Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عودة لولا!

تأتي في لحظة حرجة من تشكل عالم جديد ولهذا استقبل بحفاوة

سيرة لولا توضح أنه شخصية مفارقة (أ ب)

كان ثمة لازمة لحسني البورظان الصحافي غريم غوار الطوشي في المسلسل السوري "صح النوم"، إذ يقول فيها "إذا أردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا، يجب أن نعرف ماذا في البرازيل"، والعكس صحيح. ويبدو أن "لازمة البورظان" هذه تعبر ككوميديا سوداء عن عالم اليوم. ومن تابع فوز اليسار في الانتخابات البرازيلية الأخيرة، لا بد أنه خطر في باله فوز اليمين المتطرف في الانتخابات الإيطالية التي أجريت قبلها بفترة قصيرة. وفي البلدين نتائج الانتخابات تؤكد الانقسام الحاد في العالم، إذ إن الانتخابات في إيطاليا والبرازيل، ثم في الدولة اليهودية حيث عودة بنيامين نتنياهو المجلل بالتطرف اليميني والفساد، مجرد نسخ لنتائج الانتخابات الأميركية التي أكدت الانقسام، فلم يكن ثمة فارق يذكر في عدد الناخبين بين جو بايدن ودونالد ترمب، وهو ما ظلل الولايات المتحدة الأميركية حتى الساعة.

يقول المتصوف الكندي إريك باريه الذي عاش في كشمير "نحتاج إلى الكوارث كي نستيقظ".

ولا شك في أن هذا الانقسام مما دعا لويس إيناسيو لولا دا سيلفا في كلمته بعد إعلان فوزه، إلى التأكيد أنه "ليس من مصلحة أحد أن نعيش في أمة مقسمة، في حال حرب دائمة". إذا كان هذا الانقسام المجتمعي السياسي الحاد الملمح الرئيس لنتائج الانتخابات البرازيلية، فإن ثمة ملمحاً بارزاً آخر يبينه الترحيب السريع الذي لقيه نجاح لولا، من زعماء العالم لدول كأميركا وكوبا وفرنسا والمكسيك وكندا. فهذه الدول المتباينة في مواقفها السياسية تتخذ موقفاً موحداً وتظهر مجمعة على اعتبار عودة لولا مكسباً. ما يظهر متغيراً مهما طرأ على العالم، هو أن رئيساً أميركياً يدعم فوز اليسار في البلد الأكبر بالقارة التي كانت تعتبر الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، التي كانت في حرب صليبية ضد اليسار!

هذا المتغير في العالم، أذكر أنني رصدته حين كنا آخر الليل في مارس (آذار) 2011 في ساحة المحكمة ببنغازي، في انتظار صدور قرار مجلس الأمن 1973 لحماية المدنيين في ليبيا. ففيما كانت الساحة تغص بالبشر والأعلام الأميركية، اتكأ علي أخي مبدياً استغرابه من أن الليبيين حشدوا خلال العقود الأربعة الماضية ضد أميركا، وها هم يرفعون علمها كما يرفعون علم الاستقلال. فعلقت بالقول "بل يقوم خياط في الساحة بتجهيز هذه الأعلام، لتحملها حشود كثيراً ما حشدت قبلاً ضد العدو الأول أميركا".

لقد تم ذلك منذ أكثر من عقد، وخلال هذه السنوات القليلة حدث انقسام نوعي ولكن جديد أيضاً، وحدثت اصطفافات مختلفة، فعودة لولا ليست نجاحاً لليسار في البرازيل، بل علامة دامغة على التغيير الذي يعيد تشكيل العالم في مناح عدة، لكن هذا التشكل في طوره الأول.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إضافة إلى ذلك فإن الانتخابات لم تعد حسماً سياسياً لقوة ما، بقدر ما هي رسم بياني من خلاله نتبين حدة الانقسام المجتمعي، والتكافؤ بين القوى المتصارعة، بحيث أن الانتخابات تزيد الوضع السياسي تشتتاً وتعقيداً. ففي البرازيل مثلاً فاز لولا بالرئاسة، لكن اليمين بما في ذلك المتطرف هيمن على المجلس التشريعي، وعلى قيادة مدن مهمة في البلاد. وبهذا، فإن الفوز في الانتخابات تم تقاسمه. وما حصل في البرازيل، قد يحصل في الولايات المتحدة في الانتخابات النصفية في الثامن من نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، فيحدث لبايدن ما حدث لإيمانويل ماكرون الذي تطوقه المعارضة. وهكذا فإن الانتخابات مرآة عاكسة لواقع مجتمعي سياسي مرتبك وفي طور التغير.

لولا صاحب نهج، ينبئ بهذا الطور الأول في تغيير العالم. فمثلاً اليسار الذي يمثله هو غير يسار تشي جيفارا بدرجة حادة، في الزمن الذي أصبح فيه برنامج الحزب الشيوعي الأكبر في العالم (الصين) ذا نهج رأسمالي. وكان لولا في هذا الزمن قد نجح في قيادة البرازيل، وفي بعث نهضتها المميزة، خلال فترتين من رئاسته للدولة، ثم مر عقب ذلك بمحنة الاتهام بالفساد فالسجن فإطلاق سراحه، كالعنقاء عاد للمشاركة في الانتخابات والفوز بها. لعل هذا ما يمكن أن يبرر قول جون فرينش، أستاذ التاريخ في جامعة ديوك في الولايات المتحدة ومؤلف سيرة الرئيس البرازيلي "لولا ظاهرة سياسية وانتخابية مثيرة، ينبغي أن يدرسها العالم ويهتم بها اهتماماً بالغاً".

عودة لولا تأتي في لحظة حرجة من تشكل عالم جديد، ولهذا استقبل بحفاوة، لكن كما وضحنا فإن فوزه أظهر انقسام بلاده والعالم. سيرة لولا توضح أنه شخصية مفارقة، فالصبي ماسح الأحذية أصبح رئيس الدولة الأكبر في أميركا اللاتينية لدورتين، هو من حقق نهضتها التي لا مثيل لها، تجيء عودته للرئاسة مفارقة أخرى، فكأنه العنقاء. ومن هذه الملابسات التي أحاطت بشخصيته، فعودته الحالية، يكون كعلامة كاشفة للتغيير الذي تنبئ به الأحداث الجارية.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل