من مطالبة حسام حبيب بالابتعاد عن شيرين والتأكيد أن والدتها أخطأت في تربيتها ولوم طفلتها لأنها احتفلت بـ"الهالوين" على رغم مرض والدتها، إلى الجزم بأن رفع سعر الفائدة قرار خاطئ وأن بيع القصور الرئاسية وتوزيع أموالها على المواطنين هو الحل الأمثل للأزمة الاقتصادية، إلى القول إن سياسات الديمقراطيين كان ينبغي أن تتبنى جانباً من رؤى الجمهوريين لتتحقق لهم نتائج أفضل في التجديد النصفي، إلى التحذير من مشاهدة أفلام المهرجان السينمائي أو متابعة أخباره لأن كل الضالعين والضالعات فيه مآلهم جهنم ومعهم المتابعون والمتابعات، إلى صب اللعنات على مدافع الزمالك محمد عبدالغني الذي اتبع أسلوب التحليق في مباراة الزمالك أمام الأهلي، ولو كان اتبع الضغط بقوة لتحولت نتيجة المباراة لصالح الزمالك قولاً واحداً، إلى التصريح بأن صعود نجم اليمين في إيطاليا سيصب في مصلحة العرب والمسلمين والمهاجرين عكس ما يشاع، وأن أفضل وسيلة لفقدان الوزن هي تناول الموز فقط لمدة شهر، إلى الطعن في حكم القاضي الذي صدر بإعدام قاتل الفتاة التي رفضت خطبته، إلى سب ووصم كل من يتجرأ ويشكك في نزاهة وصدقية وروعة "الراجل بتاع الكشري" بأنه غليظ القلب سميك الجلد معدوم الرحمة، وهكذا تدور دوائر أحكام منصات التواصل الاجتماعي وفتاواه وصكوك غفرانه على مدار الساعة.
صكوك الرحمة الرقمية
صكوك الرحمة ومعها الإيمان وتحديد قوائم الداخلين إلى الجنة والملتحقين بالنار، وأذون الخزانة في المال والأعمال والاقتصاد، وأحكام القضاء التي كان يفترض أن تصدر مخالفة لما صدر منها بالفعل، وبرامج التغذية المضمونة بناء على وصفات شعبية مأمونة لا على كلام أطباء مرسل، ومن يجب على الأميركيين انتخابه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وغيرها من شؤون السياسة الداخلية والخارجية، ووضع الكون اليوم، وتفاصيل يوم القيامة، والطريقة المثلى لإنهاء حرب روسيا في أوكرانيا، والتوقعات المؤكدة لما سيحدث في إيران وأفغانستان وربما تركمانستان، وكلها أمور تدور رحاها يومياً على أثير منصات التواصل الاجتماعي العربية من دون هوادة أو فرصة لالتقاط الأنفاس.
والأنفاس على أثير منصات التواصل الاجتماعي متسارعة ولا تعرف للهدوء طريقاً. وعلى الجميع أن يبقى متيقظاً مستنفراً وعلى أهبة الاستعداد طالما أنه على قيد الحياة وفي ساعات الاستيقاظ. ولا مانع أبداً من أن يكتفي بنوم متقطع حيث اليد شبه النائمة تتسلل إلى الهاتف المحمول لتشفي غليل العقل المستنفر المنتظر لمن علق بماذا على نظريته في الاقتصاد العالمي التي ابتكرها قبل أن يستسلم لسلطان النوم مضطراً، أو من أشاد بأية كلمات على فتواه التي أطلقها بينما كان في الباص متوجهاً إلى عمله في شركة الكهرباء أو مصنع الأدوات المنزلية أو مخبز الحلويات.
الأثير منبع لا ينضب من النظريات والتفسيرات والتحليلات والمواقف في كل ما يخص الحياة الدنيا وكذلك الآخرة. وحيث إن ساعات العمل لدى بعض الناس قليلة وقواعده متساهلة تتيح لملايين الوجود في مكان العمل وفي الوقت نفسه التغريد والتدوين والنشر والتعليق وإثراء "السوشيال ميديا" بكم هائل من بنات الأفكار، فإن المعين لا ينضب فقط بل ويفيض وأحياناً يطفح.
هل طفح الكيل؟
نعم طفح الكيل بكثيرين من الاختصاصيين الحقيقيين في مجالات عملهم ودراستهم. خبراء الاقتصاد وعلماء السياسة والاجتماع والفلسفة وعلم النفس والأطباء والمهندسون والمحاسبون والمزارعون وحتى علماء الدين وجدوا أنفسهم في عصر فيضان "الـسوشيال ميديا" مهددين بفقدان وظائفهم بعد أن فقدت إطلالاتهم في برامج التلفزيون وصفحات الجرائد والمواقع الخبرية بريقها.
بريق الخبرة ووهج القدرة على الشرح وصدقية التعليل بناء على المعرفة راحت وراحت أيامها. أيام المعلومة الموثقة والخبر اليقين والتفسير الدقيق تقلصت وتقزمت وتقهقرت أمام طوفان مئات الملايين من الخبراء في كل شيء وأي شيء على الأثير العنكبوتي. زمن التمكين الرقمي لم يكتف بالتمكين من حيث إتاحة أدوات المعرفة والاطلاع والتعبير، بل سلب الخبراء أعز ما يملكون: خبرتهم.
حتى عقدين مضيا، كان الخبير وإلى حد ما المسؤول الحكومي في نظر جماهير المتلقين للإعلام - سواء صحف أو قنوات تلفزيونية أو إذاعية - المصدر الوحيد المعصوم عن الخطأ. السمة السائدة كانت تلقي ما يصدر عنهم باعتباره أمراً واقعاً. وفي الحالات التي لا تتفق فيها أفكار أو أهواء المتلقي مع ما يطالعه أو يسمعه، كان يتجه إلى خبير آخر في وسيلة إعلامية أخرى، لكن الملجأ ظل خبيراً محنكاً معلوم السيرة الذاتية محدد العمل والانتماء، لكن لم تعد هذه هي الحال بعد أن تبدلت الظروف وانقلبت رأساً على قدم.
فقدوم الإنترنت ثم منصات التواصل الاجتماعي حول كل من لديه شاشة متصلة بالإنترنت إلى خبير إن أراد. ومن أرادوا في هذه المنطقة من العالم كثيرون وأعدادهم بالملايين. وهذه الملايين الآخذة في الزيادة لم تترك مجالاً في العلم أو الفن أو الأدب أو السياسة أو الدين أو الاجتماع أو النفس أو الجسد إلا وأعلنته منطقة محررة من سطوة الخبراء، بعيدة من احتكار العلماء والمتخصصين.
اختصاصيو منصات التواصل الاجتماعي يقولون إن الإنترنت ومنصات تواصله منحت المستخدم - أي مستخدم - لقب "خبير معرفي" من دون أوراق اعتماد، وأحياناً مع الحق في الاحتفاظ بسرية الهوية بل وتعدد الهويات. ففي مقالة منشورة بـ"ذو كونفرسايشين" (شبكة منصات إعلامية على الإنترنت) تحت عنوان "الجميع خبير: في العصر الرقمي يجب الكشف عن الزيف" (2015)، جاء أن الأكاديميين المتخصصين في الاتصال دان نيمو وجيمس كومبس تحدثا في التسعينيات عن كيفية تحول الديمقراطية إلى "مجموعة مؤثرة من المعلقين السياسيين" (Punditocracy).
اعتبر الأكاديميان ذلك التحول في مفهوم الديمقراطية وبالاً على المواطنين الذين أصبحوا يتابعون ما يهرطق به "خبراء" وما يصولون ويجولون فيه من جدليات وكأنهم يتلصصون على المعرفة بدلاً من أن يكونوا طرفاً فاعلاً في مناقشة مشكلاتهم الحياتية اليومية. وهنا جاء دور الإنترنت ومنصات "السوشيال ميديا" التي أعطت الجميع حقوقاً متساوية ومنصات متطابقة للتعبير والاعتراض والتعليق، لكن نيمو وكومبس راهناً وقتها على قدرة مستخدمي هذه المنصات على التفرقة بين الحق والباطل، والمعلومة والرأي، والمعرفة والتوجيه.
غرق عربي جماعي
لكن ما يجري في عالم "السوشيال ميديا" خلال هذه الآونة، لا سيما في عديد من الدول العربية، يشير إلى استخدام مفرط واعتماد شبه كلي وغرق جماعي على أثير المنصات. والأمر لم يعد قلقاً على الصحة العقلية فقط، أو بحثاً في آثار التصاق الأشخاص بشاشاتهم وانحنائهم لساعات طويلة أمامها وما يسببه ذلك بأعمدتهم الفقرية وهياكلهم العظمية وعيونهم وقلوبهم وغيرها من مضار، وعلى رغم أن دراسة أجريت عام 2014 على أنماط استخدام منصات التواصل الاجتماعي في الشرق الأوسط أشارت إلى أن المنطقة تضم أعلى نسبة لإدمان الإنترنت (النسبة حالياً أعلى بكل تأكيد)، لكنها لم تتوقع أن يأتي اليوم الذي يتحول فيه ملايين إلى نقاد أزياء وأفلام ومسرحيات، ومصممي رقصات وصانعي ألعاب، ومخترعي أكلات ومبتكري علاجات، وقضاة جنايات وجنح وأحوال شخصية، ومفتيي ديار ومشايخ ودعاة، واختصاصيي علاقات وتنمية بشرية وأفكار خزعبلية، وكذلك جلادين ومقتصين ومنفذي أحكام بالإعدام والعزل والإقصاء والإبعاد، وهكذا انقلب سحر الإنترنت ومنصاته على الساحر أينما كان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أينما كان المواطن يدركه "الترند" ومواضيع الساعة. والساعة هذه الأيام هي لملحمة الفنانة شيرين وزوجها أو طليقها أو عدوها أو حبيبها حسام حبيب، وكذلك "الراجل بتاع الكشري" أي عامل النظافة الذي انتشر فيديو له أثناء رفض عمال محل كشري مشهور في القاهرة دخوله، كما فرض مهرجان القاهرة السينمائي نفسه ترنداً، وهو الفرض السنوي المنزل من قبل ملوك وأباطرة وفتوات "السوشيال ميديا".
فتوات "السوشيال ميديا" قد يكونون أطباء أو عمال بناء أو طلاب مدارس إعدادية. وقد يكونون فتيات في عمر الربيع أو موظفات متقاعدات منذ عقود أو أشخاص أتلف بنيانهم الذهني ونال من صحتهم النفسية طول سنوات الانحناء أمام الشاشات.
الشاشات المليونية الموجودة في كل بيت، بغض النظر عن مستوى أصحابه الاجتماعي أو قدرة سكانه من حيث الاقتصاد والمال والأعمال، جعلت من كل قابع خلف الشاشة مشروع خبير وقاض ومنفذ أحكام محتمل.
احتمالات أن يفلت كل من يشكك في صدق "ترند" مثل الذي للرجل المسكين عامل النظافة الذي حاول أن يشتري علبة كشري فرفض عمال المحل وأهانوه وسبوه وقذفوه إلى الخارج باعتباره ربما آفاقاً أو محتالاً أو مستأجراً لبدلة عمال النظافة (كما هو شائع) بغرض التسول، من دون سب أو شتم أو اتهام بقسوة القلب وبلادة الحس شبه معدومة. وهذا ما جرى في "الترند" الذي أصبح بين فيديو وضحاه أشهر من نار على علم. فتارة يظهر الرجل وهو يلعب التنس في ناد رياضي راق، وأخرى ضيفاً في برنامج ثم تتقدم له المذيعة طالبة يده (خطبته)، وثالثة ملتهماً الأسماك وشارباً شوربتها مع ممثل مشهور، ورابعة مدعواً لقضاء أسبوع في دبي، وخامسة متسوقاً أغلى الملابس والعطور من محل في "مول" مشهور. وفجأة وقع المحظور واتضح أنه ضالع في مجموعة منتقاة من القضايا تراوح بين قتل خطأ وتبديد، وتم توقيفه في كمين وإلقاء القبض عليه.
لغز "رجل الكشري"
"الراجل بتاع الكشري" الذي صار "أفاقاً ومحتالاً وصاحب سوابق" اليوم بعد أن كان "محترماً عفيفاً شريفاً" أمس يضع سطوة "الترند" وديكتاتوريته والأحكام العرفية القاضية بالخنوع لهيمنته والتلويح بعصا الوصم والاتهام بالجهل أو القسوة أو التغييب أو جميعها تحت المجهر.
مجهر تحول "الترند" إلى حاكم بأمره قادر على أن يضطهد ويشوه ويقصي ويقسو على المختلف معه أو المشكك فيه لم يظهر فجأة على وقع قضية "رجل الكشري" أو "ملحمة شيرين وحسام" أو فساتين الرأي العام، بل هي قديمة قدم تحول منصات التواصل الاجتماعي إلى أدوات تمكين لمن لا صوت أو حول أو قوة لهم، وإلى مقاصل تفريق وتأديب وتقويم لمن يسيئون إلى "الترند" الهادر وسطوته، أو يبدون مقاومة للتسليم بشهوته، أو يتجرأون ويشككون في صدقية محتواه أو تفسيرات خبرائه وعلمائه وجهاذبته. هؤلاء يلقون عقوبات رقمية قاسية كان في إمكانهم تجنبها لو أذعنوا للسطوة أو امتنعوا عن الدق تعليقاً واعتراضاً وتشكيكاً.
العقوبة الرقمية" و"الإقصاء بعيداً من السوشيال ميديا" و"الحرمان العنكبوتي" عبارات يستخدمها بعض الناس في مناطق أخرى من العالم بعيداً من المنطقة العربية. في هذه المناطق، تعتبر عقوبات الحرمان من استخدام منصات التواصل الاجتماعي شكلاً حديثاً نسبياً من أشكال العقوبات التي تفرضها بعض المحاكم في دول مثل الولايات المتحدة على بعض البشر، وهي عقوبات تلقى شداً وجذباً حيث يجادل بعضهم في مدى دستورية حرمان أحد من التعبير الرقمي.
لكن الخصوصية العربية تفرض نفسها في شأن هذا النوع من العقوبات والإقصاء والحرمان، حيث القضاة هم ملوك "الترند" وصناعه ومقرروه. أما المتهم فهو كل من تسول له نفسه الخروج عن خط "الترند" المرسوم أو هيمنة التفسيرات والتحليلات والرؤى المرتبة سلفاً لتفسير الأحداث وتعليل الحوادث وإصدار صكوك الشرف والعفة لهؤلاء أو حرمانهم منها أو نعتهم بعكسها على الملأ.
العالم ما زال في مرحلة التعلم في عصر الثورة الرقمية. انتشار وهيمنة منصات التواصل الاجتماعي على مدار العقود الثلاثة الماضية لا يعني أبداً أن المستخدمين والقائمين على أمر المنصات والحكومات والمتابعين والمراقبين قد فهموا وهضموا قواعد الثورة. فبينما نصف العالم الغربي ما زال غارقاً في اعتبار انتهاكات المنصات قاصرة على قوائم يسنها مثل: خطاب الكراهية، أو العنف أو التمييز أو التنمر إلى آخرها، وهي قوائم تعتمد على البحث عن كلمات بعينها أو اتخاذ إجراءات بناء على بلاغات من مستخدمين آخرين، فإن ملايين الخبراء والعلماء وجهابذة "الترند" والأكثر مشاهدة في مكان آخر من العالم يمارسون هيمنتهم بأدوات وأساليب يصعب شرحها لخوارزميات المنصات، أو ترجمتها لفرق التقصي والتحقيق في البلاغات.
عمليات التصفية النفسية والجرح المعنوي والإقصاء الرقمي التي تجري على أثير منصات التواصل الاجتماعي متلاحقة ومتسارعة ولا تعرف للاسترخاء سبيلاً على مدار الساعة، ويصعب بل ويستحيل أحياناً بلورتها. فحين يأتي التعليق على فساتين الفنانات في مهرجان القاهرة السينمائي عبارة عن آيات قرآنية ونصوص فتاوى من كتب التراث، أو حين يشكك أحدهم في "رجل الكشري" (قبل فضح أمره) والتحذير من أنه قد يكون محتالاً فتأتي الردود "حسبي الله ونعم الوكيل في كل مفتر ظالم"، أو نشر مقالة طويلة عريضة عن الطبقات المخملية التي تعيش في رفاهية ولا تشعر بالجوعى والمرضى والمساكين وأبناء السبيل، تتضاءل فرص إثبات حدوث الجرح وشرح أبعاد الإقصاء والمطالبة بوقف ديكتاتورية "الترند".