يكابد الشارع السوري هذه الأيام مشقة البحث عن وسيلة نقل للوصول إلى أماكن العمل والدراسة، مع شبه انعدام توفر وسائل النقل الجماعية، إذ يكتظ الناس على مفترقات الطرق، ومواقف الحافلات تحت أجواء باردة وماطرة لساعات طويلة من دون أن يحظى أحدهم بمقعد إلا بشق الأنفس.
الأمر وصل إلى أبعد من ذلك بعد تقطع السبل بإتمام مكالمة هاتفية، إثر خروج شبكات للاتصالات الهاتفية عن الخدمة بالتوازي مع ضعف أداء شبكة الإنترنت، وبات الركوب بسيارة أجرة خاصة نوعاً من الترف المفرط، وذلك لغياب الوقود أو المواد المشغلة للأجهزة.
ويسيطر التقشف على المشهد بكامله من قبل المواطنين والحكومة، فالناس باتت تختصر مشاويرها بمركباتها الخاصة إلا للضرورة فقط، بينما خفضت وزارة النفط من حصة الآليات بنسبة نصف التوريدات لمحطات الوقود وكذلك المازوت لسبب يرده المعنيون إلى نقص بالتوريدات الخارجية وانخفاض المخزون الاحتياطي.
ويعبر مراقبون للشأن الداخلي السوري عن حال يأس عامة تسيطر على الناس ناتجة من واقع اقتصادي ومعيشي مترد، لتأتي أزمة إمدادات الطاقة وتزيد الأمر سوءاً وباتت هي الأقسى من بين أزمات عاشها السوريون على مر السنوات الماضية.
ناقلات النفط أضاعت الطريق
في غضون ذلك تبرر أوساط مسؤولة عن الملف الاقتصادي ومنها وزارة النفط ما يحدث إلى عوامل عدة، أبرزها العقوبات الاقتصادية الأوروبية والأميركية، وبحسب المعلومات الواردة عن إفراج البحرية الأميركية أخيراً عن الناقلة النفطية المحتجزة في اليونان، فقد وصلت إلى بانياس غرب سوريا، بينما حالت الظروف الجوية من دون تفريغها.
ويفسر وزير النفط السوري بسام طعمة المعاناة التي يشهدها قطاع النفط بالحرب الروسية - الأوكرانية وما رافقها من عقوبات على المشتقات النفطية الروسية ومن ثم التأثير في التوريدات، وأعلن خلال حوار بثه التلفزيون السوري الرسمي أن "ناقلة واحدة لا تحل الأزمة، لا بد من انتظام بالتوريدات، فالنواقل حجمها صغير، مليون برميل وأقل".
من جهته يلفت الباحث الأكاديمي بالاقتصاد السياسي بجامعة دمشق محمد حاج عثمان إلى تغير في استراتيجية التمويل وإمدادات الطاقة من إيران إلى سوريا بعد انشغال إيران بشؤونها الداخلية على خلفية التظاهرات التي اندلعت في أرجاء المدن الإيرانية، وأضاف لـ"اندبندنت عربية" أن "الفرصة كانت مواتية لطهران لتسويق المشتقات النفطية والنفط الخام بالمنطقة بعد توقف الإمداد الروسي، وهو ما سيشكل زيادة في طلب للطاقة عالمياً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأشار إلى أن أكثر ما يؤذي الاقتصاد السوري المتهاوي بعد الانهيار المتواصل للعملة (الدولار يساوي 5700 ليرة) هو موضوع الطاقة في المجالات الصناعية، مشيراً إلى أن "الإنتاج الحالي من آبار النفط والغاز الواقعة تحت السيطرة الحكومية، وسط البلاد وغربها لن يفي بالغرض، المطلوب اليوم عودة حقول شمال شرقي سوريا الأكثر كثافة وهي اليوم تحت سيطرة قسد ونيران الجيش التركي، ولعل ذلك أحد الأسباب التي أدت إلى تفاقم الأزمة وتأخر وصول الشحنات من الشمال، أو في الوقت ذاته التزام الدول الصديقة والحليفة لدمشق بإمدادها بكل ما ينقصها من مواد مشغلة".
آبار النفط قيد الترميم
في غضون ذلك يواجه القطاع النفطي تحديات كبيرة، فعلاوة على فقدان مساحات واسعة من حقول النفط والغاز خارج السيطرة، تبقى الآبار المسيطر عليها بحاجة إلى صيانة وإعادة تأهيل، والخسائر التي تكبدها القطاع وصلت إلى 105 مليارات دولار منذ بداية الحرب إلى منتصف عام 2022 وتأمل دمشق مساندة موسكو وطهران.
ويلفت وزير النفط السوري إلى أن الضربات التركية قبل 10 أيام شمال البلاد أحدثت ضرراً بمنشآت نفطية، منها معامل للغاز "ينتج 150 طناً من الغاز المنزلي" ويعترف بأزمة فعلية دفعت الحكومة للتقشف، وذلك عبر صدور بلاغ صادر عن رئيس الوزراء يطلب خفض المخصصات للسيارات الحكومة 40 في المئة، وقرار مشابه من قيادة عليا بحزب (البعث) الحاكم بخفض الكمية نفسها لمركبات كوادره.
في الوقت ذاته خرجت وزارة الاتصالات عن صمتها بعد تراجع خدمة الاتصالات الهاتفية وكشفت لمشتركيها عبر بيان رسمي عن خروج عدد من المراكز الهاتفية عن الخدمة، وتعزو السبب إلى صعوبة تأمين الوقود اللازم لتشغيل المولدات الكهربائية خلال فترة التقنين الكهربائي.
قساوة الحياة تشتد إلى أبعد مما يتصوره العقل في بلاد أنهكتها الحرب ولا تتوفر بها بضعة ليترات من مادة المازوت المنزلي للتدفئة، وبات المشهد الأكثر سوداوية انقطاع النقل والاتصالات وغرقت مدن رئيسة كبرى بعتمة ليل حالك فيما تسري أنباء غير مؤكدة عن انقطاع بالدوام يمكن أن يحدث في حال استمر هذا الواقع للتخفيف من أزمة النقل، وسط مخاوف من تأثر قطاع الصحة من مستشفيات ومراكز صحية بحاجة إلى الكهرباء بعد نقص الوقود المشغل.