Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"شبح الأوبرا" عبرت بنجاح من الأدب الفرنسي إلى المسرح الأنغلوفوني

مغناة تعيد إلى باريس اعتبارها ويزهو بها الفرنسيون بدل الركون إلى حسد مقيت

مشهد من مغناة "شبح الأوبرا" (أ.ب)

طالما أن موضوعنا هنا يتعلق بثالث أنجح عمل في تاريخ المسرح الغنائي قدمته برودواي في تاريخها، وثاني أنجح عمل من هذا النوع على مستوى العالم، لا بد بالطبع من أن نبدأ بحديث الأرقام. وتقول لنا الأرقام إن مغناة "شبح الأوبرا" التي قدمت للمرة الأولى في لندن في عام 1986، لتقدم في برودواي منذ عام 1988 وتنتقل بعدها إلى عشرات المدن في العالم، كان نصيبها حتى الأعوام الأخيرة أكثر من 13 ألف عرض بوتيرة متواصلة في برودواي وحدها، محققة بذلك ما يربو على مليار وربع المليار من الدولارات، من أصل ما يزيد على ستة مليارات كان مجموع مداخيلها حتى سنتين سابقتين، وشوهدت من قبل 140 مليون متفرج في 183 مدينة منتشرة في 41 بلداً. وإلى ذلك تعتبر مغناة "شبح الأوبرا" واحدة من ثلاثة عروض، تنتمي إلى النوع المسرحي نفسه، هي الأطول عمراً إلى جانب "البؤساء" عن فيكتور هوغو و"مصيدة الفئران" مسرحية آغاثا كريستي التي تدرج هنا حتى وإن لم تكن موسيقية.

بدلاً من الحسد

المهم أن "شبح الأوبرا" تشارك "البؤساء" كونها مقتبسة من عمل روائي، كما تقاسمها كونها فرنسية في الأصل ما يشعر الفرنسيين بالفخر الدائم. وهو فخر يتضافر مع الازدياد خلال العروض الأخيرة من السنين، في الإنتاج الفرنسي لهذا النوع، ناهيك بأن الفرنسيين كانوا دائماً ما يشكون تفاقم الثرثرة و"البرجزة" في مسارحهم ويحسدون الأنغلوفون، والأميركيون من بينهم خاصة، على توغلهم في الابتكارات الفنية والتكنولوجية فيما هم متوقفون عند الحبكات الموروثة من مسرح البوليفار الفرنسي ما كان سائداً عند أواخر القرن التاسع عشر. ومن هنا نفهم استقبالهم المرحب دائماً بمبدعين أميركيين ولكن كذلك بمبدعين إنجليز يقتبسون من أدبهم القومي (ليرو أو هوغو أو غيرهما) نصوصاً سرعان ما تصبح ملكاً موسيقياً للإنسانية جمعاء، نصوصاً تبدو على الفور متميزة ومختلفة عن النصوص الأميركية أو الإنجليزية في هذا المجال. من دون أن ننسى في السياق هنا أن "شبح الأوبرا" أضافت إلى زهو الفرنسيين أضعافاً حين فازت عام تقديمها اللندني الأول بجائزة "لورنس أوليفييه لأفضل عمل موسيقي".

عمل باريسي

مهما يكن من أمر، لا بد من الإشارة هنا إلى أن "شبح الأوبرا" تبدو منذ البداية عملاً باريسياً خالصاً. بل حتى موسيقاها لُحنت لتظهر وكأنها كذلك إذ قلل ملحنها أندرو لويد فيبر من مؤثرات موسيقى الجاز والموسيقى المعاصرة في موسقته للأغاني، مكتفياً في معظم الألحان بموسيقى كلاسيكية معاصرة، كما بموسيقى انطباعية تنتمي إلى موسيقى نهايات القرن التاسع عشر. وكان ذلك طبيعياً على أية حال، وذلك لأسباب بديهية. فالقصة الأصلية تعود كتابتها إلى عام 1910، ثم أنها تدور أحداثاً بين خشبة ودهاليز دار الأوبرا الوطنية الباريسية الشهيرة، وتتقاطع تلك الأحداث (التي يدور معظمها في سراديب تقع تحت المبنى وأحياناً بين سقوفه)، مع تقديم لمشاهد أوبرالية على خشبة تلك القاعة الشهيرة. ولكن لتقول ماذا؟ ببساطة لتقول حكاية غرام مستحيل، متضافرة مع حكاية تتعلق بغموض الإبداع إلى جانب حكايات الفشل والنجاح، ولكن دائماً في قالب من الغموض المرعب، والذي زادته الموسقة "التعبيرية" للعمل رهبة ورعباً.

أبعد من الأحلام

والحقيقة أن غاستون ليرو، حين كتب روايته التي أسست للأدب البوليسي الفرنسي، لم يكن ليحلم ولو لدقيقة بأن تلك الرواية سوف تقدم يوماً مغناة أو مموسقة. لكن الإنجليز - الذين لم يكف عن كرههم يوماً إذ تفوقوا عليه حتى حين قلدوه كاتبين رواياتهم البوليسية، في بداية الأمر تبعاً للقوانين التي ابتكرها بنفسه للنوع -، غزوه في عقر داره ولا سيما في "شبح الأوبرا" روايته الأثيرة. وتتحدث "شبح الأوبرا" عن مغنية سوبرانو عارمة الموهبة ورائعة الحسن هي كريستين دايي، التي يقع في هواها موسيقي غامض يعيش متخفياً خلف قناع في دهاليز دار الأوبرا منصرفاً إلى تلحين أغان وأعمال أوبرالية يستوحيها من كريستين التي باتت هوسه وشغفه في الآن عينه. ولما كانت أجواء الحكاية كلها تدور في دار الأوبرا وشخصياتها فنانون تحديداً في مجالات الغناء والموسيقى، قد يبدو من السهولة بمكان تحويلها إلى مغناة أوبرالية. بيد أن الواقع التاريخي يقول لنا إن العكس هو الصحيح كما تقول لنا حكاية إقدام صانعي هذه المغناة في عام 1984 على اقتباسها.

معجزة منقذة

ففي عام 1984 حين قرر أندرو لويد فيبر وشريكه في نتاجاته الموسيقية تشارلز هارت، تحويل الرواية إلى مغناة، آثرا أن يشتغلا بداية انطلاقاً من فيلمين كانا حققا عند بدايات الربع الثاني من القرن العشرين، مأخوذين عن الرواية نفسها، فوجدا بعد شهور من الأشغال التمهيدية والمقارنات، أن ثمة استحالة في التوصل إلى إنجاز العمل. لكن السبب ظل غامضاً "حتى اليوم الذي، كما يروي لويد، عثرت على ما يشبه مسودة سابقة لقصة ليرو سيتبين لي من الفور أنها لم تطبع بعدما صدرت للمرة الأولى، إذ إن الكاتب نحاها جانباً ليكتبها من جديد على الشكل الذي نعرفها به منذ ذلك الحين". وهنا يستطرد فيبر حكايته قائلاً: "قبل ذلك كنت ومنذ بداية مساري كروائي، أحاول دائماً أن أكتب رواية رومانطيقية، لكنني دائماً ما كنت أنصرف عن ذلك المشروع متهيباً بالنظر إلى أن الظرف لم يكن رومانطيقياً على الإطلاق. ولكني أمام الاكتشاف المباغت لمسودة "شبح الأوبرا" خيل إلي أن معجزة ما قد حدثت. فذلك النص بدا لي رومانطيقياً إلى أبعد حد، في الوقت نفسه الذي بدا لي بوليسياً. وهكذا وجدتني منكباً على العمل غير ملتفت إلى صعوباته، وبل وغير منتبه حتى إلى إمكاناته الإبداعية الفسيحة. كل ما في الأمر أنني كنت أريد إنجاز "روايتي" الرومانطيقية ولو بتلك الطريقة المبتكرة... ففعلتها وولدت بالتالي تلك المغناة التي أعتبر ألحاني فيها من أجمل ما كتبت". وتشهد على ذلك المقدرة التي بيّنها الملحن في تقسيم موسيقاه إلى نوعين أحدهما أوبرالي خالص والثاني ينهل من تاريخ المسرحيات المغناة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بين الرومانطيقية والرعب

فالعمل إذ ينقسم بدوره قسمين أساسيين أولهما المغناة نفسها التي تحكي حكاية الموسيقي العبقري المتخفي، والثاني حكاية الأوبرات التي ينتجها "الشبح" وهو حبيس ملجئه في السراديب والدهاليز، بدا قادراً على أن يتيح للموسيقي أن ينهل من الموسيقى المعاصرة في القسم الأول ولكن من كلاسيكيات موتسارت ومييربير في القسم الثاني ما خلق هنا ذلك التزاوج الخلاق بين الرومانطيقية وأحاسيس الرعب. وهو تزاوج وصل إلى ذروته من خلال التقديم، ضمن إطار فكرة المسرح داخل المسرح، لمسرحية كتبها "الشبح" مستلهماً بدوره محبوبته كريستين، عنوانها "دون جوان منتصراً". ولسوف يرى النقاد لاحقاً أن مقاطع هذه الأوبرا التي تستلهم موتسارت، تبدو أجمل ما في المغناة، وعلى رغم بعدها الحداثي المدهش. وقد لا يكون من نافل القول الإشارة إلى أن هذا الجزء من "شبح الأوبرا"، ولو حتى على الصعيد الموسيقي، كان أبرز ما لفت أنظار المتفرجين عبر ألحانه التي عاشت طويلاً ولا تزال. وهو على أية حال الجزء من المغناة الذي كان لا بد من ذكره والتلميح إلى تفوقه وشعبيته، بل حتى ما أدى إليه منذ انتشار سمعة "شبح الأوبرا" في العالم، من ما يشبه إعادة الإحياء لأوبرا "دون جوان" لموتسارت نفسه.

عمل فريد

ففي نهاية الأمر تضع "شبح الأوبرا" متفرجيها ومستمعيها أمام عمل إبداعي جامع للأنواع، بوليسي لكنه يتسم برومانطيقية عذبة، بوليسي لكن التعاطف فيه يسير في اتجاه "الشرير" نفسه والذي حتى وإن كان هو من يبدو منذ البداية حامل الرعب الأكثر قسوة، سيتحول بالتدريج إلى ذلك المبدع الذي يمتزج لديه الإبداع بالرغبة في الثأر الغامض بدوره. في اختصار يبدو هذا العمل فريداً من نوعه بصورة نادرة.

المزيد من ثقافة