Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الثروة الإبداعية للأمم" يقدم نظرة مختلفة إلى الاقتصاد البرتقالي

ليصنع البشر مستقبلهم عوض أن يضيعوا وقتهم في التنبؤ به

زها حديد ساهمت في تنمية الثروة الإبداعية العالمية (صفحة زها - فيسبوك)

دأب الساسة على النظر إلى الموارد "المادية" من غاز ونفط ومعادن، ومدى تلبية عائدها لحاجات الشعوب. وكثيراً ما شعر الناس أن "مواردهم" إما مستنزفة في خدمة الديون وفوائدها، أو تستفيد منها قلة بالغة الثراء. هذا التفكير "المادي" في الاقتصاد وتأثيره في الناس هو من صميم النظرية الكلاسيكية التي نشرها آدم سميث في كتابه الأشهر "ثروة الأمم" الذي واكب الثورة الصناعية في أوروبا ودعا فيه إلى ترك السوق لقوى العرض والطلب وليس تحكم الحكومات. وإلى اليوم ما زالت أفكاره أساس النظام الرأسمالي العالمي.

لكن الكاتب باتريك كاباندا، ذا الأصول الأوغندية كان له رأي آخر، على رغم أنه استعار العنوان الكلاسيكي في كتابه "الثروة الإبداعية للأمم: هل تستطيع الفنون أن تدفع التنمية إلى الأمام؟" وهو آخر ما ترجم الراحل شاكر عبد الحميد وصدر حديثاً عن سلسلة "عالم المعرفة" في الكويت.

استقى كاباندا أفكاره من تجربته الذاتية، كشاب أوغندي عايش الفقر والسير حافياً، ووجد في الموسيقى تعزية وملاذاً، كما أمنت له دخلاً ساعده على مواصلة دراسته. واختار لنفسه مجالين متضادين، الأول خاص بعزف ودراسة الموسيقى، والثاني خاص بالشؤون الدولية، ما أهله لأن يصبح مستشار البنك الدولي في موضوعات التنمية والثقافة. يؤكد الفيلسوف الهندي أمارتيا سِن في مقدمته القصيرة للكتاب أهمية النظر إلى التنمية من منظور إنساني، فلا نكتفي بالتوسع في الوسائل المادية وإنما نراعي إثراء حياة البشر.

عالمان متناقضان

في التمهيد والافتتاحية يشير كاباندا إلى أنه عاش بين عالمين متناقضين: عالم الموسيقى، وعالم الفقر، وكيف أن ما تعانيه الدول النامية من قائمة مشكلات طويلة ومعروفة، على رغم أنها قد تمتلك "ثروة إبداعية". ومن ثم يتبنى مفهوم "التنمية الهادفة" بدلاً من التنمية المستدامة، حيث تلعب الفنون الأدائية كالموسيقى والرقص والمسرح دوراً بارزاً. اختارها المؤلف ـ كنماذج ـ بحكم خبرته الذاتية، لكنها بالطبع قابلة للتعميم على سائر الفنون والآداب والإبداعات الإنسانية.

وعزا فشل خبراء التنمية في البلدان النامية لأنهم لا يبحثون عن "مناحٍ جديدة" مستشهداً بمثل أفريقي: "الأشياء وجدت كي تجرب". إن أول فكرة أساسية يطرحها أن الفنون والثقافة ليستا من "الرفاهيات"، بل قادرة على تحقيق مكاسب مادية وغير مادية بثلاثة طرق: أولاً توليد نشاط ثقافي مباشر كالعروض وتبادل السلع والخدمات الثقافية، ثانياً تحرير وتشجيع الخيال الإنساني (وهو ما يفيد في الابتكارات وحلول المشكلات المستعصية)، ثالثاً: غرس التضامن والتعاون داخل نسيج المجتمع، ما يضفي قوة وقيمة مضاعفة على أي جهد فردي.

وهكذا يمكن للمواد والقيم الإبداعية أن تسهم في تنويع الاقتصاد، وازدهار التجارة العالمية، خصوصاً أن الدول الفقيرة قد لا تنافس البلدان الغنية إلا بتراثها الإبداعي، وتنشيط الابتكار والإبداع، وإيجاد فرص عمل للشباب (خصوصاً الموهوبين) وإنجاز ديمقراطية ثقافية أي احترام التنوع والاختلاف. والأهم من ذلك أن الثقافة والفنون هما ما يمنحان التنمية "المعنى". إن ما يقدمه كاباندا ليس جديداً كلياً وإنما هو تكملة لمسار يُعرف بـ "الاقتصاد الإبداعي" (أو البرتقالي) الذي يهتم بإثراء الحياة والازدهار المشترك وتمكين القدرات الخاصة بكل إنسان.

الدجاجة والبيضة

يتوزع الكتاب في تسعة فصول، تحدث في أولها عن "الاقتصاد غير المستغل وغير الخاضع للقياس الدقيق حول قيمة الفنون"، وتساءل ما الذي يأتي أولاً: هل الفنون ثم التنمية أم التنمية ثم الفنون؟ على طريقة الدجاجة أم البيضة؟

ويرى أنه في البداية كان الفن هو ما أسهم في ارتقاء البشر، حتى لو لم يكن دوره ملحوظاً، واستشهد بالاستثمار الأميركي في مجال "حقوق الملكية الفكرية" الذي أضاف للاقتصاد نحو أربعمئة مليار دولار، والأمر نفسه حدث في نيجيريا وترتب عليه زيادة متوسط دخل الفرد السنوي من 1500 إلى 2688 دولاراً. كما أسهم القطاع الإبداعي في البرازيل في توظيف حوالى أحد عشر مليون شخص، ويقدر المجلس البريطاني للفنون أن كل استرليني يدفع أجراً في قطاع الفنون والثقافة، ينتج منه 2.1 جنيه في الاقتصاد العام. أخذاً في الاعتبار أن الساسة ينسون أن "الثقافة" ليست أمراً متعلقاً بالنقود بل بهوية وكرامة الناس، كما أنه يصعب أن نتحرك نحو المستقبل من دون معرفة الماضي. وكما قال ستيف جوبز: "إن التزاوج بين التكنولوجيا والفنون الحرة والإنسانيات، هو ما جعل قلب أبل يغنى".

رعاية العقول

يقول نيلسون مانديلا: "إن التعليم هو الأداة الأكثر قوة التي يمكنك أن تستخدمها في تغيير العالم"، من هذا المنطلق يأتي الفصل الثاني "الفنون في التعليم: رعاية العقول الإبداعية"، والذي يتبنى فرضية مهمة أن المعرفة كانت هي الفنون، ثم تُركت الفنون في الخلف، فباتت المدارس مجدبة وقائمة على التلقين، مع اعتقاد أن العلوم والرياضيات هي الوسائل الوحيدة لتكوين الثروات.

إن التعليم كما يقول أهل نامبيا لا بد أن "يوسع حدود الأرواح العظيمة"، وهو استثمار مباشر في "الرأسمال البشري"، ويقدم المؤلف إحصاءات دقيقة للتوظيف والعوائد المباشرة الناتجة من تعليم الفنون، إضافة إلى دورها في اندماج الأطفال مع بعضهم البعض وتبني قيم التضامن والتسامح، وتوظيف الموسيقى والمسرح من أجل التنمية، وتوعية الناس، وتشجيع المبادرات الأهلية والخاصة. أما الفصل الثالث "الفنون والإشراف الرشيد على البيئة" فيستهله بمقولة فافيو شافيز "يرسل العالم إلينا النفايات، فنرد عليه بالموسيقى". هذا المهندس البيئي والعازف رأى أطفال بلاده في باراغواي يعبثون في مكب النفايات فتطوع لتعليمهم الموسيقى، وإعادة تدوير النفايات لصنع آلات موسيقية. فالخلاصة أن الفنون تسهم بقوة في حسن إدارة البيئة والتلطيف من آثار التغير المناخي.

وفي الفصل الرابع "التجارة الدولية في الخدمات الثقافية"، يقول إن الكثير من الصناعات الآن تدار بطريقة بينية بين الدول، رأسمال مال أميركي وعمالة آسيوية وابتكارات أوروبية. في هذا السياق يستشهد بصناعة الأفلام في نيجيريا والتي نجحت على رغم الصعوبات أن تصبح ثاني أكبر مكان من حيث عدد العاملين فيها. وبطبيعة الحال يرتبط الرواج عالمياً بالقدرة على إنتاج "علامات" مميزة، في حين أن "العلامة السيئة" تخصم من رصيد الدولة واقتصادها. وما يعيب معظم الدول النامية هو ضعف حماية الملكية الفكرية وعدم محاربة القرصنة، وانعدام الاستغلال الأمثل لإرثها الإبداعي.

عصر رقمي

"فنانون بلا حدود في العصر الرقمي"، تحت هذا العنوان يأتي الفصل الخامس، حيث يستعمل أكثر من ملياري إنسان شبكات التواصل الاجتماعي، وتقدم خدمات ترفيهية متنوعة عابرة للجغرافيا، أي أن هناك سوقاً عالمية افتراضية يمكن أن تسهم فيه الدول النامية. كما تناول الفصل الصعوبات التي تواجه الفنانين في ما يتعلق بتأشيرات السفر والهجرة، ودور الإنترنت في علاج ذلك. أما الفصل السادس "السياحة الثقافية" فتطرق إلى جانب بالغ الأهمية من حركة السياحة التي تقدم قرابة ثمانية تريليونات دولار من إجمالي الناتج العالمي. ولا شك أن السياحة "الثقافية" تعزز الهوية وقيم التنوع وتحافظ على التراث وتستثمر في الرأسمال البشري.

وتحت عنوان "المسألة غير المستقرة: حول النساء في فنون الأداء" يأتي الفصل السابع حيث خصصه كاباندا لمعالجة التمييز السلبي ضد النساء، وتعزيز المشاركة الإبداعية بين الجنسين. فإحدى الإحصاءات تشير إلى أن بوليوود التي جنت نحو ثلاثة مليارات دولار عام 2011، ربح الممثلون الذكور حوالى 16 مليون دولار مقابل 1.5 للممثلات! إن مظاهر التمييز لا تتعلق فقط بالأجر وفرص العمل وإنما أيضاً بالترشيح للجوائز بما فيها الأوسكار.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ثامن الفصول "دور الفنون في الصحة النفسية والتعافي الاجتماعي والتجديد الحضري"، فعلى سبيل المثال يعتبر الاكتئاب وحده مسؤولاً عن 4.3 في المئة من العبء العالمي للأمراض. واستشهد المؤلف بالحرب العرقية العنيفة في رواندا وما خلفته من جرائم، وكيف نجح الناس في التعافي عن طريق الفنون ومن ذلك تجربة نسائية في موسيقى الطبول.

آخر الفصول "جامع البيانات الإبداعية" يستهله المؤلف بمقولة تيم هارفورد: "أحياناً ما أشعر بأن رؤية العالم من خلال عيون عالم اقتصاد، هي أمر يشبه رؤية العالم من خلال أذني الوطواط". إنه فصل عن جمع وتوافر البيانات خصوصاً في ما يتعلق بالجدل الدائر بين الفنون والتنمية. ووفقاً للبنك الدولي فإن ربع الدول الأعضاء هي من لديها قدرة وبيانات كافية لتقييم عملية التقدم وخفض الفقر والازدهار المشترك. وفي هذا الصدد يعرض إحصاءات حول صادرات السلع الإبداعية بين عامي 2002 و2011 وتشمل الحرف الفنية والتصميم وفنون الأداء والنشر والفنون البصرية والميديا.

ويطرح كاباندا تساؤلات مهمة عن متوسط ميزانيات وزارات الثقافة في الدول النامية وعدد المبادرات الإبداعية وبرامج تنشيط الفنون. وصولاً إلى خاتمة الكتاب "حول الخيال والاختيار" تحدث فيها عن قوة الفنون في صناعة المستقبل تحقيقاً للقول المأثور: "إن أفضل طريقة للتنبؤ بالمستقبل أن تصنعه بنفسك".

اقرأ المزيد

المزيد من كتب