Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

القوميات الإثيوبية: "جنة" فيدرالية أم "جحيم" يؤججه التنافس؟

التوازن بين الحق القومي والواجب الوطني أهم التحديات أمام نظام الحكم وسط ارتفاع أصوات حركات متمردة تنادي بالانفصال

يقول محللون إن اعتماد النظام الفيدرالي بعد سقوط النظام الماركسي لمنغستو هيلاماريام هو الذي أبقى على إثيوبيا موحدة (أ ف ب)

تحظى إثيوبيا بتنوع قومي يعطيها تميزاً في حياة شعوبها، فهي دولة تجمع 80 قومية متعددة الطبائع ومختلفة العادات، وفي بيئات هي الأخرى متباينة الأصول والثقافات، فهل يمثل التنوع مكسباً في إثراء إثيوبيا؟ وما هي أبعاد ذلك على جملة الحياة في تطورها واستقرارها الأمني والسياسي ومستقبلها الحضاري؟

لا تملك إثيوبيا سوى إقرار فيدرالية النظام لتجمع تحت مظلتها القوميات المتعددة ضمن هوية واحدة، وليس أمامها سوى الاعتماد على التنوع كأداة تقوية للدولة، لكن هذا التوجه يصطدم في أحيان كثيرة بمعضلة التنافس الإثني بخاصة بين القوميات الثلاثة الكبرى ذات التاريخ السياسي، وهي الأمهرا والتيغراي والأرومو.

التوجه الفيدرالي

بدا النظام الفيدرالي في صورته الحالية التي تعيش فيها القوميات الإثيوبية بذاتية مستقلة داخل الدولة من خلال أربع مراحل رئيسة، ويقول المؤرخ الإثيوبي ساهيد أديجوموبي عن أهم مرحلة تنظيمية للدولة الإثيوبية الحديثة، وهي مرحلة العهد الإمبراطوري السابق "كانت السنوات ما بين 1930 و1935 فترة مهمة في توطيد السلطة السياسية والإصلاحات، باشر فيها الإمبراطور هيلا سلاسي منذ اعتلائه العرش برنامجاً للإصلاح السياسي، ففي الـ 16 من يوليو (تموز) 1931 بدأ العمل بأول دستور مكتوب لإثيوبيا وصفه البعض بدستور الشعب، وأسهم بتحقيق رغبة الإمبراطور في كسر سطوة السادة الإقطاعيين من خلال تقوية سلطة الحكومة أو البيروقراطية المركزية".

وخلال العهد الاشتراكي للرئيس منغستو هيلاماريام كانت الأقاليم في إثيوبيا مقسمة إلى 14 إقليماً إدارياً، واتبع النظام الاشتراكي نهج الماركسية في سطوة الدولة وهيمنتها المطلقة على مجمل حياة الأفراد، كنظام مسيطر على أوجه الأنشطة من سياسية واقتصاد إلى جانب سلطته المطلقة على جميع الأقاليم.

وأنشأ هيلاماريام مجلساً استشارياً مدنياً من 50 عضواً لأخذ الرأي في المسائل السياسية والقومية، وشدد على ما يدعيه من المساواة ووحدة الأمة، وأفقد الكنيسة الأرثوذكسية ملكيتها للأراضي ومكانتها التي ظلت تحتفظ بها على مدى 1500 عام، وإيغالاً في التناقض ظل النظام الاشتراكي ملتزماً بالتعريف الديني للكنيسة الأرثوذكسية المسيحية على رغم ما يخالفه من نهج الاشتراكية التي تنادي بالمساواة بين الجماعات العرقية في جميع الحقوق.

وعلى عهد رئيس الوزراء الأسبق ميليس زيناوي والذي أطاحت حركته الجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية (EPRDF) بنظام الجنرال منغستو هيلاماريام عام 1991، عمل على إحداث تغيير سياسي يرد اعتبارية القوميات كتكوينات شعوبية معترف بها وبحقوقها، وأعطاها النظام امتيازات سياسية متسعة ظلت محرومة منها لفترات طويلة.

وكفل الدستور الإثيوبي الذي بدأ وضعه نظام الجبهة الديمقراطية الثورية منذ عام 1992، ودخل حيز التنفيذ في أغسطس (آب) 1995، باعتراف الدولة بالحق الشرعي للقوميات الإثيوبية في حكم أقاليمها واختيار حكامها وتكوين قواها الإقليمية على المستوى الداخلي في حفظ الأمن ضمن الحكم الذاتي لكل قومية داخل حدودها إلى جانب الاستقلال الثقافي في التعليم والإدارة، وأعطيت هذه القوميات العرقية التمثيل الخاص لها في المركز على المستوى الفيدرالي نسبة لحجم السكان ضمن التوصيف السياسي لإثيوبيا الفيدرالية كدولة تقوم على أسس عرقية.

وأعطي النهج الفيدرالي أبعاداً إيجابية في الإدارة والتنافس بين القوميات في شتى الجوانب، لكن في الوقت ذاته ترتبت عليه أبعاد سلبية نتيجة خلافات سياسية متباينة وتنافسات عرقية، انحرف بعضها بفعل ظروف عدة نحو فعل سياسي تقوده بعض الحركات ذات الطابع المسلح، ويعطي نموذج التمرد الذي قادته قومية تيغراي بعداً مزدوجاً ما بين إثبات الذات والدوافع السياسية.

وتمثل سياسة رئيس الوزراء الحالي آبي أحمد مرحلة رابعة في التوصيف السياسي لإثيوبيا الفيدرالية، إذ تحرص الدولة في جملة توجهاتها على إبقاء الهوية الإثيوبية كسمة جامعة لكل قومياتها بمختلف تقسيماتها العرقية.

القوميات الإثيوبية

إثيوبيا دولة غير ساحلية ضمن دول القرن الأفريقي، وتبلغ مساحتها مليون كيلومتر مربع، وهي ثاني أكبر دولة في أفريقيا من حيث عدد السكان بـ 117 مليون نسمة، بعد نيجيريا (211.4 مليون) وفق إحصاء عام 2021.

اسم إثيوبيا إغريقي اللفظ ويعني الوجه البني اللون، واستخدمه المؤرخ اليوناني هيرودوتس لوصف الأراضي الواقعة في جنوب مصر، وتعد موطن الكنيسة الأرثوذكسية إحدى أقدم الكنائس المسيحية في العالم، كما أنها حكمت توارثياً في ظل نظام ملكي يعد من أقدم الأنظمة الملكية في القارة السمراء.

وعرفت في الكتب والمخطوطات القديمة باسم الحبشة، أما اسم إثيوبيا فيشار باستخدامه رسمياً إلى الإمبراطور الإثيوبي منليك الثاني (1889- 1913).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

واسم الحبشة ترجعه المصادر إلى "حبشت" ويعني الأجناس المختلطة، إشارة إلى التصاهر ما بين الساميين الوافدين من جنوب الجزيرة العربية في غرب آسيا والحاميين الكوشيين من السكان الأصليين للبلاد.

وتجمع إثيوبيا أربع قوميات رئيسة، الأرومو وتمثل 34 في المئة، والأمهرا وتمثل 27 في المئة، والقومية الصومالية وتمثل 6.2 في المئة، والتيغراي وتمثل 6.1 في المئة.

وتشكل هذه المجموعات البنية السكانية الأساس إلى جانب قوميات أخرى أقل عدداً مثل "سيداما" و"ولايتا" و"قومية عفار" و"الهدية" و"بني شنقول قمز" و"جامبلا" و"غوراغي" وغيرها.

الخصائص

من العوامل المهمة في صياغة إنسان الحبشة تأثره بالديانات السماوية ضمن النظام الملكي الذي ساد لفترات طويلة، وتوارثته القوميات الكبيرة ولا يزال حتى الآن للديانة المسيحية الأرثوذكسية نفوذها على رغم علمانية الدولة، سواء في سلطان الكنيسة والثقافة العامة أو تطلعات التشكيلات السياسية ذات الخلفيات الحضارية الدينية.

كما يجيئ تأثير اللغات الإثيوبية كعامل مهم في تميز القبائل بثقافاتها وتراثها، إذ توجد نحو 100 لغة ضمن ثلاث مجموعات لغوية رئيسة هي "السامية" و"الكوشية" و"الأورمية"، وجميعها كما تشير الدلالات من الأصول الأفروآسيوية، إلى جانب مجموعة رابعة تنتمي إلى مجموعة النيلية اللغوية، وتتدرج اللغات في توزيعها إلى الأمهرية اللغة الرسمية الأولى بـ 29.3 في المئة والأورمية بـ 33.8 في المئة والتغرينية بـ 5.9 في المئة والصومالية بـ 6.2 في المئة)، والعفرية بـ 1.7 في المئة، ويضاف إلى هذه اللغات العربية التي يتحدثها بعضهم إلى جانب لهجات أخرى عدة لبعض القبائل.

وقسمت حكومة ميليس زيناوي إثيوبيا إلى تسع مناطق إقليمية ضمن النهج الفيدرالي بحسب القوميات وهي "عفار" و"أمهرة" و"بني شنقول- قمز" و"جامبلا" و"هررجي" و"أوروميا" و"أوغادينو الأمم الجنوبية" و"تيغراي"، إضافة إلى العاصمة أديس أبابا ومدينة دريدوة كمناطق فيدرالية إدارية قائمة بذاتها.

وعلى عهد رئيس الوزراء الحالي آبي أحمد، أضيف إقليما السيداما وشعب جنوب غربي إثيوبيا، ليرتفع عدد الأقاليم الإثيوبية إلى 11 إقليماً، تتمتع بجميع الحقوق الفيدرالية في الإدارة الذاتية، إضافة إلى حقوق "جباية بعض الضرائب واختيار اللغة الرسمية للإقليم وإدارة قوات أمن خاصة، فضلاً عن سن قوانين في شأن قضايا مثل التعليم وإدارة الأراضي.

التجاذب وقدسية الوطن

وعلى رغم أن الدولة تظل حريصة على نهجها الفيدرالي وفق الدستور الذي تتيح فيه المادة (39) على اختيار الانفصال وفق شروط معينة، يظل التجاذب ما بين الحقوق القبلية وقدسية الوطن الواحد في وحدة إثيوبيا، ويأتي من أهم ضرورات المرحلة الحالية قضية "التوازن ما بين الحق القومي والحق الوطني" في دولة لا تزال تعاني أصوات حركات متمردة تنادي بالانفصال مثل حركة "جبهة تحرير أرومو"، وهو ما يتناقض والتوجهات القومية التي جعلت من اختيار النظام الفيدرالي كحل منسجم مع حاجات الشعوب الإثيوبية في سيادة نفسها ضمن الدولة الإثيوبية الواحدة.

كما تمثل التحديات إقليمية بعداً أمنياً يتطلب هو الآخر تعاملاً سياسياً حكيماً يحفظ المصالح بمختلف أشكالها، والسياسة الحالية التي يتبناها حزب الرخاء الحاكم تحرص فيها الدولة على الوحدة الجامعة للوطن الإثيوبي، وتجلى في شعار السلام الذي أطلقه آبي أحمد في السابع من يناير (كانون الثاني) 2022 كهدف للمصالحة وتحقيق التسامح الوطني.

وكان لافتاً تعليق رئيس الوزراء عند تبنيه اتفاق السلام مع الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي (TPLF) والتي مثلت التحدي السياسي الأكبر للنظام، حينما ربط خيار السلام بتغليبه لسيادة إثيوبيا ووحدتها في قوله إن "الجانبين اتفقا بشكل أساس على أن سيادة إثيوبيا وسلامتها الإقليمية غير قابلة للتفاوض، كما اتفق الجانبان على أن البلاد تحتاج فقط إلى قوة دفاع وطني واحدة، وهذا انتصار كبير لإثيوبيا"، وهو ما مثل دافعاً أساسياً لتغليب خيار السلام.

التنوع ثراء

المحلل السياسي الإثيوبي بشير إسحاق يعتبر التعددية في إثيوبيا "ثراء ومشروعاً لدولة كبرى وقوية لشعب متعدد، فإثيوبيا إمبراطورية تأسست على أثمان باهظة دفعتها شعوبها، إلا أن هذه الإمبراطورية الدولة والأمة يبدو أنها ستتجاوز كل الامتحانات الصعبة وتبقى".

ويضيف، "تجاوزت إثيوبيا في تاريخها محطات عصيبة بعد وفاة مؤسسها منيلك، ومرة ثانية أثناء الاحتلال الإيطالي في أربعينيات القرن الماضي، ثم واجهت تحدياً آخر إبان النظام الاشتراكي (الدرق)، وآخر تحد كان الذي مثله متمردو تيغراي أخيراً".

وعن مستقبل النظام الفيدرالي تابع إسحاق، "أدرك الشعب الإثيوبي جميعه بأن اعتماد النظام الفيدرالي بعد سقوط النظام الماركسي لمنغستو هيلاماريام (نظام الدرق) هو الذي أبقى على إثيوبيا موحدة، وأن نظام الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي لم يكن يستطيع حكم إثيوبيا وتوحيدها لولا اعتماده على النظام الفيدرالي، كما أن الشعب الإثيوبي كسب من خلال ممارسته للفيدرالية خلال الـ 27 عاماً الماضية نوعاً من الوعي بالذات والهوية الإقليمية الصغرى، ووجد لثقافته موقعاً كبر أم صغر في الصورة الإثيوبية الجامعة، ولكل هذه المكاسب وغيرها لا أعتقد أو على الأقل لم أسمع من يرفض الفيدرالية".

ويقول الباحث في الشؤون الدولية عادل عبدالعزيز إن "التنوع القومي في إثيوبيا قد يكون نعمة أو نقمة، فإذا أحسن إدارة هذا التنوع وجعل منه تنافساً طبيعياً يكون نعمة تتطور على إثره الأقاليم والولايات، وقد يكون نقمة إذا حدث عكس ذلك".

ويضيف، "السياسة هي فن الممكن، والممكن يحتاج إلى الوعي العام والاستنارة الجماعية وتقديم القيادات الوطنية الشبابية التي يكون همها الوطن وليس المصالح الشخصية، فالإخلاص للهم العام يقود إلى التطور والازدهار وهذا هو ما تريده الشعوب".

ويقول رئيس المعهد الإثيوبي للدبلوماسية الشعبية ياسين أحمد إنه "منذ إقرار الدستور الإثيوبي لنظام الفيدرالية الإثنية على عهد النظام السابق عام 1995 بقيادة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي التي تعتبر عراب الفيدرالية الإثنية، بدأت مسيره إثيوبيا على النهج الفيدرالي، لكن النظام السابق أخفق في تطبيقه بتقاسم السلطة والثروة بين الحكومة المركزية وحكومات الأقاليم".

ويضيف، "النظام الفيدرالي الإثني له محاسن ومساوئ، فهو أرسى نظام الحكم اللامركزي ومنح هامشاً للسلطات والحريات للأقاليم، لكن في الوقت نفسه فإن من أهم التحديات التي تواجهه ألا يكون الانتماء الإثني على حساب الهوية الوطنية، وهذا ما تعمل إثيوبيا الآن على مواجهته وتطبيقه في سبيل وطن واحد متحد الهوية ومتعدد القوميات تحت نظام الفيدرالية الديمقراطية العلمية العادلة".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير