شاهد "متاهة بان" و"شكل المياه"، كان لا بد أن ينتظر شيئاً مختلفاً من فنان صاحب مخيلة استثنائية وحكواتي موهوب إلى أبعد حد، والأهم أنه مفتتن بالوحوش والمخلوقات الغريبة. 

الوحوش والمخلوقات الغريبة هذه حكاية بذاتها في سينما دل تورو، إنها جزء أساسي من عمل فنان اكتشفها وهو صغير فأصبحت أفلامه تعج بها، لا يزال يتذكر أول احتكاك بالوحوش في حياته، "كان وحشاً أصلع ذا عينين واسعتين، كنت في حضن أمي، فرحت أبكي خوفاً، أعتقد انني أصبت حينها بمتلازمة ستوكهولم، فصرت أعشق الوحوش، بيت جدتي الذي يتوسطه ممر طويل يفضي إلى الحمام تجده في فيلمي "متاهة بان"، كنت أحلم منذ الصغر فأستيقظ ليلاً، دائماً أرى أصابع خضراء تحاول الإمساك بي، وكائنات حية تخرج من تحت السرير، ذات يوم، أبرمت صفقة مع الكائنات هذه، طلبت منها أن تتركني لأذهب إلى الحمام وسأكون صديقاً لها إلى الأبد…".

استعراض بصري

 

نتيجة هذا كله نجدها على الشاشة، ساعتان من استعراض بصري مذهل على وقع موسيقى تصويرية وألحان وأغان ألفها الفرنسي ألكسندر دسبلا، تحملان كل هواجس دل تورو ومواضيعه المفضلة، وتضعان المشاهدين في جدة في حال من التماهي مع الشاشة، نقل دل تورو حكاية الصبي الخشبي إلى مستوى آخر من الدهشة باعثاً فيها روحاً جديدة مزيلاً عنها الغبار. "بينوكيو دل تورو" ليس أفلمة أخرى لبينوكيو، إنما إعادة قراءة للقصة من منظور فنان يملك عالمه الخاص، ويرى كل شيء من خلاله، وكأن حكاية كارلو كوللودي نبتت لها أجنحة وصارت تحلق فوق متاهة دل تورو نفسه. 

المشاهد الذي يذهب إلى الفيلم للتفرج على ما يعرفه، قد يصاب بخيبة في حين ينال الشخص الذي ينتظر جديداً ما يستحقه، فمن كل الاقتباسات التي شهدتها الرواية، هذا الاقتباس هو الأبعد عن الأصل الأدبي والأقل وفاءً له. وتفادياً للوقوع في سوء الفهم، حرص المخرج على تذييل عنوان الفيلم باسمه، فأصبح "بينوكيو دل تورو" مثلما فعل فيلليني يوم اقتبس كازانوفا. وهذا الشيء يعفيه من المحاسبة لكونه لم يبق فعلياً من بينوكيو سوى الهيكل العظمي… أو الخشبي، للدقة!  

ينقل دل تورو حكاية بينوكيو إلى القرن العشرين، فتبدأ مع الحرب العالمية الأولى وتنتهي بالثانية، أما التفاصيل فتصبح على الشكل الآتي:

 خلال قصف للطيران، يموت ابن النجار غيبيتّو أمام عينيه وهو على مذبح الكنيسة التي يرمم فيها تمثال المسيح المصلوب، تمر السنوات ويقع الرجل الوحيد في العزلة واليأس، فيقرر فجأةً أن يصنع طفلاً من خشب الشجرة التي نبتت على ضريح ابنه الراحل، وهكذا، يولد الصبي الخشبي الظريف والمتمرد، الذي يملأ الدنيا ويشغل الناس أينما حل، ويدور كل شيء من حوله.

مغامرات وكوميديا

 

ومع تطور الأحداث، تدخل شخصيات ثانوية على الخط (بعضها من رواية كوللودي كالجراد الناطق والساحرة والمخلوق البحري)، وتتخلل الفيلم الحروب والمغامرات ونزاعات وعواطف وكوميديا، قبل أن يدخل في منعطف جديد مع صعود الفاشية في إيطاليا والتحاق الشباب بالجيش، كل هذه التفاصيل تقحم الفيلم في مزاج مختلف، لا يتوانى دل تورو عن تسييس قصة بينوكيو على نحو يصبح له صدى في واقعنا الحالي، تأخذ الفاشية حيزاً مهماً في الفيلم، لكن بنظرة كاريكاتيرية وأحياناً جادة مع طرح مسألة غسل الدماغ الأيديولوجي الذي يتعرض له الصغار على أيدي أهاليهم، في مجمل الأحوال يصفي الفيلم حسابه مع التاريخ بطرافة لاذعة، على غرار ما فعله تارانتينو بهتلر في "السفلة المجهولون". يكفي كيف يقدم شخصية موسوليني في مشهد وصوله إلى احتفالية، بسيارته الفارهة التي لا تنتهي، محولاً الطاغية الإيطالي إلى شخصية كارتونية مخيفة. 

أُنجِز الفيلم بتقنية الـ"ستوب موشن"، إلا أن الجماليات التي تم توظيفها تجعلنا ننسى أننا أمام صور خيالية غير واقعية، بيد أن الخيال يتحول تدريجاً إلى واقع جراء انغماسنا المتواصل في الفيلم لقطة بعد لقطة، تصبح الشخصيات من لحم ودم، في حين أن الديكورات المدهشة من جبال شاهقة وقرى صغيرة وبحار وساحات معارك وسيرك تصبح قابلة للتصديق، قريبة منا وبعيدة عنا في آن واحد، وهذا كله بفضل فهم حقيقي لتوظيف الجماليات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لا يكتفي دل تورو بالترفيه وبصنع لقاءات متكررة مع الروعة، على رغم أن هذا كله جزء لا يتجزأ من الفيلم، بل ينصب نفسه معلماً تنويرياً تهيمن أفكاره ورؤيته السياسية على الفيلم، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بقلب صفحات التاريخ السوداء، ولعل أهم ما يطرحه في هذا المجال هو مسألة التلاعب، التلاعب بالطفولة والمشاعر والاصطفافات، فبينوكيو في نسخة دل تورو ضحية تلاعب من كل الجهات، الكل يحاول استغلاله والشد على خيوطه، مثلما يتلاعب الآباء بأولادهم والطاغية بأنصاره، هناك درس ما في هذا المجال غني لدرجة أن كل مشاهد يجد فيه تفسيره المختلف للأحداث.

لا يقترح دل تورو نسخة وردية لبينوكيو، الفكرة السائدة عن التحريك هي أنه يخاطب الأطفال، وهي فكرة تسقط أمام سوداوية طرح دل تورو التي تجعله للكبار قبل الصغار، فالموت حاضر في الفيلم وظله يطاول كل الشخصيات من الجراد الناطق الذي يعاني باستمرار من خطر أن يداس تحت الأقدام إلى بينوكيو الذي يتحول في الآخر إلى فتى عادي قابل للموت، عبوراً بالأب العجوز الذي يكتشف معنى الفقد والخسارة، وصولاً إلى كل الشخصيات الثانوية التي تجد نفسها في الصفوف الأولى للحرب، بيد أن كل المنافذ ليست مغلقة، فالفيلم يترك مكاناً للحب ويحتفي بالحياة، ولو فوق الخراب والحطام، "الوجود يعطي الإنسان فرصة ثانية أحياناً"، يقول دل تورو في مقابلة، إنها فرصة لإنقاذ مَن نحب وفرصة لإعطاء معنى لحياتنا، وهذا أهم ما يرويه فيلمه من خلال الصبي الخشبي الذي يتيح له العودة إلى حكاية أخرى من حكايات الاختلاف التي يعشقها.  

المزيد من ثقافة