ربما يكون إيلون ماسك من الأسماء التي تتردد بشكل مستمر في الأخبار منذ بضع سنوات، لكنه شغل الصحافة ومستخدمي هواتف "أبل" وموقع "تويتر" خلال الأسابيع الأخيرة بسبب اللغط الدائر منذ استحواذه على منصة التواصل الاجتماعي الشهيرة.
بحسب مؤشر "بلومبيرغ" للمليارديرات، فإن ماسك الآن هو أغنى رجل في العالم بثروة تقدر بـ181 مليار دولار حتى 18 نوفمبر (تشرين الثاني).
اشتهر ماسك بالمليارات التي كسبها على مر السنين من شركات أسسها أو شارك في تأسيسها أو اشتراها مثل "تيسلا"، "سبيس إكس"، "ذا بورينغ كومباني" و"نيورالينك". اللافت في حالة هذا الرجل أنه لم يولد ثرياً ولم يرث أعماله التجارية من أسرته، لكنه اعتمد بالكامل على ذكائه وموهبته وتصميمه.
ماسك ليس حالة فريدة في يومنا هذا، إذ نجد إلى جانبه في قائمة مجلة "فوربس" لأغنى 10 شخصيات في العالم أسماء مثل جيف بيزوس مؤسس شركة "أمازون" وبيل غيتس المؤسس المشارك لـ"ميكروسوفت".
تثير هذه النجاحات الفردية تساؤلات حول شكل من أقدم أشكال الأعمال التجارية التي عرفتها البشرية وهو الشركات العائلية أو الأعمال التجارية العائلية التي تعد فئة مهمة وحيوية تلعب دوراً كبيراً في اقتصادات الدول وينعكس أثرها على الاقتصاد العالمي. لفترة طويلة من الزمن تشكل الأعمال التجارية المملوكة لعائلات أكثر من 90 في المئة من الشركات الأميركية، بحسب مكتب الإحصاء الأميركي، وتسهم بـ64 في المئة من إجمالي الناتج المحلي وتوظف نحو 62 في المئة من العاملين في البلاد.
ما الشركات العائلية؟
هي أعمال تجارية تمتلكها عائلة معينة أو أشخاص من الأسرة نفسها، اثنان أو أكثر، يتشاركون في الملكية ويتمتعون بالحق في السيطرة على الإدارة واتخاذ القرارات.
تكون الملكية حصرية في هذه الأعمال التجارية بهدف الهيمنة عليها والحفاظ على استمراريتها ضمن الأسرة نفسها وتوريثها إلى الأجيال التالية، ما يميزها هو هيكليتها المكونة عادة من عدد كبير من المساهمين الصغار بينما تتركز القوة في يد الملاك الأساسيين المتحكمين في إدارتها، كما أن العلاقات الشخصية تلعب دوراً جوهرياً في تسيير المصالح الاستثمارية للشركة. وكي يصنف عمل تجاري ما على أنه عائلي لا بد أن يمتلك أفراد العائلة مساهمة كبيرة في رأس المال، ويتمتعوا بأكبر نسبة في حق التصويت في مجلس الإدارة وسلطة التخطيط الاستراتيجي للشركة. قد تكون هذه الشركات بسيطة وتشتغل في نوع واحد من الأعمال التجارية وتتبع آلية انتقال واضحة للسلطة حيث تورث للابن الأكبر جيلاً بعد آخر أو قد تتخذ شكل الشركات ذات الطابع الإداري المشترك التي يسهم عدد كبير من أفراد العائلة في ملكيتها أو إدارتها أو كليهما. تحتاج مثل هذه الأعمال تنظيماً أكثر تعقيداً وليس من الضروري أن تعكس الصلاحيات الإدارية التراتبية العمرية في الأسرة ولكنها تركز على المصالح التجارية. أو قد تلجأ العائلات إلى شركات أصغر ومواهب اقتصادية متميزة ليست من العائلة لضمان استمرارية استثماراتها بينما تحافظ الأسرة على ملكية رأس المال واسم الشركة والنصيب الأكبر من الأرباح.
تنشأ هذه الكيانات التجارية العائلية كجهد فردي يقوم به الشخص/ الأشخاص المؤسسون رغبة في امتلاكهم نشاطاً تجارياً يتحكمون فيه. في الغالب يستغرق الأمر سنوات طويلة من العمل الدؤوب ومواجهة التحديات والصعوبات والفشل المتكرر حتى تصل التجارة إلى مؤسسة أو شركة عاملة ولها موطئ قدم في السوق.
تغير السوق: فرص جديدة أم تحديات صعبة أمام الشركات العائلية؟
لا يختلف اثنان على أن طبيعة الحياة بالمجمل اختلفت خلال العقود الأربعة الأخيرة، حيث بات التركيز على الفرد أكبر سواء من حيث تلبية الاحتياجات أو مراعاة الخصوصية أو الاحتفاء بالجهود والإنجازات الفردية. أدى ذلك إلى ارتفاع أعداد المستهلكين حول العالم والتوسع في سلاسل التوريد العالمية وتأسيس عدد كبير من الشركات الناشئة، بخاصة في قطاع التكنولوجيا.
بالنسبة للشركات العائلية فقد استفادت مثلها مثل غيرها من هذه التغييرات الكبيرة، حيث تمثل نحو 40 في المئة من الشركات الكبرى حول العالم، لكن من ناحية أخرى بلغ عدد الشركات في العالم ضعف ما كان عليه في تسعينيات القرن الماضي، ويركز معظمها على التوسع والنمو أكثر من هامش الربح. وتمثل هذه البيئة المتغيرة فرصاً مهمة وتحديات صعبة في آن معاً لهذا النموذج من الأعمال التجارية الذي كان يحقق مكاسب ضخمة لفترة طويلة من التوسع الاقتصادي. وبعد عقود من الحضور البارز في الأسواق الأوروبية تجد الشركات العائلية أنها فعالة أكثر الآن في الاقتصادات الناشئة مثل الصين والهند وأميركا اللاتينية، لكنها ما زالت محصورة في قطاعات المستهلكين وتستثمر في مجالات التجزئة والسلع الاستهلاكية وتبتعد عن البنى التحتية مثل النقل أو الطاقة ويكاد يكون حضورها شبه معدوم في المجالات الابتكارية والتقنية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لماذا تندثر الشركات العائلية؟
أظهر التقييم السنوي للأعمال التجارية الصادر عن جامعة هارفرد السنة الماضية أن 70 في المئة من الشركات المملوكة لعائلات تنهار بوصولها إلى الجيل الثالث. على الرغم من أن هذه الشركات تجني بشكل عام عائدات تماثل أو تتجاوز تلك التي تحصل عليها نظيراتها التي تملكها الدولة أو ذات الملكية الفردية، وعلى الرغم من ازدياد نفوذها على المستوى العالمي فإن الطبيعة الداخلية المعقدة للأعمال العائلية تؤثر بشكل كبير على فرص نجاحها واستمرارها.
عادة ما يبني الجيل المؤسس نشاطه بفضل الجهد المتواصل والإصرار والتركيز على هدف التوسع والنمو، لكنه غالباً ما يفشل في توريث ثقافة العمل هذه إلى الجيل الثاني من أبنائه، حيث يوفر لهم حياة مرفهة سهلة رغبة منه في تجنيب أبنائه الصعوبات التي واجهها في بدايات حياته العملية. ينجم عن ذلك عدم إدراك الجيل الثاني للحجم الحقيقي للعبء الذي يترتب على ملكية ومسؤولية العمل التجاري وعدم جاهزيته لتحملها. كذلك، تكون عادة مساهمة الأبناء في اتخاذ القرارات شكلية وغير فعالة. ومع مرور الزمن وعند موت الشخص المؤسس تنشب الخلافات والصراعات بين الورثة لعدم وجود مرجعية واضحة تحدد مهام وحقوق كل منهم، كما أن تقسيم الثروة يؤدي إلى تشتتها وتلاشيها تدريجياً بالتالي زوال الشركة كنتيجة.
في بعض الأحيان قد يرفض المؤسس/ المؤسسون التحول من فردية القرار إلى الإدارة المؤسساتية وإنشاء مجلس إداري ينظم آليات العمل ويحكم العلاقات ويضمن أنها مبنية على أساس المصلحة التجارية وليس على الروابط الأسرية. يؤدي الفشل في الفصل بين القضايا الشخصية والشؤون التجارية إلى تفويت الشركة فرصاً مهمة، كما أن وجود عدد كبير من أفراد الأسرة المتمتعين بصلاحيات إدارية واسعة قد يكون أكبر من قدرة الشركة على تلبية احتياجاتهم وطموحاتهم المتنوعة وتطبيق استراتيجياتهم المتضاربة، إذ قد يسعى بعضهم إلى الحفاظ على ثروة الأسرة كما هي، بينما يرى الآخر ضرورة زيادتها.
تتسم الاستثمارات العائلية أيضاً بتركيزها على الاستمرارية على المدى الطويل والمحافظة على مستوى جودة معينة لأن منتجها مرتبط باسم العائلة في كثير من الأحيان، لكن هذا يشكل عائقاً أمامها لأنه يدفعها إلى التردد وعدم المخاطرة، بالتالي غياب الابتكار والشجاعة في زمن تعد المجازفة باستكشاف عوالم وبيئات جديدة من أهم عوامل نجاح الاستثمارات التجارية، كما أنها تميل إلى الفشل في تبني استراتيجيات تطوير جديدة أو حلول مبتكرة للمشكلات الطارئة. يتسبب الحرص الشديد في الحفاظ على نسبة رأس المال التي تمتلكها الأسرة في الشركة إلى تردد وخوف في التخلي عن جزء من الأصول أو في قبول مساهم جديد لا ينتمي إلى العائلة لكنه قد يقدم رؤية داعمة ومطورة لنشاطها. بالنسبة لثلث العائلات التي تتمكن من توريث نشاطها إلى الأجيال المقبلة فهي تتلافى هذه الأخطاء وتحرص على إعداد جيل جديد يتمتع بكفاءات علمية عالية المستوى وقدرات قيادية فعالة ومنحه أدواراً قيادية في وقت مبكر وإدراك قدرته على فهم تغير سلوك المستهلكين مع كل جيل جديد، إضافة إلى ذلك تتقبل إعادة هيكلتها والتخلي عن جزء من أصولها وتفكيكها إلى كيانات أصغر أكثر كفاءة، واضعة هدف الاستمرارية في مرتبة أهم من حفاظها على نسبة معينة من رأس المال.
علامات تجارية عائلية ناجحة
رغم كل التحديات التي يبدو أن العائلات التجارية تواجهها، وصعود أسماء إلى قمة سلم الثروة العالمية بفضل جهودها الفردية، لا تزال هناك علامات لها ثقلها العالمي يعود الفضل في وجودها إلى العمل الجاد الذي يبذله أفراد أسرة واحدة. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
- علامة "نايك" (Nike) الرياضية، أسسها الأميركي فيل نايت عام 1964 الذي عين نجله ترافيس نايت خليفة له في رئاسة مجلس إدارتها سنة 2015.
- شركة "سامسونغ" (Samsung) الكورية الجنوبية التي أسسها لي بايونغ تشول عام 1938، وتتولى إدارتها حالياً عائلة لي.
- سلسلة متاجر "وول مارت" (Walmart) الأميركية، أسسها سام والتون سنة 1962، وهي الآن أكبر شركة عالمية من حيث الإيرادات، وتديرها عائلة والتون التي تعد أغنى عائلة في العالم.
- شوكولاتة وحلويات "مارس" (Mars) التي اشتهرت عبر أجيال عدة بصناعة منتجات تحمل اسمها. تأسست الشركة عام 1911 على يد فرانلكلين مارس ويمتلكها الآن حفيداه، الأخوان جاكلين وجون مارس، ويديرها أبناؤهما الذين يشكلون الجيل الرابع في العائلة.
- سلسلة متاجر "آلدي" (Aldi) نشأت بفضل جهود الأخوين الألمانيين كارل وثيو ألبريشت بتحويل متجر والديهما الصغير عام 1961 إلى سلسلة محلات تبيع المنتجات بأسعار مخفضة في البلاد، وتوسعت الشركة منذ ذلك الحين لتضم حالياً ما يزيد على 11 ألف متجر منتشر في أكثر من 20 دولة.
- شركة "أيكيا" (IKEA) للمفروشات أسسها السويدي الراحل إنغفار كامبراد ابن العائلة الريفية الفقيرة سنة 1943. استقال عام 2013 من رئاسة الشركة التي توسعت أعمالها لتصل إلى 63 دولة ليحل محله ابنه ماثيو.
- علامة "فورد" (Ford) التي أسسها هنري فورد سنة 1903 وتصنع سيارات "فورد" و"لينكولن" الفاخرة. وعلى الرغم من أن أحفاد هنري يمتلكون اثنين في المئة فقط من أصول الشركة، فإنهم يتحكمون بها بفضل تمتعهم بـ40 في المئة من نسبة التصويت في القرارات.
تشهد المرحلة الحالية تحديات اقتصادية تواجه الجميع، من مستهلكين إلى القائمين على أنشطة تجارية فردية ووصلاً إلى أصحاب الأسهم وملاك الشركات العائلية. وتشكل الضغوط الراهنة اختباراً لقوة أو ضعف نموذج الأعمال الأسري الذي ينطوي على عناصر شخصية ومهنية تحتاج إلى مجهود كبير للموازنة بينها، لكنها ستظل قادرة على لعب دور مهم في عالم الاقتصاد طالما أنها تلبي حاجات السوق وتستفيد من تحولاته باستمرار.