Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

يوسف عزيزي دخل ظلمة سجن الأحواز وخرج منها بيوميات مضيئة

كتاب "وراء الشمس" حاز جائزة ابن بطوطة

كتاب "وراء الشمس" ليوسف عزيزي (دار المتوسط)

حاز الكاتب يوسف عزيزي (الأحواز– إيران) جائزة "ابن بطوطة لأدب اليوميات المترجمة" للعام 2019 التي تمنحها دار السويدي في أبو ظبي عن كتابه "وراء الشمس" الذي نقله الى العربية من الفارسية عائض محمد آل ربيع وصدر في سلسلة "ارتياد الآفاق" ودار المتوسط. أرفق المؤلف العنوان الأول بعنوان ثان هو "يوميات كاتب أهواري في زنازين إيران السرية" موضحاً نوع الكتاب أو طبيعته. وهو فعلاً يتراوح بين أدبين: اليوميات والمذكرات، علماً أنه لم يدوّن الأيام التي كتب فيها هذا النص الجميل والقوي والجريء، بل شاءه أقرب إلى نص روائي يسرد فيه تفاصيل التجربة الأليمة التي كابدها في السجون الإيرانية، بين طهران والأحواز. ولا شك في أن الكتاب ينتمي أولاً وآخراً إلى "أدب السجن" الذي بات يملك تراثاً عالمياً هائلاً، في معظم لغات المعمورة.

ولئن كتب أدباء وشعراء إيرانيون كثر عن تجربة السجن في بلادهم سواء في عهد الشاه أم في عهد الجمهورية الإسلامية وولاية الفقيه، فما يتميز به كتاب عزيزي هو كونه أول كتاب يدور في أجواء السجون الأحوازية، التي تختلف عن أجواء سجون طهران وبقية المناطق الإيرانية. فسجون الأحواز تقع في قلب المناطق التي كانت ولا تزال عربية على الرغم من السعي الدائم إلى فرسنتها وتحويل أهلها العرب إلى أقلية صغيرة عبر تذويبها وتبديدها. والأحواز كانت أصلاً مستقلة حتى الثلاثينيات بعد مصادرة هويتها العربية. ويوسف عزيزي هو أصلاً ابن إقليم عربستان الواقع في جنوب غربي إيران، الذي يسميه النظام إقليم خوزستان، بل هو ابن الخفاجية التي يسميها النظام سوسنجرد والتي يقع فيها السجن الذي يسميه "السجن السري" أو سجن سبيدار الرهيب.

لم يكن يوسف عزيزي غريباً عن عالم السجن، فهو أُوقف مراراً أيام الشاه وجرى التحقيق معه انطلاقاً من تهم وجهت إليه جراء المقالات التي كان يكتبها في الصحافة الإيرانية مدافعاً بإصرار عن الحقوق العربية للأهوازيين، وهذه قضية كانت ولا تزال تقضّ الحكم الإيراني. وكان على عزيزي أن يواصل "معركته" ونضاله في عهد الجمهورية التي نكثت بوعودها حيال حقوق الأحوازيين وتنكرت لها بعد استتباب الثورة الخمينية. لاحقت أجهزة الاستخبارات عزيزي وراقبته وضيقت عليه، فهو يمثل خطراً مزدوجاً بصفته كاتباً وصحافياً معارضاً، يملك علاقات متينة مع الإعلام العربي والعالمي، وابن الأحواز العربية في آن واحد. وكان عزيزي عضواً مؤسساً في اتحادَي الكتاب والصحافيين الإيرانيين، وأول عربي ينتخب عضواً في هيئة إدارة الكتاب الإيرانيين. وقد عمل في الصحافة الإيرانية والعربية قبل ثلاثة عقود وله حتى الآن خمسة وعشرون كتاباً، عطفاً على مئات المقالات بالفارسية والعربية. وعمل نحو اثني عشر عاماً في جريدة "همشري" اليومية التي أسهم في تأسيسها وتولى قسم العالم العربي فيها، ثم أعفي من عمله فيها العام 2004 في عهد محمود أحمدي نجاد، عقاباً له على نزعته الإصلاحية والليبرالية ومتابعته الحثيثة لقضايا الأقليات والقوميات وخصوصاً العرب في إقليم خوزستان أو عربستان. وفي الوقت نفسه راسل عزيزي صحفاً عربية عدة وكتب فيها مقالات، كان يجد القراء العرب فيها خير مقاربة للأوضاع السياسية في إيران ولأحوال الأقليات وعرب الأحواز. وكان يدأب على ترجمة الكتب والدراسات المهمة من الفارسية إلى العربية.

بين سجنين

أُوقف يوسف عزيزي في 25 أبريل (نيسان) 2005 في طهران واقتيد على الفور إلى سجن إيفين الشهير، لكنه قبل اعتقاله كان بدأ يعاني الكثير من التضييق والملاحقة، وهذا ما عاناه لاحقاً بعيد إطلاق سراحه في 28 يونيو (حزيران) 2005. وبين هذين التاريخين كابد الكاتب والصحافي أقسى أنواع التعذيب النفسي الذي يوازي التعذيب الجسدي. ولولا إصراره على نفي التهم التي كيلت إليه زوراً بجرأة وعناد، ولولا الدعم الإيراني والعالمي الذي تلقاه من مؤسسات ونوادٍ إنسانية، لقبع في ظلمة السجن ولم يتسنّ له الخروج. وقد وجّهت إليه تهمتان إحداهما باطلة تماماً وهي تزوير رسالة محمد علي أبطحي، مدير مكتب محمد خاتمي حينذاك، وإرسالها إلى الخارج، مما أدى إلى إشعال شرارة انتفاضة الشعب العربي في الأحواز في أبريل 2005. واحتوت الرسالة فكرة هدفها تغيير البنية السكانية في إقليم خوزستان (عربستان) مستقبلاً، بحيث يتحول المجتمع العربي من أكثرية إلى أقلية خلال عشر سنين. وهذا يعني القضاء على الوجود العربي في الإقليم. وعبّرت "لعبة التزوير" عن عمق الصراع الذي كان دائراً بين الإصلاحيين (محمد خاتمي) والمحافظين التقليديين الذين كانوا يهدفون إلى كسب أصوات عرب الأحواز المؤيدين للإصلاحيين في الانتخابات التي فاز بها لاحقاً أحمدي نجاد. ظنت السلطة أن الصحافي المعارض يوسف عزيزي قد يكون الضحية السهلة التي تقع عليها تهمة التزوير، فجعلوها ذريعة لسجنه والتحقيق معه إكراهاً. أما التهمة الثانية التي كيلت له فهي ضلوعه في تنظيم احتجاجات الشعب العربي التي انطلقت من مدينة الأحواز لتعم الإقليم كله.

أُدخل يوسف عزيزي أولاً سجن إيفين في طهران الذي تشرف عليه مباشرة أجهزة الاستخبارات الذي اقتيد إليه سابقاً. ثم راح يكتشف "طقوس" الأسر رويداً رويداً. عصبت عيناه ليس ليرى المكان الذي هو فيه فقط بل لئلا يرى وجوه المحققين القساة، فـ "نزع العصابة عن عيني الضحية يعني نزع النقاب عن وجوه الجلادين". وما أن انتهى التحقيق الأول معه من دون أن ينتج منه أي اعتراف، حتى نقل بالطائرة إلى "السجن السري" في الخفاجية وهو سجن سيء السمعة. كانت الزنزانة ذات 24 متراً مربعاً ومدخل واحد ودورة مياه وتقع قبالة غرفة التحقيق، التي كان يتعاقب على ترهيبه فيها ثلاثة محققين، كانوا يمارسون عليه ما يسميه "حرباً نفسية" بغية إضعافه وإرهاق عريكته. والسجين غالباً ما تلفته للوهلة الأولى الكتابات المدونة على الجدران وقد أثرت هذه الكتابات بالسجين الجديد إيجاباً وبثت فيه مقداراً من الحماسة. واستوقفته جملة مكتوبة بالعربية المحكية مفادها "لا تحكِ، ستبكي"، وشرحها هو "لا تعترف للمحققين فتندم وتبكي". وأثرت فيه أيضاً جملة أخرى تقول: "ثمينة أنت أيتها الحرية". في السجن حرم عزيزي من الراديو والتلفزيون ومن الكتب والصحف. وحرم أيضاً من فترة التنزه التي هي من حقوق السجناء ولم يسمحوا له بها إلا بعد مرور خمسين يوماً. حتى نظارته أخذت منه وعندما طالب باستعادتها بُرّر له منعها في أنها من معدن ويمكن ابتلاعها للانتحار. حتى ساعة يده أخذوها منه كي يبيت خارج الزمن، لا يعرف الوقت، فيحل عليه سأم قاتل. هذا السأم كان يقاومه بالنوم ليس على سرير بل على الموكيت. يقول: "ليس من فرصة لتزجية الوقت غير النوم، أو محاولة النوم. حتى وإن قطع محاولتك طرق شديد". وبعد مقاومته الضغوط والتعذيب والتهديد وإصراره على عدم الاعتراف بالتهم المزيفة التي كيلت له، قرّرت إدارة السجن نقله من الزنزانة الأولى ذات الأربعة وعشرين متراً التي سماها بـ "السويت"، إلى زنزانة ضيقة وخانقة ذات ستة أمتار، كانت تتحوّل إلى فرن عندما تنقطع الكهرباء، فتبلغ الحرارة الدرجة الخمسين، بلا مروحة ولو بدائية تحرك هواء الزنزانة، مما كان يجبره على خلع ملابسه. وكان يترجى السجانين أن يفتحوا الباب لتمر هبات نسيم تخفف من وطأة الصداع الذي يثقل رأسه. وكان المحقق يهدده بنقله إلى زنزانة تسمى "جحر الكلب" وفيها لا يمكنه إلا أن يجلس القرفصاء. ونزولاً عند إلحاحه على الحصول على الكتب قدم له السجان كتاب القرآن، وأحضر له نظارة من بلاستيك. وكان حصل بالسر على قلم فكتب بعض الملاحظات وبعض القصائد قبل أن يصادر منه. أما الذهاب إلى الحمام فكان مقصوراً على مرات ثلاث فقط في اليوم، ويقاد إلى الحمام معصوب العينين ولا تنزع العصابة إلا عندما يدخله، يقول: "كان الحمام فرصة لترى المحيط الخارجي من خلال نافذة تقع أعلى الجدار. إنه محيط الحرية الفسيح". وفي هذه العزلة القاتلة كان أزيز عجلات عربة الطعام "يثير إحساساً ورغبة في نفسي مثل روائع باخ وبيتهوفن". وكان في أحيان يلجأ إلى الغناء بصوت خفيض ليواجه وحشة الزنزانة مع أنه لا يملك موهبة الغناء، كان يغني لأم كلثوم وفيروز وناظم الغزالي وسواهم. وفي السجن كان يواجه نار المعاداة للعرب، وهي نار موجهة أيضاً ضد المواطنين العرب في إيران. علماً أن العرب في إيران يمثلون ثماني في المئة من السكان، وتضاف إليهم قوميات أخرى مثل الأتراك والأكراد والبلوش والتركمان.

تحقيق ليلي

كان المحقّقون يجرون أحياناً تحقيقهم معه بدءاً من منتصف الليل حتى يصيبه الوهن فيعترف بالتهمة المزورة، وكان هو يقاوم. ونتيجة هذه المقاومة قررت الإدارة إعادته إلى السجن الأول أو "السويت"، وكان هذا النقل تمهيداً لإخراجه. لكنه هذه المرة اكتشف معاناة جديدة هي كثرة الصراصير والسحالي التي كانت تتسلل إلى زنزانته وفراشه وطعامه. لكنه هنا استطاع الحصول على كتب ما كان ليقرأها خارج السجن، أربعة من تأليف آية الله مصباح يزدي وكتاب هو مذكرات آية الله القوجاني. وكان طلب دواوين سعدي وحافظ والبلخي ورفض طلبه.

وبعد أن سيم شتى ألوان التعذيب النفسي الذي يوازي التعذيب الجسدي قسوة، قرر إطلاق سراحه وأُخرج فعلاً في 28 يونيو (حزيران) 2005 ليعاني من ثم أحوالاً من التضييق منها مثلاً حرمان ابنته من حقها في دراسة مرحلة الماجستير في جامعة طهران وتوقيف ابنه في دمشق حيث كان يدرس في جامعتها بإيعاز من الاستخبارات الإيرانية. وقد أدت طرائق التضييق هذه إلى هجرته إلى لندن مع العائلة، ليواصلوا هناك حياتهم بعيداً من الاضطهاد والملاحقة.

يضم كتاب "وراء الشمس" وقائع عدة وتفاصيل لا تحصى، فهو فعلاً أقرب إلى سيرة مؤلفه الكاتب يوسف عزيزي داخل السجن الكبير الذي هو الجمهورية الإسلامية والسجن الصغير الذي هو سجن الخفاجية أو "السجن السري". هذا كتاب يقرأ بفضول ومتعة على الرغم من مقدار الألم الكبير الذي كابده مؤلفه مثله مثل المثقفين والكتاب والصحافيين المعارضين الذين ما برح النظام يزج بهم في السجون.

المزيد من ثقافة