Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المندائيون في البصرة... قريبون من الماء بعيدون من السلطة

يقترب أتباع هذه الديانة عقائدياً من المسلمين في كثيرٍ من المسائل ويملكون لغة خاصة بهم لكنها قليلة الاستخدام

يعتقد بعض المتخصّصين في تاريخ الأديان أن ديانة الصابئة المندائيين نشأت جنوب العراق، والبعض الآخر يذهب إلى أنها ظهرت في فلسطين. والمؤكد أنها أقدم ديانةٍ موحدة في تاريخ البشرية. في البصرة وذي قار وميسان لا يزال مئات المندائيين يعيشون ويتعايشون مع المسلمين بوئامٍ وانسجام.

ديانة غير تبشيرية

يؤمن المندائيون بوحدانية الله، ولهم من الأنبياء آدم وشيت ونوح وسام بن نوح ويحيى بن زكريا، كما يؤمنون بالنبي إبراهيم الذي عاش في مدينة أور السومرية. وقد تأثرت ديانتهم بطقوسٍ وتعاليم دينية موروثة من حضارات رافدينية غابرة، كالسومرية والأكدية والبابلية.

يقترب المندائيون عقائدياً من المسلمين في كثيرٍ من المسائل الدينية، ويبرز التشابه بوضوح في التعاليم الدينية ذات الطابع الأخلاقي، فهم يحرّمون الزنا والربا والسرقة وخيانة الأمانة والكذب وشهادة الزور والسحر والفتنة والغيبة والنميمة. أما الاختلافات فهي أيضاً كثيرة، منها تحريمهم الختان، وكذلك القتال إلا دفاعاً عن النفس عند الضرورة. كما أن الديانة المندائية ليست تبشيرية، فأبوابها موصدة في وجه الراغبين في اعتناقها، ومن المحرّمات القطعية عندهم الزواج من أتباع الأديان الأخرى.

لغةٌ طقسية

لكل مندائيٍ اسمه الديني الخاص الذي ينادى به من قبل أفراد عائلته، وهو يختلف عن الاسم التقليدي الرسمي المدوّن في الوثائق. وتُعد العربية اللغة الأم للمندائيين المعاصرين، ولا تميزهم لهجاتهم أو ملامحهم الشكلية عن المسلمين في جنوب العراق، وما لم يعلن المندائي عن ديانته يمكن الاستدلال عليها من لقبه. إذ ينتسب المندائيون إلى عدد من الأسر الكبيرة، منها السبتية والخميسية والزهيرية، وهي لا تختلفُ كثيراً في أعرافها وتقاليدها عن العشائر العربية في جنوب العراق.

إلى جانب اللغة العربية للمندائيين لغتهم الخاصة، وهي لغةٌ قديمةٌ ولدت من رحم اللغة الآرامية، ولا يتقن اللغة المندائية في الحاضر إلا القليل من المندائيين، وينحصر استخدامها في تعاملاتهم العائلية داخل بيوتهم، وخلال إحياء الطقوس الدينية. إذ إنها لغة طقسية بالدرجة الأولى، بها وضعت كتبهم الدينية، بما فيها كتابهم المقدس الأسمى "الكنزا ربا"، أي "الكنز العظيم".

أعياد دينية

للصابئة المندائيين أربعة أعياد سنوية أساسية، أولها العيد الكبير الذي يوافق رأس السنة المندائية، وفيه يعتكفون في بيوتهم 36 ساعة، عليهم خلالها أن لا يخلدوا إلى النوم، ولا يلمسوا نباتاً أو حيواناً. والثاني هو عيد التعميد الذهبي الذي يتضمن تحضير "طعام الغفران" ترحماً واستذكاراً لموتاهم. وثالثها عيد الخليقة الذي يستمر خمسة أيام، وهي أيامٌ مباركةٌ يعتقدون أن خلالها تصلّبت الأرض، وانشقّت الأنهار، وانبثقت الحياة بإرادة إلهية، وآخرها عيد الازدهار الذي يمثل اليوم الذي احتفلت فيه ملائكة الحق والعدل بانتصارها على شياطين الظلام، وطردتها من الأرض إلى عوالم أخرى، وكجزءٍ من طقوس هذا العيد يتناول المندائيون الرز واللبن الرائب. إذ يرمز اللبن إلى البياض الناصع، بينما يُعد الرز من النباتات المقدسة، وهو أول نباتٍ ظهر على الأرض وفقاً للعقيدة المندائية.

المندائيون في البصرة اعتادوا منذ أعوام على حجب مظاهر الفرح والابتهاج خلال أعيادهم الأربعة إذا تزامنت مع مناسباتٍ دينية حزينة تخصّ المسلمين، الذين يشكلون الغالبية العظمى من السكان. كما يبادر رجال الدين المندائيون خلال شهر محرم من كل عام إلى إقامة موكب لتقديم الطعام مجاناً إلى المسلمين المشاركين في إحياء مراسم ذكرى عاشوراء. وبحسب مدير المركز العراقي للحوار والتعايش المشترك الشيخ عباس الفضلي فإن "المندائيين عندما يلغون احتفالاً أو يشاركون بطريقةٍ أو أخرى في مناسبةٍ دينيةٍ خاصة بالمسلمين فإن أحداً لم يضغط عليهم أو حتى يطلب منهم ذلك"، معتبراً أن "مثل مواقف ومبادرات كهذه تعبر عن حالة التعايش السلمي".

قريبون من الماء

يكتسب الماء عند الصابئة المندائيين أهميةً دينية قصوى، فهو منبع الحياة على الأرض، وسبيلهم إلى تحقيق طهارة الجسد والروح. وهذا يفسر استقرارهم التاريخي قرب الأهوار وضفاف الأنهار. كما أن أكثر طقوسهم لا تكتمل من دون التغطيس (الاصطباغ) بالماء، ويشترط أن يكون الماء غير راكد.

يوجد حوض مياهٍ للطقوس الدينية داخل المعبد "المنديّ" الوحيد للصابئة المندائيين في البصرة، وهو مجهزٌ بمضخةٍ صغيرة تتولّى تحريك المياه. ومع ذلك، يفضّل رجال الدين دائماً الاصطباغ بمياه الأنهار، إلا أن النهر القريب من معبدهم تحوّل بسبب تراكم الإهمال إلى مجرى للمياه القذرة، ولم تكن لديهم قطعة أرض شاطئية تمنح عوائلهم الخصوصية عند إقامة طقوس الاصطباغ على ضفاف شط العرب. لكن بعد أعوام من المطالبات والإجراءات ظفروا قبل ثلاثة أعوام بقطعة أرضٍ حصلوا عليها من الحكومة مقابل ثمنٍ زهيد، لكنها أرض غير مسيّجة، ولا يؤدي إليها طريق مبلّط.

بعيدون من السلطة

في غضون الأعوام القليلة الماضية تكرّرت مطالبات المندائيين في البصرة بإفساح المجال أمامهم للمشاركة في السلطة. وقال الزعيم الديني للصابئة المندائيين في البصرة الشيخ مازن نايف لـ "اندبندنت عربية" إن "المندائيين ليس منهم أي مسؤولٍ محلّي، في حين أن الأخوة من المكوّن المسيحيّ أقل عدداً منا، ولديهم مقعد (كوتا) في مجلس المحافظة الذي يمثل أعلى سلطة تشريعية ورقابية في البصرة، ولذلك نطالب بإنصافنا عبر منحنا مقعداً اعتباراً من الانتخابات المزمع إجراؤها خلال العام المقبل".

وأشار نايف إلى أن "المندائيين منهم أصحاب كفاءات وحملة شهادات عليا في اختصاصات عديدة، لكن أيّ مندائيٍ لم يشغل منصب وزير، لا في العهد الملكي، ولا خلال العهد الجمهوري، وقد استبشرنا خيراً بعد عام 2003، لكن خاب ظننا، وبدأنا نشعر بإحباط شديد".

مهنة مندائية

لغاية عام 2003 كان غالبية أصحاب محال تجارة المجوهرات وصياغة الذهب والفضة في البصرة من الصابئة المندائيين، وهي مهنةٌ برعوا فيها على مدى عشرات السنوات، إلا أن نسبة مشاركتهم الحالية في سوق تجارة الذهب ضئيلة جداً. إذ تخلى العشرات عن محالهم وأنشطتهم التجارية بسبب هجرتهم.

ويلفت المنسّق الإعلامي للصابئة المندائيين في البصرة لؤي الخميسي إلى سببٍ آخر بقوله إن "مهنة الصياغة انحسرت في العراق بسبب تفضيل المستهلكين مصوغات ذهبية جاهزة تصنعها شركات أجنبية، وبذلك استمرت تجارة الذهب، لكن تراجعت مهنة الصياغة"، مؤكداً أن "الهجرة هي السبب الحاسم في تخلّي المندائيين عن مهنتهم القديمة".

تضحية بالنفس

ذات يوم من عام 2017 نشب حريق بسبب تماسٍ كهربائيٍ في دار تقع في منطقة الجمهورية، وتمكّن أفراد العائلة من إخلاء الدار باستثناء طفل حاصرته النيران في إحدى الغرف، وكانت صرخات الطفل تطحن قلوب ذويه والجيران المحتشدين خارج الدار، وكانت مهمة إنقاذه تنطوي على مجازفةٍ خطيرة، إلا أن المواطن المندائي ناجي جمعة الخميسي البالغ من العمر 50 سنة ارتأى المجازفة بحياته لإنقاذ ابن جاره المسلم، فاقتحم الدار ونجح في إخراج الطفل.

الطفل عاد إلى أحضان أمه سالماً، لكن الخميسي عانى من حروقٍ شديدة نقل إثرها إلى المستشفى وهو في حالةٍ حرجة. وبعد رقوده في المستشفى بأيام قليلة لفظ أنفاسه الأخيرة. لكن ذكراه كرجلٍ شجاع ظلّت راسخة في أذهان كثير من البصريين، وصارت الحادثة محل فخر واعتزاز يتباهى بها المندائيون، وهي تعبر بوضوحٍ عن عمق الاندماج والتعايش بين مكوّنات المجتمع البصري.

المزيد من تحقيقات ومطولات