Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الحرب الأوكرانية: هل ما زال ممكنا الانتصار أو التوصل إلى تسوية سلمية؟

نحن أمام مباراة أصبحت صفرية بشكل فاق تخيلات دارسي العلوم السياسية والعسكرية

من الواضح أن هناك تراجعاً روسياً ملحوظاً لا يتناسب مع أي توقعات في بداية الحرب، ومع ذلك، فإن الأمور أكثر تعقيداً من احتمالات نصر أوكراني قريب، وذلك بعد مرور أكثر من ستة أشهر على بدء الحرب التي ما زالت موسكو تسميها العملية العسكرية الخاصة في تناقض كبير مع إعلانها التعبئة العامة منذ قرابة شهر، وتخطيطها لاستدعاء 300 ألف جندي.

تكريس حرب الاستنزاف

أشرنا منذ أشهر طويلة، بعد تحول روسيا إلى التركيز على احتلال مواقع في شرق وجنوب أوكرانيا وبدء الدول الغربية حملتها القوية في تسليح ومساعدة أوكرانيا في ما يبدو بالأفراد والخبراء العسكريين كذلك إلى أن الحرب ستتحول إلى حرب استنزاف على نسق غير مسبوق تاريخياً، كونها لن تؤثر فقط في طرفيها روسيا وأوكرانيا، إنما أيضاً كل الدول الداعمة لكل طرف، وكذلك لأن العقوبات والحرب الاقتصادية ستستخدم بكثافة أن العالم كله سيعاني، وربما بشكل يفوق معظم أطراف الصراع، ما عدا أوكرانيا التي تعد في الواقع الطرف الذي يدفع أعلى كلفة على كل الأصعدة.

ونتذكر أن التورط الغربي الكثيف في دعم أوكرانيا بدأ بعد أن كانت موسكو توشك على السيطرة على مساحات كبيرة من شرق وجنوب البلاد بعد أن تراجعت عن خططها الأولى الغامضة حول إسقاط فولوديمير زيلنيسكي، وهي خطط كانت ستضع موسكو في موقف لا يقل صعوبة، ويبدو قريباً من مشاهد ما قبل الحرب العالمية الأولى وليس العصر الحديث إذا استثنينا ما حدث من قبل مع صدام حسين في سياق على الأقل غير متطابق مع المشهد الحالي.

والشاهد أن رهانات الاستنزاف تزداد حدتها، فالعقوبات الاقتصادية المتبادلة بين الطرفين تسبب مزيداً من التعقيد، وتفرز آثارها السريعة على موجات تضخم غير مسبوقة لم تعد تقتصر على الدول الأوروبية، أما إعلامياً فواضح أن وتيرة تبادل الحرب الدعائية قد وصلت مستويات غير مسبوقة، بحيث يندهش المرء مما يردده كل طرف أو إعلامه، ومن بينها أخيراً تناقض البيانات حول حقيقة لقاءات أميركية - روسية لمحاولة احتواء مخاطر استخدام السلاح النووي، ففي وقت نشرت فيه "وول ستريت جورنال" حدوث تواصل بين مستشار الأمن القومي جيك سوليفان ومستشار الرئيس الروسي للسياسة الخارجية يوري أوشاكوف، وكذلك نظيره الروسي نيكولاي باتروشيف سكرتير مجلس الأمن القومي للتحذير من مغبة استخدام الأسلحة النووية أو غيرها من أسلحة الدمار الشامل، نفى المتحدث الرسمي باسم الكرملين ديمتري بيسكوف صحة هذه الأخبار، ووصفها بالكاذبة مع تأكيد أن بلاده ما زالت منفتحة على المفاوضات مع أوكرانيا، وإن كانت لا توجد فرصة لهذا الآن.

جبهة خيرسون

أما المشهد العسكري فواضح فيه أنه في حال تصعيد، وما زالت جبهة خيرسون تبشر بعنف كبير، بخاصة بعد ما تردد عن أن روسيا أجلت غالبية السكان من المدينة وتلا هذا إعلانها الصريح الانسحاب حفاظاً على المدنيين الأوكرانيين وكذلك قواتها، وأنها ستعيد تنظيم قواتها في الضفة الأخرى لنهر دينبرو، وطرح هذا تساؤلاً حتى في الإعلام الغربي عما إذا كان هذا كميناً للقوات الأوكرانية التي يبدو أيضاً أنها متباطئة بعض الشيء عن خوض هذه المعركة التي تزداد خطورتها، بل أعربت صراحة عن خشيتها من كمين أو على الأقل المخاوف من قيام روسيا بنشر أعداد هائلة من الألغام.

ومن ناحية أخرى، يواصل الجانبان إصدار بيانات التقدم والتدمير الذي يحدثه لدى الطرف الآخر، وذكرت وزارة الدفاع الروسية أخيراً بيانات عدة عن أعداد القتلى من القوات الأوكرانية والأجانب في صفوفهم، كما تجدر الإشارة إلى ما ذكره رئيس الأركان الأميركي مارك ميلي من أن كلا الجانبين قد خسر أكثر من 100 ألف مقاتل، وأشارت مصادر أخرى إلى مقتل ما يزيد على 40 ألف مدني أوكراني.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي إطار تصعيد المخاوف العسكرية تحدث وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو عن أن قوات "الناتو" قد تضاعفت حشودها على الحدود الروسية بواقع مرتين ونصف المرة لتصل إلى قرابة 30 ألف مقاتل، وأنه قد جرى تشكيل مجموعات تكتيكية جديدة متعددة الجنسيات في بلغاريا والمجر ورومانيا والتشيك.

تدمير وصمود أوكرانيا

لا يمكن تجاهل أنه على رغم ضخامة وهول المشهد، فإن أوكرانيا ورئيسها زيلينسكي يبدوان متماسكين، إذ إن المشهد حافل بكثير من التفاصيل المتناقضة من ذلك، أنه في تصريحات وزير الدفاع الروسي الأخيرة ذكر أن واشنطن حذرت القيادة الأوكرانية من أي محاولات أو خطوات للتسوية، لكن ثمة تصريحات أميركية أخيراً تعطي انطباعات مغايرة لما سبق، ومن بين تفاصيل المشهد أيضاً أن حجم الدمار الذي لحق بأوكرانيا هائل، فالبيانات الأوكرانية ذاتها تشير إلى أن أكثر من أربعة ملايين ونصف مليون مواطن أوكراني بلا طاقة كهربائية، والأرقام سابقة الذكر حول الخسائر البشرية العسكرية والمدنية الأوكرانية تبدو مفزعة، وزيلينسكي نفسه حذر من أن موسكو تستعد لهجمات جديدة على البنية التحتية لبلاده، وكانت وتيرة التدمير الروسي قد تصاعدت بشكل خاص بعد تفجير القرم، بحيث يبدو المشهد الآن لو استمرت هذه الوتيرة في اتجاه تدمير وخراب للبلاد يفوق مستويات التخيل، ويثير كثيراً من التساؤلات حول إمكان مواصلة الصمود بهذا الشكل لأسابيع أو أشهر مقبلة، وعموماً جزء من مشهد الصمود أن تعلن نائبة رئيس الوزراء أولغا ستيفانيشيا عن عزم بلادها استكمال عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بحلول نهاية عام 2024 في واحدة من أسرع أو ربما أسرع عملية انضمام إلى الاتحاد تاريخياً.

وفي خطوة تعد جزءاً من مشهد الصمود أو التحدي الذي سيثبت التاريخ لاحقاً عما إذا كان بطولة وشجاعة أو تهوراً وحماقة، ما أعلنه زيلينسكي أخيراً من أنه سيفاوض خليفة فلاديمير بوتين ولن يقبل بالتفاوض مع الأخير.

الاحتمالات والفرص

نحن إذاً أمام مباراة أصبحت صفرية وبشكل فاق تخيلات دارسي العلوم السياسية والعسكرية، وربما قد يمكن القول إن هذا السيناريو كان متوقعاً منذ الحشد العسكري الروسي الذي شكك البعض في البداية أنه سيتحول إلى حرب، أو كما افترض معظم المحللين بعد ذلك أنها ستكون حرباً قصيرة ستحسمها روسيا بسرعة وتحقق أهدافها، وهو افتراض كان ما زال قائماً ربما حتى يونيو (حزيران) الماضي، وربما حتى غالبية الدول الغربية لم تكن تتصور قدرة أوكرانيا ورئيسها على هذا الصمود الذي كان وحده يؤكده ويبشر به.

ومع ذلك، لم تكن الحرب بطابع المباراة الصفرية الحادة الراهنة بهذا الشكل خلال الأشهر الأولى، فقد كانت هناك اتصالات ومحاولات للتواصل بين الجانبين كما نذكر، كان أبرز أشكالها اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية الذى استؤنف بعد توقفه أخيراً في خطوة اعتبرها البعض إيجابية من جانب موسكو، لكن من الواضح أن المشهد الآن أكثر صعوبة، فلا مجال لتراجع موسكو بعد أن ألقى رئيسها بمستقبله وهيبة بلاده بهذا الشكل الراهن، وبطبيعة تركيبته التي جعلتنا نثق منذ بدء الحشد أنه لن يتراجع، لكن الآن الموقف أصعب بالنسبة إليه، أما الغرب فقد استثمر كثيراً في دعم أوكرانيا، وستكون خسائره مضاعفه لو انتهى الأمر باستسلامها بعد مليارات الدعم الغربية الضخمة وكل العتاد الذى تسلمته، بسبب تواصل هذا التدمير المخيف.

وأخيراً، فأوكرانيا نفسها وقيادتها سيكون موقفها عبثياً أيضاً، وبشكل مؤلم في حال استسلامها بسبب خسائر البنية التحتية والبشرية، مع كل ذلك، بل وربما لكل ذلك، كلما استمرت الأوضاع بهذا المسار الراهن، فإنه يتأكد أكثر أن حلاً تفاوضياً يحفظ ماء وجه الطرفين قد يكون الأفضل للجانبين، وتجنباً لهزيمة ساحقة لأحد الطرفين بحكم هذه المباراة الصفرية القاسية، تدفعه للانتقام المستقبلي، كما علمنا التاريخ، فهل آن أوان الرشد أم ما زال مسلسل الحماقة مستمراً.

المزيد من تحلیل