Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

استعادة مأساة مي زيادة في صورة مريم الضحية المصرية

علي حسن يعيد فتح ملف الكاتبة اللبنانية وحياتها في القاهرة

الكاتبة مي زيادة التي شغلت عصرها (وزارة الثقافة اللبنانية)

كان للنساء النصيب الأكبر في ميراث البشرية من القهر، تقبلته نساء كثيرات راضيات وقليلات تمردن، صارعن التهميش والإجحاف من أجل أن يخلقن نقطة ضوء، لكنها ما إن تتشكل حتى تختفي ومعها كل محاولات الخلاص، هنا يسجل التاريخ أسماء الضحايا ويخلد الحكايات المأسوية والمرارات والألم، ثم يعيد الأدب بعثها من جديد، كما في رواية "أنا مي زيادة"، للكاتب علي حسن الصادرة أخيراً عن مركز إنسان- القاهرة.     

بعنوان مراوغ يبدأ الكاتب رحلته السردية محفزاً الأسئلة حول الشخصية المحورية في النص، وما إذا كانت هي مي زيادة الكاتبة والأديبة الشهيرة، التي عاشت في النصف الأول من القرن الماضي، بين لبنان ومصر، أم إنها شخصية أخرى تتمثل بالكاتبة أو تحمل اسمها، ثم يكشف السرد عن صحة كلتا الفرضيتين، فقد نسج الكاتب حكايتين منفصلتين، تدور أحداثهما في فضاءين زمنيين متباعدين، لكنهما تتقاطعان وتتداخلان وتشكلان دائرتين من دوائر الزمن المتطابقة الموسومة بالظلم والمعاناة، التي يتصل فيها المجد بالسقوط.

تبدأ الحكاية الأولى في مستشفى المعادي 25 يناير (كانون الثاني) 2011، مما يوحي بأن صلة ما تربط الأحداث بثورة يناير، غير أن الكاتب يخالف ما تحيل إليه هذه التوطئة، فيجعل ثورة يناير ظلاً يحمل إشارات ضمنية حول فكرة النضال المستمر ضد الظلم في كل أشكاله، لا سيما الذي تتعرض له المرأة، ثم يسلك سرداً ذاتياً عبر الشخصية المحورية "مريم"، ويعمد إلى الارتداد العكسي "الفلاش باك"، فينتقل بالأحداث إلى أسيوط  عام 1986، ويرصد واحدة من القضايا الشائكة التي تتصل بظلم المرأة، بخاصة في صعيد مصر، وحرمانها من كثير من حقوقها، لا سيما ميراثها في ما ترك الآباء، بينما لا تمارس هي سوى احتجاج أبكم وتستسلم لعجلات القهر التي تدهسها بلا رحمة، فتسلب ميراثها وابتسامتها وسلامها.

وعلى رغم هذا المناخ السائد من الاستسلام، تتمرد البطلة لتنال حقها في التعليم، وتفر من مجتمع يمتهنها جسداً وروحاً إلى العاصمة، لكن روحاً مشوهة تعرضت للعنف والاغتصاب ممن كان عليه حمايتها، كان بديهياً أن تقع في براثن المرض النفسي، وهو الطريق الذي مهده الكاتب للعبور إلى الحكاية الثانية، إذ تتعرض البطلة للإصابة بازدواجية الشخصية، فتتقمص شخصية الكاتبة مي زيادة وتتلبسها كلية وتستعيد ماضيها وتوثق أحداثه في رواية تكتبها، وتكشف عما تعرضت له "زيادة" من ظلم وقهر لتبدأ فصول الحكاية الثانية.

طيف من الفانتازيا

 في طريقه للعبور من الحكاية الأولى إلى الثانية استدعى الكاتب طيفاً من الفانتازيا، فمثلما مرر تفسيراً علمياً لتقمص مريم شخصية مي زيادة، كنتيجة لما ألم بها من مرض نفسي، مرر بالمقابل رؤية أخرى عبر البطلة نفسها، التي تدرك أنها ليست سوى روح مي زيادة في جسد جديد. ثم ترك للقارئ حرية التعاطي مع النص ومع الشخصية بكونها مريضة، أو أنها حالة من حالات تناسخ الأرواح.

