قليل هي الأشياء التي يتم التحضير لها بعناية أكثر من الاجتماعات الدبلوماسية. وسواء تعلق الأمر بمصافحة خاصة أو استقبال فاتر متعمد لإدانة نوع ما من التدخل الدولي أو تجاهلا متصورا، فإن الخطوات التي يتخذها ممثلو الدول أمام الصحافة العالمية تهدف لأن تكون ذات تداعيات. على سبيل المثال، من المرجح أن تأخذ زيارة الدولة - كتلك التي قام بها الرئيس الأميركي دونالد ترمب مؤخراً إلى المملكة المتحدة - شهوراً من الاستعدادات حتى يتم إجراؤها بشكل صائب. وتعد المشاركة في هذه الاستعدادات أمرا مثيرا بالنظر إلى الأفكار والأفكار المضادة المطروحة والاعتبارات بشأن عدد الابتسامات التي يجب إظهارها وما إذا وجب إطلاق بعض (القفشات) - كل شيء مطروح للنقاش.
خلف الأبواب المغلقة تكون الأمور مختلفة جداً، حيث أن كل إدارة تستخدم نفس البروتوكول تقريبا للتواصل في داخل الغرفة وخارجها. كل وثيقة لديها آلية رسمية ومعنى طبقا لأحكام مذكرات تفسيرية مكتوبة وأخرى شفهية. ومع أن الوثائق يمكن أن تختلف اختلافا كبيرا، إلا أنها تتقاسم مبدأ مقدساً واحدا وهو أن كل شيء تتم كتابته بصدق ويتم تسليمه بطريقة آمنة وسرية. فالجميع يدرك أن ما يقال ليس المقصود منه أن يذهب أبعد من هناك.
وهنا تُطرح أسئلة كثيرة حول كيف تم تسريب تعليقات سفير المملكة المتحدة السير كيم داروش بشأن إدارة ترمب إلى صحيفة ذا ميل أون صنداي، وسيحتاج التحقيق الحتمي أيضًا إلى الإجابة عن سؤال لماذا تم التسريب.
لن يكون المسؤول عن التسريب موظفا مدنيا يسعى لتوضيح موقف صعب للغاية أو "ليكشف حقيقة ما" – فالخلل في إدارة ترمب معروف. وبالتالي هناك شخص ما يسعى لتحقيق مكاسب سياسية، لكن استخدام العلاقات الخارجية للمملكة المتحدة كأوراق سياسية في لعبة محلية أمر غير مسؤول في أقصى الحدود.
يبدو أن تسريب المذكرات إلى الصحافة هو أول جولة من هذه المنافسة حول السياسة الخارجية، التي يقودها حاليا جيريمي هنت، وكان بوريس جونسون قد ترأس هذه الوزارة سابقًا. إذا، ما الغاية وراء اعتبار السفير ضررًا جانبيًا مقبولًا في صراع كهذا؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن الدبلوماسية هي الفن المظلم للمعرفة، وتحديد أفضل السبل لتحقيق أهدافك هو في صلب التفاعل مع الجهاز السياسي لبلد آخر. لكن المبدأ الأساسي لأي موظف حكومي هو أن يخدم أسياده السياسيين بطريقة محايدة ودقيقة وجدية. وهذا أمر بالغ الأهمية بشكل خاص لأولئك في الساحة الدولية الذين تُعتبر الصفقات التجارية والتحالفات بالنسبة لهم مفاتيح أساسية، وأي خطأ في هذا سيجلب مشاكل أمنية في الأفق قد تستدعي الاحتكام إلى اتفاقية جنيف. لكن ما تقوله علنا ليس ما تقوله سرا.
إن وضع الولايات المتحدة واضح للجميع. فمن كونها أضحوكة أمام الملأ في الأمم المتحدة إلى مبادراتها الفاشلة في السياسة الخارجية، تعد إدارة ترمب غارقة في الفوضى وغير كفؤة – وأي وصف عكس ذلك سيكون فشلا دبلوماسيا على مستوى عالٍ.
ورغم ذلك فإن العلاقة الخاصة تعد اليوم أكثر أهمية من أي وقت مضى، حيث يتم إسقاط الطائرات الأميركية بدون طيار من قبل الحرس الثوري، فيما تستمر الحرب في اليمن دون أي علامات على التهدئة. وسط هذا كله، يعود الإيبولا لينتقم من جمهورية الكونغو الديمقراطية، فيما المملكة المتحدة، بطبيعة الحال، في حاجة ماسة إلى أصدقاء، وخاصة بعد الانفصال عن 27 دولة هي الأقرب إليها جغرافيا.
لا تبنى العلاقات الدولية على تاريخ ما وإنما ُتصنع بين الناس. بعض الأحيان تصنع العلاقة الخاصة رفاقا يمكن التنبؤ بهم كما كان الحال بين تاتشر وريغان وبين بلير وبوش. في أحيان أخرى تأتي بشخصيات غريبة جدا. أما السفراء فهم من يقود دينامية هذه العلاقة. فمن خلال تواصل غير المسبوق مع أعلى المستويات في أي بلد، يستطيع السفراء بناء أسس علاقة دولية وتحضير رؤساء بلدانهم لما هو آت. الآن وقد تم تحطيم العلاقة على مرأى ومسمع من الجمهور، يجب إعادة بنائها وبسرعة.
حاول جيريمي هنت، الرئيس السياسي المباشر المسؤول عن السفير كيم داروش، طي صفحة الموضوع بالاعتذار عن التسريبات لا المحتوى. ويعد هذا منهجا مألوفا يعتمد على تقديم اعتذار كبير من ورق مع محاولة حفظ ماء الوجه. لكن من الواضح أنه فشل فشلا ذريعا بعد بدء الرئيس ترمب بشن هجوم على تويتر، فيما يعد أسلوبه الأساسي في صناعة السياسات. وقبل ساعات، هاجم ترمب السفير البريطاني، معتبرا إياه "غير محبوب ولا يحظى بسمعة طيبة" في الولايات المتحدة.
من المؤكد أنه لن يمر وقت طويل حتى يستقيل سفير المملكة المتحدة، منهيا مسيرته المهنية المتميزة التي ناهزت 30 عاما. وسيكون آخر مسمار في نعش السفير تعبير تيريزا ماي عن "ثقتها الكاملة" به. ستكون نهاية مشينة لسفير كان، بصراحة تامة، يؤدي عمله فقط.
من خلال التسريب إلى صحيفة مؤيدة لبوريس، قد يبدو هذا بمثابة محاولة لدعم تطلعات الرجل الأشقر، وسيثير ذلك الكثير من التساؤلات. لكن خلف الكواليس، بدأ ذلك يسبب أذىً كبيرا. هناك رؤوس ستسقط – أولها رأسي السفير داروش ومسرب مذكراته - وأشك بشدة في أنها ستكون الأخيرة.
(أمين باشا هو الاسم المستعار لدبلوماسي في الأمم المتحدة في نيويورك)
© The Independent