Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل صنعت السينما الغنائية مجد الطرب العربي؟

للأغاني طرق أخرى للانتشار إذ لم تعد بحاجة إلى الشاشة في زمن الإنترنت

مشهد من فيلم غزل البنات لنجيب الريحاني وليلى مراد (مواقع التواصل)

يعد الغناء أحد أهم مظاهر الحداثة الفنية التي طبعت السينما الغنائية داخل العالم العربي، بخاصة أن هذه الأفلام الغنائية التي ازدهرت بين ثلاثينيات وستينيات القرن الـ 20 اعتبرت أوج الحداثة السينمائية، لكونها بلورت نمطاً فنياً أصيلاً برع فيه العرب، في وقت كان الغناء يعيش مجداً حقيقياً خلال الحقبة التي سميت تاريخياً بالرومانسية، ولهذا اعتبر الفيلم الغنائي بمثابة مدخل حقيقي للحداثة البصرية داخل السينما، حيث الفنون تتماهى مع بعضها بعضاً وتكون نسيجاً بصرياً قادراً على إمتاع المشاهد والتأثير في وجدانه.

ولم يكن هذا النمط السينمائي يعرف داخل البلاد العربية حتى بدأت سيرة نهايته خلال مرحلة الستينيات، فبدت السينما العربية وكأنها تخرج من مسرح التاريخ بعد أن بدأ إنتاج الفيلم الغنائي يتراجع وينسحب من المشهدين المصري واللبناني، إذ يرجح بعضهم أن السبب كامن في الهشاشة التي باتت تطبع الإنتاج السينمائي العربي وعدم قدرته على مواصلة إنتاج هذا النمط الذي يتطلب موازنة كبيرة لإخراجه، لا سيما أن هذه الأفلام تفرض وقتاً طويلاً في تأليف الأغاني وحفظها من طرف الممثلين وجعلها تتماهى مع طبيعة الصور السينمائية للفيلم.

سينما رومانسية

وذهب فريق آخر إلى أن هذه الأزمة اتخذت بعداً أيديولوجياً بعد أن بدأت السياسة تلوح في الأفق العربي وأصبح الرهان على مفاهيم تتعلق بالوحدة والعروبة واليسار، فكان الرهان حول إنتاج أفلام اجتماعية ذات طابع سياسي يخدم أجندات السلطة وأنماط تفكيرها، مما جعل بعض البلدان تتجه إلى نظام تحديث سياسي همشت معه مختلف الفنون على مستوى الدعم، فكان لزاماً على المخرج الاعتماد على قدراته المادية الخاصة من أجل إنتاج فيلم غنائي، في وقت لم تظهر سياسات الدعم الأجنبي للسينما العربية.

أما الجهة الثالثة ذات الصلة بالنقاد والباحثين فترى أن الأزمة بنيوية وعميقة، ويفسرونها عادة في كونها ارتبطت بسياق تاريخي تمثل في تيار الرومانسية الذي كان يفرض هذا النوع من الأفلام بين الثلاثينيات والخمسينيات، فظهرت كثير من الأفلام مثل "أنشودة الفؤاد"(1932) للإيطالي لماريو فولبي و"الوردة البيضاء"(1933) للمخرج المصري محمد كريم الذي لعب دوره الموسيقار محمد عبدالوهاب كأهم الأفلام المصرية التي شجعت هذا النوع السينمائي وأسهمت في تكريس بعض الأصوات مثل أم كلثوم وفريد الأطرش وأسمهان وليلى مراد وعبد الحليم حافظ وغيرهم، فهذه الحقبة الرومانسية ظلت توجه الحركة الغنائية الواعدة وتدفعها صوب سحر الصورة السينمائية بحكم أن معظم الأغاني كانت تغنى آنذاك داخل المسارح الغنائية أو عبر أثير الراديو، مما جعل انتشارها محتشماً مقارنة بنجوم السينما الذين اخترقوا المشهد الفني العربي منه والعالمي.

السبعينيات والبعد السياسي

وشكل المسرح الغنائي دافعاً قوياً لهذه الأفلام على مستوى الأداء، إذ إن الممثلين لم يكونوا يجدون صعوبة بالغة في غناء بعض المقاطع أو أداء مشاهدها البصرية، ويقول الناقد السوري علي سفر إن "الأفلام الغنائية بنيت أصلاً على وجود مطربين أفذاذ يكفي أن يكونوا أبطالاً في أية حكاية ليمسكوا بعقل الجمهور ومحبته، وتبعاً لهذا لا يمكن بناء موقف نقدي عميق جداً تجاه تجاربهم كممثلين، ولا حتى رؤى نقدية تجاه هذه الأفلام طالما أنها أدت ما هو مطلوب منها، فهي ليست درامية اجتماعية ولا تجريبية، بل حدوتة بسيطة يستطيع من خلالها أن يغني المطرب النجم أغنية تخدم السياق الدرامي".

لكن الهاجس السياسي الذي برز في مصر بعد ثورة يوليو (تموز) لعام 1952 أثر في توجه المؤسسات بعد أن أصبح ينصب حصراً على الفيلم الاجتماعي كنوع من محاكاة الواقع، فهذا الأخير غدا يفرض مواضيعه السياسية وأساليبه الفيلمية ومعالجته الفنية بما جعل الصورة السينمائية نتاج واقع اجتماعي بالدرجة الأولى، فكان هذا التوجه بمثابة مختبر باكر لميلاد الواقعية في السينما المصرية، ولهذا فإن مفهوم "السينما الغنائية" الذي لقي احتفاء كبيراً في مصر لا يعود لمنطلقات معرفية فكرت في هذا النمط كمفهوم فكري، بل تم ذلك بشكل تلقائي بعد النجاح الذي عرفه الطرب العربي الحديث، كما أن ارتفاع حدة التنافس بين الغناء والسينما على عرش الجماهير المصرية أسهم في التحام الغناء والموسيقى بالمسرح والسينما وجعلاهما يكونان نمطاً جديداً سمي بـ "السينما الغنائية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبات مستحيلاً خلال خمسينيات القرن الماضي نجاح أغنية مصرية من دون أن تعبر الصورة السينمائية، وبهذه الطريقة غدت صناعة أغاني الأفلام رائجة داخل السينما المصرية.

ويقول الكاتب محمد جابر "في مصر يتوقف الفيلم حرفياً أثناء الأغنية، وحذفها لن يؤثر شيئاً في مسار أحداثه، والاستثناء نادر جداً، وربما تجربة يوسف شاهين مع فريد الأطرش وشادية في "أنت حبيبي"(1957) واستخدام الأغاني درامياً وأيضاً في "شيء من الخوف"(1969) لحسين كمال مع شادية خلاف ذلك، إذ تعاملت الغالبية الساحقة من الأفلام مع الأغنية بنظام المسرح نفسه، أي الغناء بين الفصول الدرامية".

وهذا النمط نفسه نعثر عليه داخل السينما الهندية القديمة والحديثة والمعاصرة، ولا شك في أن كثيراً من الـ "فيلموغرافيا" الغنائية المصرية تأثرت بنظيرتها الهندية التي كانت منذ بدايتها تعيش نهضة أسطورية، وذلك لأن نظام الفواصل الغنائية التي تتحكم فيها بعض الأحداث الدرامية جعلت بعضها ساذجاً في الانتقال من مشهد حزين إلى آخر، وهذا التأثير سنلاحظه بدرجة كبيرة في فيلم "صعيدي في الجامعة الأميركية" 1998 للمصري سعيد حامد، بخاصة على مستوى الرقصات.

سينما غنائية تجارية

بعد سنوات طويلة يستغرب عدد من الباحثين والمخرجين تراجع السينما الغنائية داخل مصر في وقت شهدت أول فيلم ناطق غنائياً، لكن ما لا ينتبه إليه كوكبة من النقاد أن "الفيلم الغنائي" العربي سيظل مجرد ظاهرة فنية تحكمت في بروزها عوامل تاريخية، فالتيار الرومانسي راهن على هذا النمط الفيلمي وجعله شعاراً له داخل السينما العربية، لأن أفلاماً من قبيل "أنشودة الفؤاد" و"غزل البنات" (1949) لأنور وجدي و"بياع الخواتم" ليوسف شاهين يطغى عليها البعد الرومانسي الغنائي الذي يكسر من أصالة العمل السينمائي، فالرومانسية سمت كل شيء باسمه وجعلت الأغنية توجه النص السينمائي بحسب ما يقتضيه الألبوم والصورة الأيقونية للمغني أو المغنية، وذلك بطريقة تجارية تتوسل فيها الأغنية آلة الكاميرا من أجل البحث عن جمهور أكبر، ولهذا تستحيل اليوم عودة "الفيلم الغنائي" في زمن الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الإلكترونية مثل "شاهد" و"نتفليكس" و"يوتيوب" و"ديزني+"، لأن الأغاني أصبحت لها طرق أخرى في ذيوعها ولم تعد في حاجة إلى السينما، كما أن عدم الفطنة من لدن مخرجين عرب حول الأسس الفكرية التي أسهمت في اندثار الفيلم الغنائي يسهم في زيادة وارتفاع منسوب هذا التغريب.

غير أن هذا الاختفاء للفيلم الغنائي كان يضمر في طياته تحولاً كبيراً يتمثل في انسحاب سينما التجريب إلى الوراء وفسح المجال أكثر للسينما التجارية التي ستقتحم مصر ابتداء من الثمانينيات، وهي نمط فني ينفر من كل تجريب محترف ليرتكز بالأساس على صور ترفيهية يسهل استهلاكها.

ويقول الباحث الفلسطيني صالح ذباح "لا أرى أن عودتها واردة بالأشكال السابقة، لأنها ستبدو خارج الزمن وستكون عملية تكرار فاقدة الصلاحية في عصر الـ ’سوشيال ميديا‘ مع فائض الأغنيات المصورة والطفرة الإبداعية في عدد منها".

ويضيف ذباح، "التجارب العربية خلال العقدين الأخيرين نادرة التكرار، ومنها ’البوسطة‘ للبناني فيليب عرقتنجي (2005) و’سيلينا‘ للسوري حاتم علي (2009)، لذا يصعب الحديث عن سينما غنائية جماهيرية خارج مصر، والسوق المصرية رئيسة وجذابة تجارياً وفنياً وفيها التقاء عنصرين يتوفران في مصر وهما القدرات الإبداعية والإنتاجية".

ملامح جمالية

يتميز الفيلم الغنائي في قدرته على المزج بين الموسيقى والغناء داخل مشهد سينمائي، إذ تكاد تكون السينما أكثر التعبيرات البصرية استيعاباً لهذا التمازج الجمالي بين الفنون، ولهذا يبدو الغناء أكثر من يستفيد من السينما، فهو في حاجة إلى التعريف بالمطربين وأعمالهم الغنائية بعد أن جعلتهم السينما نجوماً داخلها ويروجون لأغانيهم من أجل الوصول إلى منافذ بعيدة بطريقة تجعلهم يستثمرون بشكل فعال ومربح صورتهم وأصواتهم، وإذا استثنينا الهاجس الإشهاري للسينما الغنائية، فالنقاد لا يتحدثون اليوم من الناحية الجمالية إلا عن التكتل الفني الذي حققته بين السينما والغناء والمسرح، وكيف تمازجت هذه الفنون في وحدة تركيبية مذهلة، فداخل هذه الأفلام نعثر على أجمل عيون الكليبات الغنائية التي صنعت مجد الطرب المشرقي، كما نسجل أيضاً ارتفاعاً مهولاً في منسوب الموسيقى التصويرية داخل الأفلام المصرية واللبنانية، وإن حذف منها في أحايين كثيرة التأليف اللحني وكلمات الأغنية، فتترك الموسيقى لوحدها وتتغير طريقة عزفها على آلات متعددة بحسب خصوصية المشهد السينمائي، إضافة إلى إدخال بعض تقنيات المسرح وعناصره الفنية داخل الفيلم والتأثير في بنية المشاهد السينمائية وأكسسواراتها الداخلية وطريقة أداء الممثلين وإدخال الجمهور ككومبارس ثانوي داخل بنية بعض المشاهد وتمظهراتها الخارجية".

ويشار إلى أن ثمة اختلافاً جوهرياً وكلياً بين "السينما الغنائية العربية" و"الفيلم الموسيقى الغربي"، فالأولى غنائية تتم بطريقة ميكانيكية وتسمح بدمج كليبات غنائية جاهزة وسط مشاهد سينمائية درامية من دون إحداث أي تخييل إبداعي عبر عنصر المونتاج، ولهذا تبدو بعض الأفلام المصرية وكأنها كليبات غنائية تبتعد كل البعد من السينما بسبب ضعف النص وهشاشته وعدم قدرته القبض على قصص مستلة من الواقع العربي، وذلك

خلافاً لـ "الفيلم الموسيقى الغربي" الذي اعتمدت بعض أفلامه على الأغاني، لكن إعطاء الجانب الموسيقى أهمية كبرى في إحداث ارتجاج في نظام المشاهد والتركيز على عنصر الصورة أسهما في بلورة أفلام موسيقية مذهلة تتعامل معها كسيرة ذاتية عبر استلهام قصة مغن أو مغنية أو عازف، شرط أن تبقى السينما وصورها هي من يوجه فعل الموسيقى وليس العكس، كما حدث في تاريخ السينما الغنائية بالعالم العربي، باستثناء تجربة المخرج المغربي كمال كمال في فيلميه "السمفونية المغربية"(2006) و"الصوت الخفي" (2013)، من خلال الارتكاز على النظرة الغربية في الفيلم الموسيقى عبر ابتداع قصص وحكايات موضوعها الموسيقى.

المزيد من فنون