احتلت الحكاية الثانية المساحة الأكبر من النسيج، ومزج الكاتب عبرها بين السرد الروائي والسيرة الغيرية، إذ عمد إلى جمع الأحداث والوقائع التاريخية الثابتة في حياة الكاتبة مي زيادة، وأعاد إنتاجها روائياً مازجاً بين الحقيقة والتخييل عبر سرد ما بعد حداثي، يعتمد على تعدد الرواة. ومع تدفق الأحداث تجلت التقاطعات بين بطلتي الحكايتين، اللتين وإن فصل بينهما قرن من الزمان، فهما تشاركتا معاناة الفقد ومرارة الحزن، وظلم مجتمع ذكوري يستميت في سلب النساء حقوقهن، وتشاركتا أيضاً تمرداً وثورة في وجه الظلم، وإصراراً على الانتصار للذات، هكذا بدا قهر المرأة قضية محورية هيمنت على النص، وإن كان الكاتب أراد بإحيائه قصة مي زيادة كواحدة من النساء اللاتي تجرعن كأساً من القهر، أن ينصف هذه الكاتبة، التي لقبت بنابغة الشرق والدرة اليتيمة، التي كانت أحد الوجوه المضيئة في تاريخ نضال المرأة ضد التهميش والتشييء، متناولاً سيرتها بدءاً من ميلادها ونشأتها حتى نبوغها الأدبي  وذيوع صيتها وشهرة صالونها الثقافي، الذي كان قبلة لكبار الكتاب، ومنهم العقاد وطه حسين وأحمد لطفي السيد وغيرهم، وانتهاء بتآمر عائلتها بعد وفاة والديها والحجر عليها وزجها في "العصفورية" (مستشفى الأمراض العقلية في لبنان)، للاستحواذ على أموالها، ثم نضالها من أجل العدالة والحصول على حريتها.   

النمطية والتحول

استطاع الكاتب عبر شخصية مي زيادة أن يجسد الوجه القبيح للمجتمع الشرقي، والظلم الصارخ الذي تتعرض له المرأة، حتى وإن كانت ذات نبوغ فكري، وأبرز إشكالية أزلية في علاقة الرجل بالمرأة وذلك التناقض الذي يدفع الرجل للهيام بامرأة ذات فكر وثقافة، لكنه في الوقت نفسه يخشى اتخاذها زوجة، فيتركها وحيدة تصارع وحشة الروح وتقمع رغبات الجسد، كذلك استطاع تمرير حمولات معرفية عبر استدعائه وقائع حقيقية سواء تلك التي تتصل بالشخصية المحورية، أو بالفترة الزمنية التي عاشت خلالها، ووثق النهضة الثقافية التي شهدتها مصر في أوائل القرن العشرين، التي جعلت منها باريس الشرق.

وعلى رغم أن المساحة الأكبر من السرد كانت بصوت الشخصية المحورية "مي زيادة"، ومنح الكاتب لغيرها من الشخوص صوت السرد أيضاً، مثل طه حسين، وأحمد لطفي السيد، وجبران خليل جبران، ومنصور فهمي، وأمين الرفاعي وغيرهم، لينقل صورة مي في عيونهم. ويمنح هذه الصورة الصدقية، التي تسهم في إبراز حجم الكاتبة وأهميتها، وأيضاً ليبرز حجم ما أصاب أولئك الأعلام من تحول دفعهم بعد الالتفاف حولها إلى الانفضاض عنها، وتجاهل ما ألم بها وعدم السعي لإنقاذها من شرك نصبه أقاربها، ولم يكن التحول من نصيب أصدقاء مي وحسب، وإنما كانت مي نفسها شخصية متحولة على مستوى الظاهر والداخل، وكان هذا التحول نتاج محنة سجنها في "العصفورية"، التي أفقدتها جمالها ووزنها، وجعلتها بعد الرقة الشديدة أكثر صلابة من أجل استعادة أموالها وحريتها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما الخال فقد نال نصيبه أيضاً من التحول، إذ تبدل الرجل الحنون الذي منح ابنة أخته الصغيرة حنانه وعطفه إلى رجل حاقد، لا يهمه سوى الاستحواذ على الميراث وإن لم يكن حقاً له، وإلى جانب هذا الكم من الشخوص المتحولة ظهرت شخوص أخرى في رداء نمطي، مثل شخصية سلطانة فاعور "الفتاة الحاقدة"، التي استمرت في الكيد لمي في كل مراحل حياتها، كذلك كان جوزيف ابن العم أنموذجاً نمطياً للشخصية المستهترة والحبيب الخائن، الذي تخلى عن مي المراهقة، ولم يفِ بوعوده في الزواج منها، ثم عاد بعد سنوات طويلة ليتلاعب بها مرة أخرى ويسمها بالجنون من أجل الاستيلاء على أموالها.

وجوه من الصراع

هيمن الصراع على مفاصل السرد وبدا على مستويات عدة، منها المستوى الداخلي لشخصيتي مريم ومي زيادة، إذ انقسمتا كلتاهما بين الصمت والاستسلام لما يمارس تجاههما من ظلم وقهر، وبين التمرد والثورة على هذا الظلم، كذلك تجلى الصراع الخارجي بين أقارب مي زيادة، الذين ركزوا سعيهم للسيطرة على أموالها، وبين مي وأصدقائها في محاولتهم إفشال مخطط الأقارب وإثبات أهليتها واستعادة حريتها وأموالها وقد تصاعدت حدة الصراع مع النمو الدرامي للأحداث، لا سيما مع دخول مي معركتها المريرة من أجل إلغاء وصاية جوزيف عليها في لبنان، ووصاية المجلس الحسبي في مصر، وقد جسد هذا الصراع الثنائية التقليدية للخير والشر، وأبرز بعض المفارقات التي تدعو للسخرية، لا سيما في ما يتصل بهوية المتآمر وهوية المنقذ!

تفريعات حكائية

سلك الكاتب بعض التفريعات الحكائية عبر استدعاء شخوص ثانوية لخدمة قضيته الأساسية، التي تتصل بقهر المرأة في مختلف الحقب والعصور، كما رصد عبر هذه الشخوص قضية أخرى تتصل بالدموية وممارسة العنف تجاه كل ما هو مختلف، واعتبار أن مجرد الاختلاف جريمة تستوجب القتل!

فكانت الفتاتان "مايا" و"ميراي" نزيلتا العصفورية، وسيلة الكاتب لاستدعاء العنف الذي مارسته الدولة العثمانية ومذابحها ضد الأرمن في عام 1915، الذي كان أيضاً عام السيف للكلدانيين بعد أن أمر "حلمي باشا" بقتل كل رجالهم، وعبر ما طرقه الكاتب من قضايا توغل داخل النفس الإنسانية ورصد أعطابها وأمراضها، ومنها الخوف من الاختلاف والازدواجية والانقسام ورهاب ما بعد الصدمة، وكذلك لوم الضحية، كما لجأ إلى تقنية الحلم ليذهب بعيداً داخل هذه النفس، ويستجلي مزيداً من أسرارها، فكان حلم مي بأقاربها يغرسون مخالبهم في صدرها دالاً على هول قسوتهم وخذلانهم لها، وقدر شعورها بالمرارة والقهر.

 أما أمين الرفاعي، فكان حلمه صدى لشعوره العميق بالذنب، ولوم الذات، وكان أيضاً دافعاً لتغيير الواقع، وتحريك الأحداث في اتجاه تحقيق الخلاص لمي من الشرك الذي نصبه لها أقاربها.

 ولتعزيز جمالية النص وواقعيته، استخدم الكاتب اللهجة العامية الشامية في بعض المواضع الحوارية، مما أنعش نسيجه في الوقت نفسه وأكسبه مزيداً من الحيوية، ولجأ إلى التناص المباشر وغير المباشر مع الموروث الديني، لا سيما الكتاب المقدس، ومزج السرد بأجناس أدبية مختلفة، فاستدعى شعر الشافعي وشعر أحمد شوقي، كذلك سمحت له الحقبة الزمنية التي تدور فيها الأحداث، وطبيعة الشخصية المحورية، باستخدام الرسائل في صورتها التقليدية، التي اتسعت معها مساحة البوح، وما تضيفه من صدقية، لا سيما وأن تلك الرسائل لا تزال ضلعاً أصيلاً من التراث الأدبي لمي زيادة، وغيرها من الأدباء الذين عاصروا تلك الحقبة.

 وعمد حسن إلى التماثل والتناظر بين مي زيادة في القرن العشرين ومريم في القرن الحادي والعشرين، وأيضاً بين شخصية سلطانة فاعور التي حرضت على مي، وسالومي التي حرضت على قتل يوحنا المعمدان، ليثبت تشابه دورات الزمن وتكرار اقتراف الخطايا نفسها، وذلك التاريخ الطويل والممتد من قهر المرأة ليس بيد الرجل وحده، ولكن أيضاً بيد امرأة مثلها، لكنه مثلما استدعى ما تعرضت له بطلتاه من ظلم وهوان، مرر الأمل في دحض الظلم وقوة المرأة وقدرتها على حماية حقوقها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة