Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"جيش أوكرانيا الثاني"... عمال يرممون السكك المتضررة من القصف

تقرير بيل ترو من مدينة خيرسون التي تحررت حديثاً حيث يسعى العمال- تحت خطر الألغام واحتمال التعرض لنيران المدفعية المستمر- إلى أن يعيدوا تشغيل القطارات

يتجمع السكان الذين قُطعت عنهم المياه طيلة أشهر، عند نقطة لتوزيع المياه في مدينة خيرسون (بيل ترو)

في معظم الدول الأوروبية، يكفي سوء الأحوال الجوية لكي يتوقف سير القطارات بحسب موعدها المقرر [تخلفها عن مواعيدها]. وفي المملكة المتحدة، تعم الفوضى بسبب التغييرات في مواعيد القطارات. 

أما في أوكرانيا، حيث تعتبر الصواريخ ونيران المدفعية والألغام أحداثاً يومية، واصل عمال السكك الحديد ببساطة عملهم على إصلاح السكك وجعل القطارات تسير مجدداً. حتى تحت القصف.

وهذه هي الرسالة التي يحاول رئيس هيئة السكك الحديدية الأوكرانية، أوليكساندر كاميشين، أن يوصلها فيما يقف في محطة القطار التي أعيد افتتاحها حديثاً في خيرسون، المدينة الواقعة على الجبهة التي لم تتحرر من قبضة الجنود الروس سوى منذ أيام قليلة ولا تزال عرضة للقصف.

استعيدت المدينة بعد الأوامر التي صدرت عن موسكو بالانسحاب باتجاه الضفاف الشرقية لنهر دنيبرو. لكن القوات الروسية لم تبتعد كثيراً، فهي لا تبعد في بعض الأماكن سوى 400 متر إلى الناحية الثانية من ضفاف المجرى المائي.

أخبر الجنود الأوكرانيون الذين حرروا المنطقة الأسبوع الماضي "اندبندنت" عن تعرض المدنيين في خيرسون لنيران القنص، فيما تعلو أصوات القصف في الخلفية.

 

لكن داخل غرفة الانتظار في محطة الركاب في خيرسون، يشرح كاميشين- رئيس هيئة السكك الحديدية الأوكرانية الوطنية أوكرتزاليزتيسيا البالغ من العمر 38 عاماً- عن وصول أول القطارات إلى هذا المكان في غضون أسبوع فحسب، وعن استعدادها لجلب الغذاء والمساعدات كما لنقل الأشخاص بعيداً عن الجبهة. 

افتتح هذا الأسبوع الخط الذي يربط كييف بميكولاييف، المدينة التي تبعد 100 كيلومتر إلى الغرب وتعرضت لقصف عنيف، وسوف يُعاد تشغيل الخط الواصل إلى خيرسون قريباً.

ويقول كاميشين وهو يوجه حركة الناس الكثيفة حوله "نحن جيش أوكرانيا الثاني، علينا الاستمرار بالعمل. رجال في الميدان، هذا أسلوب عملنا".

ومن بين الأشخاص المنهمكين في العمل هنا أيضاً حاكم خيرسون، ياروسلاف يانوشيفيتش، كما كبار المسؤولين في هيئة السكك الحديدية، وعمال الإغاثة الدوليين، ومهندسين وأطباء ومتطوعين.

ويتابع كاميشين، الأب لولدين بقوله "إلى أن تحين لحظة نجاحنا في تشغيل القطارات، نحن نعمل هنا".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويشرح أن محطة القطار في خيرسون تفتح أبوابها وتعمل كمركز إنساني بانتظار بدء وصول عربات القطارات إليها.

يتحلق السكان حول النقاط التي تتوفر فيها خدمة الإنترنت عبر أقمار ستارلينك الصناعية، ويتصل بعضهم بأفراد من عائلاتهم للمرة الأولى منذ أسابيع لكي يخبروهم بأنهم لا يزالون على قيد الحياة.

وضعت شركة السكك الحديدية مولدات كهربائية لكي يتمكن السكان المحرومون من الطاقة الكهربائية والمياه والغاز منذ أشهر، أن يشحنوا هواتفهم النقالة.

