"الملك لا يستطيع أن يخطئ" بحسب الصيغة الإنجليزية القديمة. وفي الصيغة الروسية اليوم، فإن الرئيس فلاديمير بوتين لا يستطيع أن يخطئ، لكن الملوك الإنجليز أخطأوا كثيراً، ودفعت بلادهم الثمن من دون إشارة علنية إلى الأخطاء. وبوتين ارتكب غلطة جيوسياسية واستراتيجية، من حيث أراد تغيير اللعبة الجيوسياسية على قمة العالم لمصلحة روسيا. اجتاح أوكرانيا بحجة منع "الناتو" من الوصول إلى حدود روسيا، فوصل إليها الحلف الأطلسي في فنلندا والسويد. وتجاهل الدرس التاريخي الذي قدمه بسمارك وهو أن "الحرب الوقائية مثل الانتحار خوفاً من الموت".
فالحرب "جعلت روسيا أضعف عسكرياً واقتصادياً وجيوسياسياً" كما يقول الخبيران الأميركيان مايكل فورمان وأندريا كينال- تايلور في مقال نشرته "فورين أفيرز" تحت عنوان "أفول روسيا الخطير". والتجنيد الجزئي "أيقظ المجتمع الروسي على حقائق الحرب"، إلى جانب "تراجع الاقتصاد ستة في المئة عام 2022". وإذا كانت أميركا ترى أن أي انتصار لبوتين في أوكرانيا يشكل تهديداً لمصالحها وخطراً على أوروبا، فإن فورمان وكينال يحذران من أن "هزيمة بوتين لن تخفف من خطر روسيا".
ذلك أن بوتين في ورطة بمقدار ما وضع العالم كله في ورطة. هو لا يستطيع الخروج من الورطة لا عسكرياً كما تصور، ولا بالتفاوض كما يطلب حالياً على أساس تسليم كييف بالأمر الواقع. والعالم لا يعرف كيف يخرج من الورطة.
بوتين يمارس سياسة المقامر، كلما خسر ضاعف الرهان وخسر أكثر. والغرب الذي تعب من تقديم المال والسلاح لأوكرانيا لا يستطيع سوى الاستمرار مهما طالت الحرب. والعالم يعاني نقص الغذاء والطاقة وارتفاع الأسعار وزيادة التضخم والانكماش الاقتصادي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن المفارقات في حرب صورتها موسكو بأنها للقضاء على خطر "النازيين الجدد" في أوكرانيا أن يقلد بوتين مفهوم إسرائيل ومفهوم هتلر، ويعمل عكس منطق الإغريق في الحروب. مفهوم إسرائيل هو اعتبار الأرض التي تحتلها أرضاً "محررة" صارت ملكها. وروسيا تسمي احتلال أربع مقاطعات من أوكرانيا وضمها إليها "تحريراً" واستعادة ملك، بحيث ردت على مطالبة الهيئة الدولية للطاقة الذرية لها بإخلاء محطة زابوريجيا النووية بالقول "هذه ملكنا".
ومفهوم هتلر هو احتلال كل أرض يسكنها ألمان أو ناطقون بالألمانية من أجل الوحدة مع برلين، كما فعل في النمسا والسوديت في تشيكوسلوفاكيا وبولونيا. ومفهوم بوتين هو "توحيد الجغرافيا والديموغرافيا الروسية"، فكل روسي أو ناطق بالروسية في أوكرانيا ومولدوفا وجمهوريات البلطيق وكازاخستان هو "مواطن" في الاتحاد الروسي يجب ضمه مع الأرض إلى "الأم روسيا".
في الحروب بين المدن والجزر أيام الإغريق كان المنطق الذي يحترمه المحاربون هو الامتناع عن قطع المياه عن العدو وإلحاق الأذى بالمدنيين. أما في حرب بوتين، فإن الرد على الخسائر في ساحات المعارك من خاركيف إلى خيرسون هو حرمان المدنيين الأوكران من الماء والكهرباء والغذاء. ثمانية ملايين منزل بلا كهرباء. كيف؟ عبر تكثيف القصف بالصواريخ والمسيرات على البنية التحتية وتحويل الجوع والشتاء إلى سلاح.
في كييف كما في سواها من المدن تدمر الغارات محطات الكهرباء والمياه، بحيث يواجه السكان شتاء تنزل الحرارة فيه تحت الصفر بلا كهرباء ولا تدفئة. والمحطات المقصوفة بعيدة مئات الأميال من جبهات الحرب. وهذه "جريمة حرب" و"جريمة ضد الإنسانية"، بحسب البيانات الصادرة في كثير من عواصم العالم، لكن الحرب هي في الأساس جريمة كبيرة ضد الإنسانية. وما تسمى قوانين الحرب مجرد أدوات لمنع جرائم إضافية داخل الجريمة الكبيرة.
أمهات الجنود يسألن بوتين "أين أبناؤنا؟" ولا جواب سوى القول التقليدي "نحن نشارك العائلات المشاعر". والداعون إلى التفاوض يعرفون أن موسكو تطلب التسليم لها بما تحتله، وكييف تريد الانسحاب الروسي الكامل قبل بدء التفاوض. ولا مجال لحل وسط. وأخطر ما في حرب أوكرانيا التي أعادت سياسة الغزو إلى السوق ودفعت الشعب الأوكراني وشعوب العالم إلى معاناة أوضاع صعبة هو أنها تستعصي على الانتهاء في الميدان كما على طاولة المفاوضات. والمعادلة هي: روسيا خطرة إذا خسرت وخطرة إذا ربحت.