Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

التونسي و"الخبزة"... علاقة خاصة تدركها الحكومات

الأنظمة المتعاقبة حافظت على سعر الرغيف خوفاً من غضب اجتماعي قد يزعزع الاستقرار في البلاد

لم تتجرأ الحكومات التونسية المتعاقبة على رفع الدعم عن الحبوب ومشتقاتها خوفاً من رد فعل الشارع (اندبندنت عربية)

يمثل الخبز في بعده الرمزي علامة فارقة بمختلف محطات الغضب الشعبي من السلطة في تونس، إذ ارتبط تاريخياً بعلاقة الدولة بالشعب عند ارتفاع سعره، وما ينتج منه من غضب، أو في المهادنة والمحافظة على الأسعار نفسها على رغم الزيادات المتتالية في أسعار مواد غذائية أخرى، وذلك من أجل الحفاظ على السلم الاجتماعي.

وباتت زيادة سعر الخبز هاجس كل الحكومات التي تعاقبت على تونس، منذ ثمانينيات القرن الماضي، منذ تاريخ ما عرف بأحداث الخبز التي ذهب ضحيتها عشرات التونسيين بسبب مضاعفة سعره، وانقلبت التظاهرات المنددة بذلك الإجراء إلى مسيرات مساندة للزعيم الحبيب بورقيبة الذي أعاد الأمور إلى نصابها، من خلال إعلان التراجع رسمياً عن رفع سعر الخبز.

واقع اجتماعي

يقول أستاذ علم الاجتماع في الجامعة التونسية سامي بن نصر لـ"اندبندنت عربية"، إن "بعض المواد الغذائية تتجاوز كونها مادة لتصبح ذات أبعاد رمزية، تلخص واقعاً سياسياً أو اجتماعياً لفترة ما أو لمجموعات بعينها".

ويعتبر بن نصر أن "الخبزة في الذاكرة التونسية والمخيال المجتمعي التونسي ليست مجرد مادة استهلاكية بل هي تكثيف رمزي يلخص واقعاً اجتماعياً كاملاً"، مستحضراً أحداث الخبز في الثمانينيات، "عندما ثار الشعب التونسي ضد السلطة القائمة وقتها، على رغم شعبية الزعيم الحبيب بورقيبة، والتفاف الشعب التونسي حول شخصه، إلا أنه عندما تم المساس بقوت التونسيين ثارت ثائرته بسبب رفع سعر الخبز".

ويضيف أن "التظاهرات الاحتجاجية ضد السلطة، تحولت فجأة إلى مسيرات مساندة ودعم للزعيم الحبيب بورقيبة بعد أن أعلن في خطاب إلى التونسيين التراجع عن تلك الزيادات".

وتختزل الذاكرة الشعبية التونسية جملة من الإحالات على قيمة الخبز في المعيش اليومي، فحين يعبر التونسي عن أنه يعمل ويشقى يقول "نجري وراء الخبزة"، فالخبزة غادرت دلالتها المادية كمادة استهلاكية، لتسكن في المخيال المجتمعي كونها رمزاً للحياة وللعيش وللجهد اليومي، وهو ما لا تحوزه أية مادة استهلاكية أخرى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتجدر الإشارة إلى أنه بعد أحداث الخبز أواخر سنة 1983 وبداية 1984، لم تتجرأ السلطة على إجراء أية زيادة كبيرة في سعر الخبز أو رفع الدعم عن الحبوب، على رغم الزيادة في أسعار كل المواد الأساسية الغذائية، توجساً من اندلاع احتجاجات اجتماعية في الشارع، لذلك حرص نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي، طوال أكثر من عقدين، على عدم رفع الدعم على الخبز من أجل السلم الاجتماعي.

ويرجح المتخصص في علم الاجتماع سامي بن نصر، أن "الزيادة في سعر الخبز أو الرفع النهائي للدعم قد يفجر ثورة اجتماعية، بخاصة في ظل تدهور المقدرة الشرائية للتونسيين واستفحال حال اليأس والإحباط وانسداد الآفاق في التنمية والتشغيل".

تحايل

في المقابل يؤكد الباحث في الأنثروبولوجيا الثقافية الأمين البوعزيزي أن "السلطة تحايلت على التونسي، من خلال الإبقاء على سعر الرغيف في مقابل التقليص من وزنه"، مشيراً إلى أن الخبز قديم في تاريخ تونس، إذ يعود إلى البربر والنوميديين، من خلال اكتشاف حفريات تدل على وجود ما يشبه "الطابونة"، وهي آنية من الطين كبيرة الحجم توضع بداخلها النار ويلصق على جدرانها الخبز.

ويضيف البوعزيزي لـ"اندبندنت عربية" أن "اكتشاف الحبوب في التاريخ البشري يعتبر ثورة، إذ كان الإنسان البدائي يعيش على اللحوم".

وتأكيداً على العلاقة الخاصة التي تربط التونسي بالخبز، فهو عندما يجد قطعة خبز ملقاة على الطريق يلتقطها ويقبلها ثم يضعها جانباً حتى لا تداس، وهو ما يضفي على هذه المادة نوعاً من "القداسة"، ويسميها أيضاً بـ"النعمة"، أي نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى.

ويؤكد أستاذ الأنثروبولوجيا الثقافية على "الكثافة الرمزية للخبز، وارتباطها بالسياق الاجتماعي والسياسي للتونسيين"، مشيراً إلى ما يكتنف الواقع الاجتماعي اليوم من بوادر انفجار يكون قادحه رفع الدعم عن الحبوب وزيادة سعر الخبز.

ويؤكد أن "منظومة الدعم التي تعود لعقود خلت في تونس تشوبها اليوم عديد الإخلالات، حيث الدعم لا يستهدف مستحقيه بشكل مباشر، بل تستفيد منه جهات نافذة مالياً في النزل والمطاعم الفاخرة".

الصراع على الغذاء

ملامح الوضع الراهن في تونس اجتماعياً وسياسياً، وبربطه بالسياقات الدولية وتنامي الطلب على المواد الغذائية بسبب الحرب الروسية - الأوكرانية، وفي ظل شح المياه وتراجع الإنتاج الفلاحي، تجعل من الصراع على الغذاء من أجل البقاء حقيقة لا يتنازع حولها اثنان.

ويعتقد الأمين البوعزيزي أن "فكرة رفع الدعم عن الحبوب في تونس التي لم يتجرأ عليها الرئيس السابق زين العابدين بن علي، على رغم سطوة الدولة، قد تجد سبيلاً إلى تنفيذها في السياق السياسي الراهن، في مقابل مزيد من إغراق البلاد في الديون الخارجية".

ويضيف البوعزيزي أن "المشهد السياسي اليوم يترقب يقظة الشارع الاجتماعي من أجل أحداث تغيير جذري في الساحة السياسية".

المزيد من تقارير