Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

باكستان... البحث عن الطريق

في المشهد السياسي تشكل التصفيات الجسدية أفضل السبل لإقصاء الخصوم

باكستان تنتقل من أزمة إلى أخرى (رويترز)

ربما قدر للشعب الباكستاني أن يصارع من أجل العيش الكريم في بلد يواجه كماً هائلاً من التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية، ويتنقل من أزمة إلى أخرى، فما إن تبدأ استيعاب أبعاد الواحدة حتى تدهمها التالية.

ففي الجانب الاقتصادي، تعاني الدولة الارتفاع القياسي للتضخم وتضاؤل الاحتياطات من النقد الأجنبي إلى مستويات لم تعد معها تكفي لتغطية الواردات الأساسية لسبعة أشهر، ويعاني الاقتصاد عجزاً كبيراً في ميزان المعاملات التجارية.

ومن جانب آخر تسببت فيضانات نهاية الصيف الماضي في إغراق ثلث أراضي البلد، وخصوصاً في إقليم السند الجنوبي الذي ينتج نصف الاحتياجات الغذائية لباكستان. وأمام نتائج الكارثة الطبيعية فشلت الحكومة في تضميد جراح 33 مليون نسمة، دمرت بيوتهم وبيئاتهم المعيشية، نظراً إلى انغماسها في الصراع السياسي.

وفي الجانب الأمني، عاودت الجماعات المسلحة التي تعمل عبر الحدود مع باكستان نشاطاتها، فيما تواصل العلاقة مع حركة "طالبان" تقلباتها، ويهدد المتطرفون البلوش جهود الحكومة لحماية الممر الاقتصادي الصيني - الباكستاني. وتبقى الهند هي المحرك الأكبر لتوجهات تقويض مصالح باكستان على الصعيدين الإقليمي والعالمي.

يضاف إلى كوكتيل التحديات الاقتصادية والأمنية ويتوجها الاستقطاب السياسي الحاد الذي بدأ مع إقالة الجمعية الوطنية رئيس الوزراء آنذاك عمران خان في ساعة متأخرة من مساء السبت التاسع من أبريل (نيسان) 2022، واختيار شهباز شريف، شقيق رئيس الوزراء الأسبق نواز شريف الذي أزيح من منصبه بتهم فساد. وبين صراع النخب السياسية التقليدية منها والمستحدثة، كان الجيش الباكستاني وما زال هو الحاضر الأقوى في المعادلة السياسية.

فعلى رغم تفاعلات الأزمة السياسية والشائعات والتوقعات التي شهدتها المرحلة السابقة بشأن اختيار قائد الجيش، جاء قرار رئيس الوزراء في الأسبوع الماضي تعيين الجنرال عاصم منير قائداً جديداً للجيش خلفاً للجنرال قمر جافيد باجوا مهدئاً للأجواء المشحونة، باعتباره المرشح المستحق وفق المواصفات والمعايير، والتوافق السياسي الوطني، ليعيد بعض التوازن إلى الوضع الباكستاني المقلق في هذه مرحلة الدقيقة.

الإقطاعيات السياسية

إدارة الشأن العام في باكستان منذ قرار التقسيم في 1947، كانت بشكل أو بآخر تتم بالتناوب بين الإقطاعيات السياسية والعسكر، بين الانقلابات العسكرية والحكم المدني، وبين الممارسة الديمقراطية والنظم التسلطية، وبين العلمانية النسبية والإسلاميين. ومنذ مقتل الجنرال ضياء الحق في 1988 بقيت السلطات التنفيذية في تداول بين "حزب الشعب الباكستاني" بقيادة آل بوتو، الأسرة ذات التأثير الكبير في إقليم السند، و"حزب الرابطة الإسلامية" بانشقاقاته المتعددة وكتلته الأكبر التي بقيت بقيادة رئيس الوزراء الأسبق نواز شريف، ليرث مكانته رئيس الوزراء الحالي أخي الأصغر شهباز شريف. وتعود الأسرة إلى إقليم البنجاب الذي يضم 60 في المئة من السكان.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"حزب الرابطة الإسلامية" هو لافتة سياسية أكثر منه حزباً منضبطاً، وقد شهد حين تأسيسه في 1962 سلسلة من الانشقاقات، لتعود إليه وحدته في 1973 بعد جهود الرموز الرابطية الرئيسة لتوحيد الحزب، إلا أن الجنرال ضياء الحق حل الرابطة مع بداية حكمه، لتعود مجدداً في ظله إلى العمل في 1985. وفي 1988 أصبح نواز شريف رئيس الرابطة التي استمرت في التشظي خلال فترة قيادته لها، وكان ما يجمع مكوناتها الوصول إلى الحكم، وما زال الأمر كذلك.

لقد نجح نواز شريف في قيادة باكستان خلال تسع سنوات غير متواصلة، حتى جاء قرار المحكمة العليا الذي قضى باعتباره غير مؤهل لشغل منصب عام مدى الحياة، لاتهامه بشكل متكرر بتهم فساد وتهربه عن الإفصاح عن مداخيله الخاصة. وعلى رغم مغادرة نواز شريف لباكستان في 2019، إلا أنه يعتقد بشكل واسع في باكستان أنه ما زال يدير شؤون الحزب والحكومة من مقر إقامته الجديد في لندن.

أما الحزب الثالث في الجمعية الوطنية الحالية، وصاحب النفوذ التاريخي في باكستان، فهو "حزب الشعب" الباكستاني، وهو من أحزاب اليسار وينتمي إلى الاشتراكية الدولية وتهيمن عليه العشائرية السياسية ممثلة في آل بوتو، إذ تداول أفرادها قيادته منذ ذوالفقار علي بوتو، وكانت من أبرز قياداته ابنته رئيسة الوزراء السابقة بنظير بوتو التي شغلت المنصب الأعلى في البلاد لدورتين، وأقيلت بتهم فساد. وفي مشهد مؤسف فقدت باكستان بنظير بوتو التي راحت ضحية عملية اغتيال في 2007. ويقود الحزب حالياً ابنها بيلاوال بوتو.

كريكيت السياسة الباكستانية

والبعد العائلي أو ما يسميه المراقبون بالإقطاعيات السياسية حاضر بقوة في الحياة الباكستانية، وما زال الناخب تقليدياً في ولائه وفي ممارسته حقه الانتخابي. وشكل بروز لاعب الكريكيت عمران خان الباشتوني عرقياً والآتي من خارج المعادلة التقليدية أمل الطبقات الوسطى والفئات المثقفة المتحررة من تأثيرات الإقطاعيات السياسية. وكان رئيس الوزراء السابق قد حقق اكتساحاً ملحوظاً في إقليم البنجاب في الانتخابات الماضية، وهو معقل تقليدي للرابطة الإسلامية، بعدما حقق استقطاباً واسعاً في صفوف الفئات الشابة التي لم تعد تثق بالأحزاب التقليدية.

عمران خان انتقل من شخص مشهور ورمز وطني لرياضة الكريكيت العالمية المحببة إلى قلوب ملايين إلى حقل السياسة، وتمكن من تأسيس حزب سياسي جديد باسم "التحريك والإنصاف" في 1966 ليخوض به غمار السياسة ويفوز بمقعد في الجمعية الوطنية في 2013. أقنع خطاب عمران خان الشباب من دون الـ30 من العمر الذين يشكلون 64 في المئة من مجمل سكان البلاد، وهم جيل السوسيال ميديا، بقدرته على إحداث انقلاب في الشكل التقليدي الذي تدار به باكستان، ووعد بمكافحة الفساد، وبنى خطابه السياسي من منطلق الإحباط العام من الطبقة السياسية التي يصفها خان في خطاباته بالسلالية الفاسدة.

وتنتشر قاعدة خان في إقليمي البنجاب وخيبر باختونخوا، وبين أبناء الطبقات الوسطى ومثقفي المدن. ومنذ أن خسر في تصويت حجب الثقة في الجمعية الوطنية في 10 أبريل الماضي، ظل هاجس خان مرتكزاً على إبقاء جذوة قضيته مشتعلة أمام محاولات القوى التقليدية طي صفحته السياسية، وصولاً إلى بداية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حينما أطلق أحدهم النار عليه وهو في مهرجان سياسي فأصابه في قدمه في محاولة مكررة في المشهد السياسي الباكستاني، حيث تشكل التصفيات الجسدية أفضل السبل لإقصاء الخصوم.

ويقول مراقبون إن نتائج التحقيقات لن تفضي إلى شيء، في تاريخ طويل من التحقيقات حول القتل السياسي التي لم تصل إلى نتائج، ولكنهم يعتقدون أن محاولات تهميش عمران خان وإبعاده من المشهد السياسي تزيده قوة وشعبية، وأنه في حال تم تنظيم انتخابات عامة مبكرة فإن فرص نجاح خان تظل هي الأكبر. ومن هنا، فإن عمران خان يضاعف من تحركاته لعقد مزيد من التظاهرات والمهرجانات السياسية في مختلف مناطق باكستان للضغط على الحكومة للدعوة إلى الانتخابات.

ويراهن الخصوم السياسيون على قدرتهم على تهميش خان أو التمكن من إزاحته من المشهد السياسي تحت مسميات شتى، وربما يكون من بينها تأليب المؤسسة العسكرية ضده، انطلاقاً من تصريحاته النارية التي أعقبت إزاحته التي اتهم فيها الجيش وخصومه السياسيين بالتواطؤ مع الولايات المتحدة لإقصائه، مما يجعله في مواجهة مع الجيش هو في غنى عنها. كما أن خصومه استغلوا قلة خبرته في دهاليز الحكم خلال فترة قيادته للبلاد لإبراز مواقفه الشعبوية من قضايا مهمة في السياسة الخارجية التي شكلت خروجاً عن الخط التقليدي للسياسة الباكستانية.

ويبقى الرهان الذي ينتظر باكستان في قدرة عمران خان أو غيره من السياسيين غير التقليديين الوافدين من خارج الإقطاعيات السياسية والدولة العميقة، على تحقيق اختراق لمصلحة تعميق مفهوم المؤسساتية والشفافية ومكافحة الفساد الذي كان وما زال العنوان الأبرز في الحياة الباكستانية. والأهم أن يأتي من يفكك أزمات باكستان المتراكمة، ويضمد جراح المنكوبين من فيضانات نهاية الصيف الماضي، ويقدم برنامجاً اقتصادياً عقلانياً ومشروعاً سياسياً براغماتياً، بعيداً من صراع دون كيشوت مع طواحين الهواء.

المزيد من آراء