لقد عقدوا شراكة مع جمعية وورلد سنترال كيتشن (World Central Kitchen) الخيرية التي تؤمن معونات غذائية ويوزع موظفوها حصصاً غذائية على حشود من الأشخاص المنتظرين خارجاً. ومن ناحيتها، أسست منظمة أطباء بلا حدود الخيرية- وهي من الشركاء كذلك- مركزاً مؤقتاً للاستشارات والأدوية.

يتابع كاميشين بقوله "نحن أول من يجلب المؤن الغذائية والأدوية والمولدات الكهربائية. يعتبر أوكرانيون كثر أن السكك الحديدة تغير حياتهم. نحن لا نسير القطارات فحسب كما ترين".

في الخارج، يرى السكان المتحلقون حول نقطة للشحن الكهربائي أنها طوق نجاة بالنسبة إليهم.

 

ويقول بوريس، رجل الأعمال المحلي البالغ من العمر 50 عاماً، الذي ينتظر الحصول على حصص غذائية برفقة زوجته، تاتيانا، 44 عاماً "إن افتتاح السكة سيكون تغييراً هائلاً بالنسبة إلينا. لقد انقطعنا عن باقي أوكرانيا منذ مارس (آذار)".

ويتكلم شقيق بوريس، ماكسيم، وهو مدير مؤسسة ثقافية محلية، عن قضائه أربعة أيام في مركز استجواب تحت الأرض يسيطر عليه الروس الذين ضربوه وعذبوه للحصول على المعلومات.

وبعد إطلاق سراحه، كان عليه أن يشق طريق العودة الخطير للوصول إلى الأراضي الواقعة تحت سيطرة أوكرانيا، فسلك طرقاً فرعية للمرور عبر النقاط التفتيش الروسية. أما باقي أفراد العائلة، فموجودون على الضفة الشرقية للنهر التي لا تزال خاضعة للاحتلال الروسي. وهم لا يدرون إن كان [أقاربهم] على قيد الحياة بسبب انقطاع الإنترنت وشبكات الاتصالات عبر الهواتف المحمولة.

ويقول بوريس وهو يتنفس الصعداء "قُطعت عنا الكهرباء والمياه وشبكات الاتصالات بالهواتف الجوالة لوقت طويل جداً. عودة الاتصالات بعد طول انتظار، كما عودة سبيل للدخول والخروج هو أمر بالغ الأهمية".

هذا إنجاز جبار.

استلم كاميشين منصبه كرئيس تنفيذي لهيئة السكك الحديدية قبل أربعة أشهر فقط من غزو الرئيس بوتين لأوكرانيا في فبراير (شباط) من هذا العام. وكان لا يزال عملياً يخضع لفترة تجربة. لقد مر حرفياً بمعمودية النار.

وقد رفع شعاراً بأن القطارات يجب أن تسير مهما كانت الظروف.

ولهذا السبب، تحولت شبكة السكك الحديدية الأوكرانية إلى إحدى أهم أطواق النجاة في هذا الصراع على الرغم من تعرضها للقصف المستمر.

تمتد السكك في كل أرجاء البلاد كما الشرايين في الجسم، وقد تحولت بسرعة إلى طريق حيوي لإجلاء المدنيين الهاربين والجنود الجرحى حين أطلقت روسيا غزوها، لا سيما على ضوء قصف الطرقات وتوقف الحركة الجوية إلى أوكرانيا.

أصبحت القطارات الأوكرانية- وعرباتها الزرقاء والصفراء التي باتت مشهورة الآن- من الطرق الوحيدة للخروج من البلاد.

في بداية الحرب، تكدس ملايين الناس الخائفين داخل العربات سعياً للهرب، وكانت بداية أكبر أزمة لجوء في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.

عُرضت التذاكر بلا مقابل. وحُشر أكبر عدد ممكن من الأشخاص على متن القطارات. وغالباً ما وقعت أمور مؤلمة للغاية، وقامت العائلات المستميتة لركوب القطار باقتحام العربات فيما علت أصوات القصف في الخلفية.

التقطت فيديوهات لرجال بعمر يسمح لهم بالمشاركة في القتال، أرغمهم القانون على البقاء داخل أوكرانيا، وهم يودعون باكين أحباءهم على أرصفة المحطة.

شقت القطارات طريقها المتعرج عبر البلاد، وأطفأت أنوارها تحسباً، كي لا تراها الطائرات والطائرات المسيرة. كما أبطأت سيرها، كي تخفف وقع الاصطدام في حال تعرضها للقصف.

بحثت شركة السكك الحديدية عن عربات نقل إضافية لكي تستطيع التعامل مع حركة الناس الضخمة. وفي هذه الأثناء، نقلت المساعدات الإنسانية والمعدات والبنية التحتية الحيوية إلى أكثر المناطق تضرراً.

عندما أغلقت مرافئ أوكرانيا على البحر الأسود، أصبحت القطارات السبيل الوحيد لتصدير سلعها الغذائية وحبوبها، وازداد الأمر تعقيداً لأن أوكرانيا تستخدم سككاً من الحقبة السوفياتية، والمساحات الفاصلة بين السكك تفوق نظيرتها في باقي أوروبا: وهذه تركة من عهد الاتحاد السوفياتي، حين شُيدت السكك وهو ما تأمل هيئة السكك الحديدية تغييره لكي يصبح البلد أكثر انسجاماً مع باقي القارة. 

 

لكن في الوقت الحالي، تريد [الهيئة] أن تعمل القطارات لأطول فترة ممكنة وأن تعود إلى المناطق المحررة حديثاً بأسرع وقت ممكن. في إيزيوم، شمالي أوكرانيا، بدأت القطارات بالعمل بعد أربعة أيام ونصف فقط من تاريخ اضطرار الروس إلى الانسحاب.

لكن الثمن كان باهظاً. يخبر كاميشين "اندبندت" بأن قرابة 300 عامل في السكك الحديدية لقوا مصرعهم فيما جُرح أكثر من 600 آخرين منذ اندلاع الصراع. توظف الشركة نحو 231 ألف شخص وما زال الذين لا يسكنون داخل مناطق مُحتلة ولم يُجلوا إلى الخارج، يأتون إلى العمل. يُعتقد أن موظفي الإدارة العليا على قوائم أهداف الجنود الروس، ووكلائهم والعملاء المتعاونين معهم، وعليهم التعامل مع هذا الأمر. 

في 8 أبريل (نيسان)، استُخدمت القنابل العنقودية لضرب محطة القطارات في مدينة كراماتورسك، في منطقة دونيتسك الشرقية، فقُتل 60 شخصاً كان كثيرون من بينهم يحاولون مغادرة المدينة. كان كاميشين في محطة القطارات قبل يوم من الهجوم عليها.

بعد مرور أربعة أشهر على ذلك، في 24 أغسطس (آب)- عيد استقلال أوكرانيا- لقي 25 شخصاً آخرين حتفهم في هجوم صاروخي على محطة القطارات في شابلين، في منطقة دنيبروبيتروفسك في شرق وسط البلاد.

كما زرعت القوات الروسية ألغاماً مضادة للدبابات والأفراد في كل المناطق التي استولت عليها وغادرتها بعدها، مع انسحاب جنودها. ويقول عمال السكك الحديدية إن الألغام تستهدف بشكل خاص البنية التحتية الحيوية مثل السكك نفسها. في المناطق المحررة حديثاً، أطلعت فرق إزالة الألغام اندبندنت على أسلاك التفجير: الشراك كثيرة. 

ويقول رومان تشيرنيتسكي، أحد مديري السكك الحديدية المسؤول عن البنية التحتية، الذي كان منهمكاً في العمل كذلك في محطة القطارات في خيرسون "إن الخطر الرئيس علينا اليوم هو الألغام".

ويضيف بعد صمت يعتصره الألم "منذ أيام قليلة فقط، جُرح سبعة عمال في السكك الحديدية، بعضهم إصابتهم بليغة، بسبب الألغام فيما كانوا يحاولون إصلاح السكة المؤدية إلى خيرسون".

"هذا أصعب ما في الأمر بالنسبة إلينا. ليست أي وظيفة آمنة في أوكرانيا".

إنما على الرغم من المخاطر، تقول شركة السكك الحديدية الأوكرانية إنها أصلحت إلى الآن ما مجموعه ألفا كيلومتر من السكة التي كانت ضمن الجبهة الأمامية أو داخل المناطق المحتلة.

ويقول تشيرنيتسكي إنه من بين 60 جسراً رئيساً للسكك الحديدية دمرها القصف الروسي، أعيد ترميم 20 جسراً. ومن المزمع افتتاح ثلاثة جسور في إيربين شمالي العاصمة كييف- وهي منطقة شهدت بعض أسوأ المعارك في بداية الحرب- الأسبوع المقبل.

ويضيف تشيرنيتسكي أنهم يعملون في خيرسون على إصلاح 60 جزءاً مدمراً من خط السكة الحديدية. وقد أُصلح عشرون مكاناً بالفعل، على الرغم من مرور أقل من أسبوع على مغادرة القوات الروسية المكان.

وخارج حدود المدينة على الطريق القادم من مدينة ميكولاييف المجاورة الذي تعرض للقصف، ينهمك عمال السكة الحديدية بالعمل على جزء من الخط واقع وسط دمار هائل.

 

دمرت الصواريخ وقذائف المدفعية المنطقة الموحلة ولا يزال خطر انهمار الصواريخ قائماً. وكان عمال إزالة الألغام منكبين على العمل في الوقت نفسه، ومنهمكين في تنظيف السكة لكي يتمكنوا من العمل. إلى جانب الطريق، وُضعت عشرات الصواريخ المضادة للدبابات بعناية في صفوف مرتبة، وطُوقت بشريط تحذير أحمر وأبيض اللون.   

والآن، سينصب التركيز على الشتاء القارس. في مقابلات مع "اندبندنت"، اتهم كبار مسؤولي الطاقة في أوكرانيا روسيا بارتكاب "إرهاب طاقة" وبشن موجة هجمات غير مسبوقة في العالم على البنية التحتية للطاقة الكهربائية. وزعمت مجموعات حقوقية مثل منظمة العفو الدولية أن هذه الهجمات ترقى إلى مستوى جريمة حرب.

خيم الظلام والبرد على ملايين المنازل، فيما توقف إمداد المياه في المدن، من خيرسون إلى العاصمة كييف. وسيشكل هذا الانقطاع كابوساً قاتلاً مع استمرار درجات الحرارة في الانخفاض وحلول فصل الشتاء. يومي الأربعاء والخميس، أطلقت روسيا مرة جديدة وابلاً جديداً من الصواريخ التي استهدفت بنية الطاقة التحتية، فغرقت عدة مدن من بينها العاصمة في العتمة. 

هنا سيأتي دور محطات السكك الحديدية، بحسب تعبير كاميشين. وهو يريد لها أن تصبح المركز الإنساني للمدن والبلدات التي تقع فيها.

ويقول، مشيراً إلى مواقد الحطب المصنوعة يدوياً من الخردة المعدنية التي يمكن تركيبها إما داخل المنازل أو خارجها "لدينا مثلاً 10 آلاف موقد، ولا نحتاج سوى إلى ألفين لمحطاتنا لكننا أحضرنا مزيداً من أجل الناس".

"وسوف توفر المحطات الكهرباء والمواقد والإنترنت والطعام والمعدات الطبية- كل شيء". 

مع صوت القصف الأعلى والأقرب أكثر فأكثر، يقوم شخصياً بتوجيه الحشود إلى الداخل، "كي لا يتكرر مشهد كراماتورسك" كما يقول بصوت يلفه الحزن.

وفيما تتجمع العائلات في الداخل حول محول كهربائي لكي تشحن هواتفها، محصنة من الانفجارات القاتلة في الخلفية، يقول "يمكن أن تكون محطة القطار من الأماكن الوحيدة التي يتدفأ فيها الناس ويحصلون على الطعام في الشتاء". و "علي الاستعداد لكل شيء، وعلينا مواصلة العمل دائماً"  يقول كاميشين في الختام.

© The Independent

المزيد من تحقيقات ومطولات