Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"19 ب" أفضل فيلم عربي في مهرجان القاهرة بجرأته الشاملة

حارس العمارة المتهاوية يحار بين صورتين متناقضتين لبلاده

حارس الفيللا المتداعية ينظر إلى القاهرة الأخرى (ملف الفيلم)

حارس فيللا آيلة إلى السقوط في أي لحظة هو بطل "19 ب"، الفيلم الأحدث للمخرج المصري أحمد عبد الله السيد، الفائز بجائزة أفضل فيلم عربي في مهرجان القاهرة السينمائي الأخير. الممثل سيد رجب يجسد هذا الحارس الذي تشهد حياته فوضى يمكن وصفها بالخلاقة، عندما يقتحم شابان ملاذه "الآمن" لتحويله مخرناً للمواد التي يتاجران بها. العجوز الهادئ كان اختار الإنسحاب من الحياة العامة وعدم الخروج من البيت المهجور الذي ما عاد أحد من مالكيه القدامى يسأل عنه. حياته باتت محصورة في أمور يومية بسيطة مثل إطعام الكلاب والقطط التي تحوم حوله، والاستماع إلى الموسيقى التي يتردد صداها في أرجاء المنزل المريب. وفي انتظار اللحظة التي ستغير كل شيء وتفجر القلوب المليانة، يتلقى صديقنا زيارات متفرقة من أناس يقطعون حبل أفكاره السارحة إلى بعيد: تأتي ابنته للإطمئنان إليه ويطل عليه صديقه حارس المبنى المجاور ومعه طعام للحيوانات. وهناك زيارات متكررة له من جهات رسمية تريد التأكد من أن الدعامتين اللتين تتكئ عليهما الفيللا المتداعية لا تشكّلان خطراً. 

هذه هي أجواء الفيلم الذي يصوّر خلال مشاهده الافتتاحية رتابة الحياة المتكررة داخل عمارة، تبدو لوهلة، كأنها تطوي زمناً أو تخفي سراً، لكن يكفي الخروج بضعة أمتار، كي نصبح في القاهرة تحت شمس زمننا الحالي، حيث حيّ مغبر غير جذاب، فنعي لمَ يمتنع الحارس عن الخروج من المكان الذي حبس فيه نفسه. فالتغيير الذي حدث من حوله، يرفضه بشكل قاطع. ذلك أنه يشعر بالغربة إزاءه ووسطه. وجوه جديدة حلت مكان الوجوه القديمة، وثمة واقع جديد لا يملك حياله أي سلطة. والفيلم يُظهر جيداً مسألة فقدان السيطرة هذا الذي كان هاجساً للعديد من الأفلام عبر التاريخ. الفقدان الذي إما يجعل الشخص في معظم الأحيان ينسحب إلى حيزه الضيق وإما ينكر وجود الجديد الذي يمحو القديم. الحارس يحمل كل هذه الأشياء في داخله من دون أن يتحول شخصية منفرة أو مسخاً. يجعلنا الفيلم نلمس إنسانيته التي يصعب لمسها من المشهد الأول.  

مساحة صغيرة

ضمن المساحات القليلة التي لا تتعدى الفيللا وباحتها الخارجية، تدور كل أحداث الفيلم الممتدة ساعة ونصف الساعة، ويعدّ هذا تحدياً لأي مخرج، لكن أحمد عبدالله السيد يعرف ماذا يريد، فيحول المكان إلى شيء أشبه بجزيرة، لكنها جزيرة تتفاعل مع محيطها. فثمة أخذ وردّ بين العالم الداخلي والعالم الخارجي، وكاميرا مدير التصوير مصطفى الكاشف (نال جائزة هنري بركات لأفضل مساهمة فنية) تأخذنا في أرجاء الفيللا، ولها دور كبير في إبراز جماليات المكان. ثم، هناك أيضاً هذا الإحساس المتواصل بأن الفيلم يتجاوز المكان، لا يخنقه بل يسمو به. للمكان كيانه الخاص و"قدسيته"، إنه شخصية في ذاتها، يساهم في بناء مصير الشخصيات، وهو صدى للحارس ولوجوده المتجمّد في الزمان والمكان.  

الفيللا التي توقف فيها الزمن، تفرض رمزية قوية، وهي في الحين نفسه استعارة، ويصعب عدم مقاربتها من هذه الزاوية: مصر القديمة الجميلة مقابل مصر الحالية المتهالكة. لكن المخرج يذهب إلى أبعد من هذا التبسيط لموضوع معقّد، ممّا يجعلنا نطمح إلى قراءة أعمق لفيلم أُنجز في زمن تعيش مصر أزمات تنعكس سلباً على الأصعدة كافة، وعلى السينما أيضاً. أي مصر ينبغي أن تصل إلى الجمهور، وأي مصر على السينمائيين توثيقها؟ هذا سؤال لا يمكن أن يغيب عن بال أي مخرج مصري، لديه ما يكفي من الحماسة لتصوير مثل هذا العمل الذي يروي الهامش المصري ويصل عبره إلى المتن. فالشعوب المهمة، في النهاية، هي تلك التي لا تخفي واقعها حتى عندما يتناقض ذلك مع المصلحة العامة، أو ما تعتبره الدولة مصلحة عامة.

وجه الممثل

وجه الممثل سيد رجب يقول الكثير، لا حاجة للكلمات عندما يتصدر الأسى الجبين. حتى صمته متحدث لبق. لِمَ فضّل البقاء في هذا المكان ليحصر نفسه داخل عالم لا يتطور بل يتصدع أكثر فأكثر يوماً بعد يوم؟ نسأل وما من جواب. لا يكفي أن نعلم أنّ زوجته رحلت. حتى معرفتنا بأنه يفتقر إلى سقف يؤويه في حال تركه الفيللا، لا تبرر مشاعر الامتلاك التي لديه. الشذرات التي تصلنا عن حياته ليست مسوغاً لأفعاله. لا بد أن هناك أسباباً، بعضها ظاهر وبعضها غامض. ومن هذا التداخل بينهما يتولد الفيلم وتتولد الشخصية ويتولد عندنا الكثير من الأسئلة التي تحض على التفكير.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أحمد عبد الله السيد يحوّل الشخصية الثانوية في الكثير من الأفلام، المصرية وغيرها، بطلاً لفيلمه، وهو ليس بالبطل المضاد، إذ أنه يعي في لحظة أنه لا يوجد في هذا المكان أحد يعتمد عليه سوى نفسه، وسيكون خيار الإعتماد على الذات (ومواجهة الشر بأيادٍ عارية)، بناءً على نصيحة جاره، صائباً. وهذا كله ينطوي في نهاية الجولة على رسالة سياسية مشفرة، مفادها أن بال المظلوم طويل، وطويل جداً، لكن لا بد أن يبلغ السيل الزبى في يوم من الأيام.

يأتي "19 ب" بفكرة معكوسة للصراع الطبقي. أكثر المشاهدين وعياً وإدراكاً، لا بد أن ينتبهوا إلى أننا أمام شخصية واحدة. نعم، كل الشخصيات في الفيلم واحدة. رغم أن الحكاية توحي بأننا أمام فيلم عن صراع بين قوي وضعيف أو بين مهيمِن ومهيمَن عليه، بين معتدٍ ومعتدى عليه، فسنكتشف تباعاً أن المعركة بين الضعفاء المنبوذين الذين لا حل لهم سوى الانتقام بعضهم من بعض. هذا الصراع العبثي، بين شخصيات ذات مصائر يتقاطع بعضها مع بعض، يستدرج الوحوش الخائفة والحائرة والقلقة التي تخرج من قمقمها. في واحد من أكثر المشاهد عنفاً، ينظر الحارس في عين الشاب بعدما طرحه أرضاً، وعندي اقتناع بأنه رأى فيه نفسه. يمكن العثور على ما يريد الفيلم قوله في تلك اللحظة: ما من حرب أشرس من الحرب التي بين الضعفاء المساكين الذين يتقاتلون على مرأى ومسمع من القوي الذي يشهد على الصراع وينأى بنفسه عنه. 

اقرأ المزيد

المزيد من سينما