حالة لا حرب ولا سلم تخيم على المشهد بين الولايات المتحدة وإيران، فلا يزال الجانبان يتبادلان تصعيدا يقتصر على العقوبات الاقتصادية الخانقة من جانب واشنطن، فيما اتجهت طهران للانسحاب التدريجي من التزاماتها الخاصة بالاتفاق النووي (خطة العمل المشتركة الشاملة JCPOA)، ففي أحدث خطوة من جانب النظام الإيراني لكسب نفوذ أكبر في أي مفاوضات محتملة أعلنت أنها ستتجاوز الحد المنصوص عليه لتخصيب اليورانيوم في للاتفاق النووي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بحسب الاتفاق النووي، الذي وقّعت عليه إيران مع القوي الدولية 5+1، في 2015، وانسحبت منه الولايات المتحدة بقيادة إدارة الرئيس دونالد ترمب في مايو (أيار) 2018، فإنه لا يجب تجاوز مستوى 3.67% في تخصيب اليورانيوم، وهو الخرق الذي أقدمت عليه إيران هذا الأسبوع.
لم يكن هذا الخرق مفاجئا، فقد سبقه بنحو شهر خرقٌ آخر، إذ عمدت طهران لتجاوز مخزونها من اليورانيوم المخصب الحد المنصوص عليه في الاتفاق النووي، معلنة استئناف تخصيب اليورانيوم اللازم لإنتاج وقود نووي، وهو الذي يمكن استخدامه لتشغيل المفاعلات النووية لأغراض سلمية أو لإنتاج أسلحة نووية.
التلويح بالانسحاب من معاهدة حظر الانتشار
القيادة الإيرانية بزعامة المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي أكد عدم رغبه بلاده خوض حرب، إذ ليس بإمكان إيران تحمل التكلفة العسكرية أو السياسية لمواجهة مسلحة مع دولة بحجم الولايات المتحدة، ومن ثمّ فإنها تستنفد تدريجيا أدواتها للتصعيد في صراعها مع إدارة ترمب، لذا فإن خطوتها المقبلة ربما تكون الانسحاب من "معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية" (NPT)، التي وقّعت عليها خلال عهد الشاه، باعتبارها أداة الضغط الأقوى في مواجهة العقوبات الاقتصادية التي تشترط طهران تخفيفها قبل الجلوس على مائدة المفاوضات.
بالفعل لوّح المسؤولون الإيرانيون بهذا الخيار مرارا حتى قبل التصعيد الحالي في الصراع مع الولايات المتحدة. ففي أبريل (نيسان) الماضي، قال وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف "إن النظام ينظر في الانسحاب من معاهدة عدم الانتشار النووي كأحد خيارات الرد على التصعيد في العقوبات الاقتصادية"، جاء ذلك في أعقاب قرار إدارة ترمب عدم تجديد الإعفاءات التي كانت تسمح للنظام الإيراني ببيع النفط لثماني دول، ومن ثمّ وصول صادراته من النفط إلى الصفر. وبنهاية مايو (أيار)، أدلى مسؤول إيراني رفيع بتعليقات مشابهة لصحيفة الفايننشيال تايمز البريطانية، مهددا بالانسحاب من المعاهدة الدولية وطالب أوروبا بتقديم حزمة اقتصادية لتعويض بلاده عن قرار واشنطن.
معاهدة عدم الانتشار النووي تتطلب من الدول غير الحائزة للأسلحة النووية أن تتخلى عن تطوير الأسلحة النووية وحيازتها. وتسمح المعاهدة للولايات المتحدة والصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا (الدول الخمس الوحيدة التي كانت تمتلك أسلحة نووية وقت توقيع المعاهدة عام 1968) بامتلاكها، ولكن ليس لنقل المواد النووية إلى دول أخرى. وتعهدت الدول الخمس الحائزة للأسلحة النووية، وجميع الأطراف الأخرى الموقعة على المعاهدة، بمواصلة المفاوضات بشأن التدابير الفعالة التي تقود إلى نزع السلاح النووي في نهاية المطاف.
ويتوقع سايمون هندرسون، مدير "برنامج برنستاين لشؤون الخليج وسياسة الطاقة" لدى معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، "احتمال انسحاب إيران من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية"، مما يجيز لها استخدام التكنولوجيا النووية السلمية مقابل التخلي عن الأسلحة النووية. ويشير إلى "أن طهران تزعم رسمياً، على نحو غير منطقي، أنه لم يكن لديها مطلقاً مشروع قنبلة نووية، لذا فإن الانسحاب من (معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية) لا يتعارض، في حدّ ذاته، مع هذا الموقف، ولكنه يحرر إيران من قيود المعاهدة".
خطر سابقة كوريا الشمالية
ووقعت دول العالم معاهدة عدم الانتشار، باستثناء الهند وباكستان وإسرائيل وجنوب السودان، فيما أصبحت كوريا الشمالية أول دولة تنحسب منها. ومهد انسحاب كوريا الشمالية من المعاهدة عام 2003 الطريق لأول تجربة أسلحة نووية بعد ثلاث سنوات ونصف السنة، ومن ثمّ فالمخاطر عالية فيما يتعلق بالمسلك الإيراني. وبحسب هندرسون "تمتلك كوريا الشمالية برنامجاً نووياً أكثر تطوّراً من البرنامج الإيراني، حيث أتقنت تخصيب اليورانيوم وإعادة معالجة البلوتونيوم على السواء، واختبرت الأسلحة عدة مرات، وطوّرت صواريخ قادرة على حمل مثل هذه الرؤوس الحربية التي تصل إلى مسافة بعيدة كالولايات المتحدة، وجميعها مهارات فشلت الولايات المتحدة في منْع حكومة بيونغ يانغ من اكتسابها. ومن ثمّ ربما يأمل المرشد الأعلى علي خامنئي في طهران أن تتمكن بلاده من المثابرة والصبر على العقوبات وغيرها من الضغوط لكسب مستوى مماثل من الإنجازات".
وعلى الرغم من أن آدم شينمان، الممثل الخاص للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما لشؤون حظر الانتشار النووي والأستاذ بكلية الحرب الوطنية، يحذر من "خطورة خروج إيران من المعاهدة باعتباره سيكون مدمرا بشكل كبير، غير أنه يستبعد ذلك بالنظر إلى ما سينطوي عليه الأمر من مخاطر أكبر"، مشيرا إلى التيار الأكثر اعتدالا في إيران.
عواقب خطيرة على إيران
ويوضح شينمان "أنه بينما على الأرجح أن المرشد الأعلى لإيران قد أعطى الضوء الأخضر لسلاح نووي إيراني، فإنه بذلك يفتح البوابات أمام انسحاب دول المنطقة وتحديدا الدول العربية من معاهدة عدم الانتشار النووي إذ قد تشعر هذه الدول وربما الحكومات السنية الأخرى بالحاجة إلى سلاحها النووي الخاص في مواجهة صعود إيران. كما أن إسرائيل ربما تشعر حالا بأنها مضطرة لضرب المنشآت النووية الإيرانية قبل أن تصبح جاهزة للعمل بشكل كامل. وهذا يثير شبح الحرب الإقليمية التي قد تجذب العديد من الدول الحائزة للأسلحة النووية (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وروسيا)، وإعادة تشكيل الشرق الأوسط بطرق لا يمكننا التنبؤ بها. ومن ثم فإن العقلانيين في إيران يفهمون جيدا خطر خروج الأحداث عن السيطرة.
وعلى الأرجح "فإن إيران التي تسعى للتخلص من عبء العقوبات الاقتصادية القاسية قبل أي مفاوضات ستكون أكثر تحوطا في الوقت الحالي بشأن انسحابها من المعاهد، إذ ستتجنب أي إجراء استفزازي من شأنه أن يسفر عن ضربات أميركية أو تزود الأوروبيين وغيرهم بعذر لإعادة فرض عقوبات اقتصادية واسعة النطاق".
وبشكل عام، فإنه بحسب منظمة "حملة نزع الأسلحة النووية"، "فإن معاهدة حظر الانتشار النووي تواجه عدة تحديات". فخلال مؤتمر أممي كبير بحث التقدم المحرز على صعيد المعاهدة عقد في مايو (أيار) الماضي، لم تتمكن الدول من الاتفاق على وثيقة نهائية. وبينما من المقرر عقد المؤتمر الاستعراضي لدول المعاهدة في أبريل (نيسان) 2020، فإن المنظمة تتوقع أن يكون من الصعب للغاية إقناع الدول النووية بالموافقة على أي خطوات ملموسة الوفاء بالالتزامات التي قطعتها على نفسها بالتوقيع على المعاهدة من أجل نزع السلاح النووي. وتشير بحسب تقرير على موقعها الإلكتروني، إلى "أنه خلال المؤتمر نشرت حكومة المملكة المتحدة مسودة تقرير التنفيذ الوطني، والتي تحدد كيفية التزامها بمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية. والتي أظهرت أنه بالكاد تضمنت الوثيقة أي شيء ملموس حول كيف تعتزم الحكومة نزع سلاحها".
ماذا ينبغي أن يفعل المجتمع الدولي؟
وأمام جمود الموقف وإصرار الرئيس الأميركي على فرض شروطه الخاصة للجلوس إلى مائدة المفاوضات من أجل اتفاق نووي جديد أفضل من سابقه، مثلما يؤكد ترمب، فربما تمضي إيران خلال الأسابيع المقبلة في استخدام أمر انسحابها من المعاهدة كورقة تفاوض، ومن ثمّ قد يجد العالم نفسه أمام واقع انسحاب إيران من المعاهدة، فما هي الخيارات الدولية في ذلك الوقت؟.
تلويحات إيران بالانسحاب أثارت قلق أقرب حلفائها، إذ سرعان ما بعثت موسكو نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف، إلى طهران في أعقاب تهديدات الانسحاب مايو الماضي. وأوضح الدبلوماسي الروسي الرفيع، في تصريحات للصحافة المحلية، "أن موسكو حذرت إيران من الإقدام على الخطوة التي ستكون خطوة جديدة في اتجاه زعزعة الاستقرار وأن هذا من شأنه أن يقوض أساس نظام عدم الانتشار النووي".
وفي حال إقدام إيران على الانسحاب، يشير الممثل الخاص السابق لأوباما لحظر الانتشار النووي إلى ضرورة تشجيع كل من روسيا والصين على تعليق جميع صفقات الطاقة النووية مع إيران. كما ينبغي السعي إلى التوصل لاتفاق بين مجموعة موردي المواد النووية المؤلفة من 48 دولة على إخضاع الصادرات النووية المرخصة مسبقاً لإيران، للتحقق من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية. يمكن لهذه الدول أيضاً أن تصر على أن تعيد إيران أي مواد نووية.
غير أن الإجراء الأهم، هو أن تتحدى الولايات المتحدة والشركاء شرعية الانسحاب الذي يستوجب الوفاء بشروط المادة العاشرة من الاتفاقية التي تنص على أن تثبت الدولة المنسحبة أن تحركها يتعلق بتهديد نووي. ومن ثمّ يمكن الدعوة إلى عقد اجتماعات استثنائية لأطراف المعاهدة للنظر في الردود، ووضع الجدول لإعادة فتح الملف النووي الإيراني في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ومجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
فيما يوصي هندرسون "إنه على أقل تقدير، يجب الضغط على (الوكالة الدولية للطاقة الذرية) المسؤولة عن المراقبة النووية في العالم لحثّها على إجراء عمليات تفتيش أوثق للمواقع الإيرانية. كذلك، يجب عليها أن تراقب عن كثب القدرة الإيرانية على إنتاج البلوتونيوم، الذي يعتبر تقنياً متفجراً نووياً أعلى مستوى من اليورانيوم عالي التخصيب ولكن الحصول عليه أكثر صعوبة".