Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"التيغراي"... ناضلوا بالشيوعية وحكموا بالليبرالية ولم يحسموا الانفصال

جبهة التحرير تأسست على النزعة العرقية إلا أن تجربتها في السلطة طيلة 27 عاماً برهنت على ممارستها اضطهاداً مضاداً

جبهة تحرير تيغراي شكلت جيشاً بمعزل عن إثيوبيا مما أسهم في اندلاع الحرب بينها والحكومة المركزية في نوفمبر 2020 (مواقع التواصل)

على مدى عامين تصدر إقليم تيغراي الإثيوبي بؤرة الاهتمام الدولي بسبب الاشتباكات التي كانت تشتعل بين جبهة التحرير وجيش الحكومة المركزية قبل إقرار اتفاق السلام بينهما في الرابع من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي في بريتوريا عاصمة جنوب أفريقيا، فما تاريخ إنشاء تلك الجبهة وهل تسعى بالفعل إلى الانفصال عن إثيوبيا؟

البداية كانت بحركة التمرد المسلح الأولى للتيغراي في أربعينيات القرن الماضي، لكن تم القضاء عليها عسكرياً من قبل نظام الإمبراطور هيلا سيلاسي بالتحالف مع سلاح الجو البريطاني، مما أسهم في تشكل إدراك جديد وأضحت بعض النخب التيغراوية تتطلع إلى "حركات التحرر" بمزيد من الانبهار، لا سيما بعد تأسيس "جبهة التحرير الإريترية" التي أعلنت الكفاح المسلح في بداية الستينيات ولاقت دعماً عربياً كبيراً، مما دفع التيغراويين إلى التفكير في استنساخ التجربة.

حركة طلابية لإرساء عمل مسلح

‎يقرأ الباحث الإثيوبي تيفري نجاش تلك الفترة التاريخية على أنها "النواة الأولى لتأسيس فكر النخب التيغراوية الحديثة" ويشير إلى أنها بدأت بالانضمام إلى اتحاد طلاب الجامعات وتأسيس "اتحاد طلاب تيغراي" ومن هذه الجمعية، تأسست منظمة يسارية باسم المنظمة الوطنية للتيغراويين عام 1974 من قبل الطلاب التقدميين، وأصبحت نقطة انطلاق للجبهة الشعبية لتحرير تيغراي التي نشأت كتنظيم سياسي وعسكري في 26 فبراير 1975. وكانت تلك الجمعية فسرت الصراع القائم في الدولة الإثيوبية على أنه صراع عرقي، بالتالي قامت أيديولوجيتها على هذا المنحى باعتبار "العرقية القومية هي التوجه الأيديولوجي الأساسي" وهو ما سينعكس لاحقاً في فكر الجبهة.

وعززت هذه الحركة الطلابية الثورة التي أطاحت في نهاية المطاف حكومة هيلا سيلاسي عام 1974. 

ويشير الباحث الإثيوبي ميساي كيبيدي في بحث موسع حول تلك الحقبة التاريخية إلى أن الماركسية اللينينية "لم يكن لها مثل هذا التأثير لولا إثارة وإضفاء الشرعية على الطموح السياسي للدوائر المتعلمة في البلاد، وكان الطلاب في فروع البحث والدراسات المختلفة التي أنشأوها يقرأون على نطاق واسع الأدب اليساري الذي تضمن أعمال ماركس وإنجلز ولينين وماو وفانون".

ويضيف "قدمت مجموعات الدراسة هذه أساس المنظمات اليسارية التي أنشأت بدورها أحزاباً سياسية مثل الحزب الثوري الشعبي الإثيوبي (EPRP) والحركة الاشتراكية لعموم إثيوبيا (MEISON). وكان هذا السياق التاريخي هو الذي أنتج تنظيم الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي". 

بدوره يقرأ أرقاوي برهي أحد القادة المؤسسين للجبهة الشعبية لتحرير تيغراي مناقشة تفصيلية حول كيفية استلهام الجبهة منذ البداية من نظرية ستالين حول المسألة القومية، فتم تطبيق تعريف ستالين للأمة على أنها "مجتمع متطور تاريخياً ومستقر لغوياً وإقليمياً وله حياة اقتصادية مشتركة وتركيب نفسي يتجلى في مجتمع ثقافي" على حالة مجموعة تيغراي العرقية والأسئلة الجوهرية المتعلقة بتقاسم السلطة والثروة.

‎خلال تلك الفترة الجامعية لقيادات جبهة التيغراي، زعمت ورقة بحثية تقدمت بها الطالبة واللين ماكونين حول "مسألة القوميات" في إثيوبيا (1969) أن "إثيوبيا عبارة عن مجموعة من الشعوب التي تحكمها مجموعة عرقية أمهرا التي فرضت ثقافتها ولغتها"، ويبدو أن هذا التفسير مستوحى من تفسير لينين وستالين لقضية العرق في روسيا. 

بين التفسير الطبقي والعرقي 

كما يرى نجاش أن "الموقف الذي اتخذته جبهة التيغراي حول قضايا الهوية وتقرير المصير كان مبنياً على موقف ماركس من المسألة القومية الإيرلندية، لذلك نص البيان الأول للجبهة على أن الخلاف والشك بين شعوب إثيوبيا ناتجان من تفاقم الاضطهاد الذي تمارسه مجموعة أمهرا العرقية على الشعوب الإثيوبية المضطهدة، بخاصة على مجموعة تيغراي العرقية. ووصلنا الآن إلى مرحلة لا تستطيع فيها هذه الشعوب خوض صراع طبقي مشترك".

‎ويشدد البيان على قضية "القهر القومي" وأن جماعة تيغراي العرقية على وجه الخصوص تعرضت للقمع، وتدعو إلى قيام جمهورية مستقلة"، وعلى رغم تخلي الجبهة لاحقاً (1978) تحت تأثيرات محلية وإقليمية، لا سيما بعد التحالف مع الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا، عن فكرة الانفصال وتأسيس دولة تيغراي، لكن الفكرة "ظلت لبعض الوقت مصدراً للانشقاقات واستمرت القومية العرقية في كونها الأساس الأيديولوجي للجبهة". 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

‎ويرى الباحث جيداون تسفايو في إفادة لـ"اندبندنت عربية" أن "السؤال القومي الذي طرحه المثقفون اليساريون في تلك الفترة كان خطأ فادحاً" مشيراً إلى أنه "حتى لو كان هناك تمييز عرقي من قبل إحدى المجموعات ضد الأخرى، إلا أنه لم يكن موجهاً بشكل محدد ضد إثنية التيغراي"، مضيفاً "القومية التيغراوية التي حرضت عليها الجبهة كانت مزيجاً من التطلع إلى الهيمنة والنضال ضد الاضطهاد اللغوي الأمهري، وكما هي الحال في أي مكان آخر هي اختراع النخبة المثقفة الحديثة".

ولخص تسفايو رؤيته بقوله إن "النزعة القومية العرقية محورية في ادعاء الجبهة، لكنها لم تكن تسعى إلى بسط المساواة بين جميع القوميات الإثيوبية، حيث إن التجربة العملية لهذا التنظيم في السلطة (2018/1991) برهنت أنها تمارس اضطهاداً مضاداً، مما يكشف عن البنية الذهنية والإدراكية".

محطات وتحولات في مسار الجبهة 

بقراءة التاريخ السياسي لجبهة التيغراي، يمكن ملاحظة أهم المنعطفات الحاسمة التي شهد فيها التنظيم تحولات أيديولوجية، إذ أسهم السياق التاريخي الذي ساد العالم في أواخر السبعينيات نتيجة الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي في تشكل "نواة شيوعية" داخل الجبهة، أسسها عدد قليل من أعضاء القيادة العليا الذين أعلنوا لاحقاً "الماركسية اللينينية" كأيديولوجيا توجيهية للتنظيم.

وهذا ما يمكن اعتباره "التحول الأيديولوجي الأول" عندما اجتمعت تلك النواة تحت فكرة الانفصال عن إثيوبيا قبل أن تتمكن لاحقاً من تأسيس الرابطة الماركسية اللينينية (MLLT) في يونيو (حزيران) 1985.

ويقرأ تيفري نجاش ذلك بالقول إن "الدافع وراء إنشاء MLLT هو الرغبة في السيطرة الكاملة على الجبهة من خلال التخلي عن فكرة كونها جبهة ذات توجهات أيديولوجية وسياسية مختلفة واستبدالها بمنطق حزب واحد صارم".

ويضيف "تم في هذه المحطة استخدام الأيديولوجيا للمرة الأولى لتطهير أعضاء بارزين من الجبهة باتهامهم بالبراغماتية أو التجريبية أو التحريف والحيد عن الهدف، وهكذا بدأت مرحلة تركز السلطة السياسية في أيدي عدد قليل من القادة. كما شهدت هذه الحقبة ‎التحول الرسمي من الفكرة العرقية إلى الماركسية اللينينية، لكن القومية الإثنية لم تتلاش من خطاب الجبهة".

ويرى أرقاوي برهي أن الموقف الأيديولوجي للجبهة "يتلخص في الشروع بثورة ديمقراطية وطنية لتأسيس اقتصاد اشتراكي مخطط خال من استغلال الإنسان للإنسان".

الديمقراطية الثورية

المرحلة الثانية الحاسمة كانت الفترة بين 1989 و1991 عندما شهد الحزب تحولاً أيديولوجياً من الماركسية اللينينية إلى الديمقراطية الثورية. 

كانت هذه الفترة مصحوبة بتغيرات محلية وعالمية. في الداخل، كانت الجبهة تستعد لتولي سلطة الدولة بعد 17 عاماً من الحرب الأهلية المطولة، وعالمياً كان الغرب منتصراً في الحرب الباردة، مما دفع الجبهة إلى إعادة تكييف نفسها مع النظام الدولي، بحيث أبلغت القوى الغربية بالتخلي عن موقفها الأيديولوجي (الماركسية) وخلاصة هذا المنعطف كانت رحلة الأمين العام للجبهة ميليس زيناوي إلى واشنطن عام 1990، حيث ألقى خطابه حول تغيير الأيديولوجية الماركسية للجبهة إلى الديمقراطية الثورية. وفي العام التالي أصدرت برنامجاً سياسياً واقتصادياً ليبرالياً أطلق عليه اسم الديمقراطية الثورية.

ويرى تيفري نجاش أن "اعتماد المصطلحات الأيديولوجية للديمقراطية الثورية، كان أساسها ابتكار أيديولوجيا وسطية للحفاظ على موقعها في السلطة، وليس بالضرورة تغيير قيمها الاشتراكية الأساسية. وعلى عكس المنعطف الأول، كانت هذه محاولة لتركيز السلطة على مستوى الدولة. في أفضل الأحوال، عمل هذا الادعاء الأيديولوجي على إقناع الغرب وإرباك كوادر الجبهة". 

وكشف جبرو أسرات، وهو من قدامى قادة الجبهة، في مذكراته عن أن "الجبهة طمأنت الغرب بأن مفهوم الديمقراطية الثورية لا يختلف بشكل أساسي عن الديمقراطية الليبرالية النموذجية، ولكنه مجرد توجه سياسي يؤكد الحقوق القائمة بالنظر إلى السياق الإثيوبي". 

في الوقت ذاته كان المسؤول الأول عن الجبهة ميليس زيناوي يحرص في خطاباته الموجهة إلى كوادره في الداخل على التأكيد أن "التوجه السياسي هو الذي يستمر في الوضع الراهن من دون تغيير الإلهام الماركسي اللينيني الأصلي".

واستمر هذا النهج في سياسات الجبهة حتى بعد وصولها إلى السلطة في أديس ابابا بعد التحالف التاريخي بينها وبين حليفتها الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا ونجاحهما في إسقاط نظام الكولونيل منغستو هيلا مريام.

الدولة الديمقراطية التنموية 

المرحلة الثالثة من التحولات انطلقت بما سمي "الدولة التنموية"  وبدأ هذا الخطاب بالظهور في المشهد السياسي الإثيوبي بعد الحرب الإريترية الإثيوبية (2000/1998) التي خلفت انقساماً على مستوى قيادة الجبهة عام 2001 وتعمق بعد انتخابات 2005.

تبنت الجبهة مصطلح "الدولة التنموية" وتخلت عن مطالبتها بالديمقراطية الثورية. وتبعها في ذلك التحالف الفضفاض الذي تقوده "الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي" والذي يضم مجموعات من الأحزاب السياسية المشاركة بنسب ضئيلة في السلطة، بحيث فسر زعيم الجبهة ورئيس الوزراء حينها ميليس زيناوي هذا التوجه بالقول إن "الصلة بين المكونات الأيديولوجية والهيكلية للدولة التنموية هي ما يميزها عن الدول الأخرى".

أيديولوجياً، كانت رسالة مشروع الدولة التنموية هي التنمية المتسارعة التي كانت بمثابة مصدر للشرعية وأشار مكونها الهيكلي إلى "القدرة على تنفيذ السياسة بشكل فاعل بالاستناد إلى استقلالية الدولة" وأسهم الغرب في دعم تلك المشاريع باعتبار إثيوبيا نموذجاً لأكثر الاقتصادات الأفريقية نمواً.

ومن ناحية أخرى حرصت كوادر الجبهة والدولة على تبرير هذا التوجه باعتباره "السبيل الوحيد الذي ربما يمنع تفكك الدولة الإثيوبية"، لا سيما في ظل تنامي الحركات المسلحة المطالبة بالانفصال، بالاستفادة من الدستور الفيدرالي الذي وضعته الجبهة نفسها والذي ينص على حق الشعوب الإثيوبية في تقرير المصير حتى الانفصال.

إلا أن تعارض الأفكار الرئيسة لتلك السياسات مع الممارسات الفعلية على الأرض التي اعتمدت على سيطرة الجبهة على مقدرات الدولة الإثيوبية، أسهم في قوة الحراك الشعبي المناهض للسلطة، وصولاً إلى إقصاء الجبهة عن سدة الحكم عام 2018.

راهن الجبهة ومستقبل تيغراي

بعد وصول رئيس الوزراء الحالي آبي أحمد إلى الحكم وانفضاض التحالف الحاكم، قررت الجبهة الانسحاب من العاصمة والعودة لإقليم تيغراي، حيث عملت بشكل مكثف مع النخب التيغراوية لاستشراف مستقبل الإقليم وعلى رأس الخيارات الانفصال وإعلان دولة مستقلة وترجمت تلك السياسات في تدابير عدة من بينها إجراء انتخابات عامة بمعزل عن إثيوبيا، فضلاً عن بعض الإجراءات العسكرية من قبيل محاولة السيطرة على معسكرات الجيش النظامي في تيغراي، مما أسهم في اندلاع الحرب بينها والحكومة المركزية في نوفمبر 2020.

ولا يزال سؤال الانفصال جوهرياً في إدراك النخب التيغراوية، كما لم تحسم الجبهة خياراتها حياله حتى الآن.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير