Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شيو تسي شن يسرد تفاصيل مئة عام من تاريخ الصين

"رحلة إلى الشمال" من مقاومة الغزاة إلى الإصلاح والانفتاح

منظر من شمال الصين (بيت الحكمة)

تنتهي أحداث رواية "رحلة إلى الشمال" للكاتب شيو تسي شن (ترجمة وتقديم يحيى مختار، منشورات ضفاف، منشورات الاختلاف، بيت الحكمة)، بخبر قبول طلب إدراج قناة بكين – هانغشتو ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي، في يونيو (حزيران) 2014، وتعليق السارد الرئيس عليه "هذه القناة التي تجري أمامي هي نقطة تحول بين الحياة والموت، وفرصة يجب علينا من خلالها التفكير والتدبر بشكل أكثر فاعلية وواقعية في إعادة إحيائها. فلو عادت هذه القناة لتنبض بالحياة من جديد سيصبح بإمكان تلك الحقبة التاريخية أن تأتي سابحة عكس التيار لتظهر أمامنا بكامل هيئتها، ويعود الأمل في رؤية ملامح أسلافنا الذين عاشوا يبحرون فوقها، بشكل أكثر وضوحاً" صـ 637. هذه الرواية حصلت عام 2018 على جائزة "ماودون" في الأدب، وهي أرفع الجوائز الأدبية في الصين. وهي العمل الخامس الذي يترجم إلى العربية للكاتب شيو تسي شن بعد الثلاثية الروائية "بكين بكين"، و"يا بكين"، و"لقاء في بكين"، وقصة قصيرة بعنوان "أمير المغرب"، وهو يستهلها بقول منسوب إلى الكاتب الإيطالي إدواردو غاليانو "لا يزال وقع صوت الماضي يدوي في حاضرنا"، مما يعكس حنيناً إلى حقب زمنية رسمت الملامح الثقافية المميزة لهذا البلد العريق.

تحكي الرواية بشكل أساسي قصة رحلة شاب إيطالي، كان قد أبحر مع عدد من مرافقيه الصينيين على طول قناة بكين – هانغشتو من بدايتها في الجنوب إلى نهايتها في الشمال، بحثاً عن شقيقه المفقود. وتمتد تفاصيل الرواية لتحكي عن أحفاد شقيق هذا الشاب الإيطالي وأحفاد مرافقيه الذين جمعتهم الصدفة بعد أكثر من مئة عام، ليجد القارئ أنه بصدد سبع قصص مختلفة ومترابطة في الوقت نفسه.

ازدهار واضطرابات

وتسرد الرواية من خلال تلك الرحلة ملامح الازدهار الذي جلبته تلك القناة لمدن عدة، ومظاهر الاضطرابات التي تلت دخول قوات التحالف الثماني إلى بكين، وتحالف بلاط تشينغ مع "عصبة الملاكمين" ثم الانقلاب عليهم والتحالف مع قوات العدو، وحرب المقاومة ضد العدوان الياباني، والثورة الثقافية وحركة الإصلاح والانفتاح. الرواية مقسمة إلى جزأين، وخاتمة، في الجزء الأول، تبدأ القصة في أواخر عهد أسرة تشينغ الإمبراطورية، تحديداً في عام 1901، حيث كانت الصين تعج بالاضطرابات، وترزح تحت وطأة الغزو الأجنبي وانهيار الأسرة الحاكمة. في هذا الجزء نتعرف إلى "فيديل دي ماركو"، الذي كان مغرماً بالأنهار والقنوات المائية بسبب نشأته في مدينة البندقية. يسمع عن مغامرات الرحالة الشهير ماركو بولو ورحلته إلى الصين، ويقرأ عن قناة مائية صينية عمرها 2500 سنة، وطولها يزيد على الألف كيلومتر، فيقرر السفر إلى الصين لخوض مغامرته الخاصة. ولأجل هذا الغرض التحق بفرقة الجيش الإيطالي التابعة لتحالف دول الثماني الذي غزا الصين. بعد وصوله، ينفر من الحرب، ويشعر بالذنب حيال الجرائم التي اقترفتها قوات التحالف. يتزوج من فتاة صينية ويطلق على نفسه اسماً صينياً هو "ما فو دا". وعندما تنقطع أخباره عن أهله في إيطاليا، يقرر أخوه الأكبر "باولو دي ماركو" السفر إلى الصين ليبحث عنه بطول القناة في رحلة من الجنوب إلى الشمال، من دون أن يخبر مرافقيه بالغرض الحقيقي لقدومه إلى الصين. يطلق على نفسه اسم "ماركو بولو الصغير"، لكن الوقت لم يسعفه للوصول إلى نهاية القناة، فقد مات في العام نفسه الذي صدر فيه قرار تعليق أنشطتها. مات على أيدي قراصنة صينيين يكرهون الأجانب. وقبل وفاته أهدى مرافقيه الأشياء الثمينة التي كانت بحوزته. وهنا تحديداً يتعمد الكاتب إعداد مسار التشويق الذي مهد به الطريق لبقية أجزاء الرواية، حيث ستصبح هذه الهدايا أساس المهن التي سيمارسها أحفاد هؤلاء المرافقين الذين ستجمعهم مصادفات وأحداث متعلقة بالقناة بعد مئة عام.  

ملحمة سردية

وبحسب تقديم المترجم يحيى مختار فإننا بصدد "ملحمة سردية نصف تاريخية نصف واقعية، تدور أحداثها على مدى نحو قرن، يجول بنا فيها الكاتب بين أروقة التاريخ ومضمار الحاضر، متنقلاً بين الأزمنة بطريقة مبتكرة، ليحكي من منظور تاريخي قصة أجيال جمعتهم صدفة في الماضي المضطرب، ثم عادت الصدفة لتجمع أحفاد هذه الأجيال في واقع اليوم المستقر، بترتيب متقن وحبكة مذهلة". ويضيف مختار، الذي نقل الرواية من الصينية إلى العربية "هي قصة بحث عن الشغف، وعن الأخوة، وعن الصداقة، وعن الحب، وعن المصير والهوية، وعن الحياة. هي عن القناة الأطول والأقدم في العالم، وهي قناة بكين – هانغشتو التي عملت كقناة للنقل في الصين لأكثر من 1200 عام. وليست القصص داخل هذه الرواية ذات الطابع الملحمي (جاءت ترجمتها في نحو 600 صفحة من القطع فوق المتوسط)، سوى جزء يسير من القصص المرتبطة بهذا الشريان الحيوي باعتباره وعاءً لتراث ثقافي ممتد".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وقد قام المؤلف بنسج خيالي استناداً إلى كم هائل من البيانات التاريخية الواقعية، في ظل خلفيتين زمنيتين مختلفتين، وهما أوائل القرن العشرين (1901 – 1934) وأوائل القرن الحادي والعشرين (2012 – 2014) في محاولة للسفر عبر الزمان والمكان وسبر أغوار التاريخ في رحلة تزيد مدتها على المئة عام. في عام 1901 أجبرت الصين على توقيع معاهدة مع القوى الإمبريالية، فتحولت إلى مجتمع شبه استعماري، وهو العام نفسه الذي أصدر فيه الإمبراطور قوانغشي أمراً بإلغاء النقل المائي عبر القناة، ولهذا جعل الكاتب -كما يقول المترجم- ذلك العام هو الوقت المحوري للسرد النصي التاريخي. وفي يونيو 2014 تم إدراج قناة بكين هانغشتو الكبرى على قائمة التراث العالمي لليونسكو. ولهذا كان هذا العام هو محور الأحداث الواقعية الأخيرة للرواية. ومن خلال قصة اندثار القناة وإعادة إحيائها، يسلط الكاتب الضوء على التغيرات التاريخية والثقافية لتحول الصين من إمبراطورية قديمة إلى دولة حديثة، من خلال مجموعة قصص لعدة أجيال من العائلات المرتبطة بالقناة خلال مئة عام.  

نوعان من السفر

عنوان الرواية، هو مصطلح متأصل في الثقافة الصينية، فهناك نوعان من السفر والترحال لدى الصينيين، أحدهما هو السفر جنوباً، وهو التوجه النموذجي أو الأصلي في تلك الثقافة، منذ عهد أسرتي "وي" و"جين"، حيث ظل الجنوب مكاناً للازدهار والاستقرار. والآخر هو السفر شمالاً وهو قليل ونادر أو اضطراري. هذان النوعان من التواصل والتفاعل كانا عاملاً مهماً في تشكل الثقافة الصينية، حيث تمتزج اللغة والعادات والسياسة والاقتصاد والتاريخ، ويعاد تشكيلها، فالقناة بما تحويه من مشاهد وقصص ليست سوى صورة طبق الأصل من تاريخ الصين وتحولاته، لذا فالسفر شمالاً على طول القناة بمثابة مسار عكسي لتتبع ماضي هذا البلد ومستقبله، بحسب ما ورد في تقديم المترجم. بوصفه أجنبياً غريباً عن القناة كان بإمكان ماركو بولو الصغير إدراك الأهمية التاريخية لهذا الشريان المائي الحيوي، فمن خلال عيونه صورت الرواية بدقة طبيعة الحياة على طول القناة، وبدا واضحاً أن الكاتب لم يستخدم الكتابة عن القناة كدافع لإنجاز هذه الرواية، ولكنه حاول من خلال الكتابة إعادة القراء إلى تلك الحقبة المضطربة.

طابع أيديولوجي

ومن هنا سيلاحظ القارئ أن الرواية لا تخلو من طابع أيديولوجي عميق، لجهة استعراضها العلاقة الوثيقة بين القناة ومصير الصين، والتفاعل بين تاريخها القديم والحديث. فهي تستعرض ضمنياً تاريخ توقف النقل المائي عبر القناة عشية انهيار الإمبراطورية، بحيث يمكننا -كما يقول المترجم- سماع صوت التاريخ وأحداثه المفصلية. فالأحداث التاريخية هنا ليست مفهوماً مجرداً فارغاً، بل هي خلفية لتطور الشخصيات ومصائرها. وهو ما يجعلنا نستشعر تحول التاريخ من أصوات وكلمات خافتة إلى مشاعر مباشرة خاصة بالشخصيات. الرواية لا تخلو أيضاً من الحديث عن صورة الآخر والاغتراب الثقافي المتأصل بين الشرق والغرب، فبالنسبة إلى الصيني "شيه بينغياو" الذي كان يعمل مترجماً حكومياً وكان على اتصال دائم بالأجانب، اكتشف التناقض في شخصية الإيطالي "باولو دي ماركو"، فهو لديه فضول في شأن الصين، ولديه أيضاً شعور بالغطرسة والتفوق الأوروبي. وهكذا رأينا الصين من خلال ماركو بولو الصغير، ورأيناها أيضاً من خلال الصيني المثقف "شيه بينغياو".

وأخيراً فإن مؤلف هذا العمل له رواية عنوانها "القدس"، صنفت ضمن أفضل عشر روايات صينية لعام 2014، من قبل مجلة "آسيا ويكلي" التي تصدر من هونغ كونغ. وحازت الرواية نفسها على جائزة "لاوشه" للأدب في دورتها الخامسة. وترجمت بعض أعمال شيو تسي شن المولود في عام 1978 إلى أكثر من عشر لغات، منها الألمانية والإنجليزية واليابانية والكورية والإسبانية والفارسية والعربية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة