Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"ليست كل طاعة فضيلة" تجربة في رفض سياسات الإذلال

هبة شريف تدعو إلى الدمج بين النقد الثقافي والأدبي

لوحة للرسام جورج بازيليتس (صفحة الرسام - فيسبوك) 

أتاحت مناهج النقد الثقافي الفرصة أمام النقاد العرب لمقاربة موضوعات ظلت طويلاً خارج المقاربات التقليدية، ومن بين أبرز تلك الموضوعات بقي موضوع القانون وتجلياته في أشكال التعبير الفني والأدبي خارج فضاءات القراءة والتأويل. من هنا تكتسب محاولة الناقدة المصرية هبة شريف قيمة استثنائية في هذا السياق، إذ سعت في كتابها الجديد "ليست كل طاعة فضيلة" (دار العربي للنشر 2022) إلى معالجة موقع القانون في حياتنا اليومية وكيف يتم التعبير عن مكانته داخل مجتمعاتنا، وإلى أي مدى يمكن النظر إليه كمعبر محايد عن فكرة العدالة ذاتها. ويعطي الكتاب نظرة نقدية حول المفهوم الأخلاقي للقانون وسبل استعماله ما بين فكرة تنظيم المجتمع وفكرة السيطرة عليه. هبة شريف أستاذة الأدب الألماني في جامعة القاهرة سابقاً، والمديرة السابقة للمؤسسة الثقافية السويسرية في القاهرة، هي مترجمة للعديد من الأعمال الأدبية المهمة عن الألمانية وأبرزها رواية "نموذج طفولة" لكريستا وولف (دار شرقيات 1999) و"محنة" لبيتر هاندكه (دار العربي 2020).

خلال السنوات العشر الأخيرة انكبت على دراسات النقد الثقافي وقدمت كتبها (الكارو والمرسيدس، حداثة لم تكتمل، ديني ودين الناس، نون النسوية) التي تعمل على تطبيق آليات النقد الثقافي على خطاب الحياة اليومية، وفق ما تعكسه الأعمال الفنية والأدبية والإعلانات وغيرها من المنتجات الاستهلاكية الموجهة للجمهور. وبالمثل اتجهت شريف لتقديم معالجاتها بلغة نقدية بسيطة تقوم على تطوير الملاحظات العابرة والدفع بها إلى مجالات النظرية النقدية والتأويل وأحياناً "التأويل المفرط" بتعبير أمبرتو إيكو.

وترى المؤلفة أنها لا تتعامل مع النظريات إلا من خلال ما تعكسه التعبيرات الثقافية، مؤكدة أن النقد الأدبي وحده لم يعد جذاباً للقراء، ومن ثم تدعو بوضوح لتغييره والدفع أكثر في اتجاه تنمية الدراسات الثقافية ليصبح الفن والأدب أكثر انفتاحاً على الحياة.

سياسات الإذلال

 

منذ السطور الأولى تتساءل شريف عما إذا كانت القوانين معبرة تماماً عن القيم الأخلاقية ومتى يكون القانون صحياً وسارياً، وملزماً للجميع. وفي سعيها للإجابة عن السؤال تضع مجموعة من الفرضيات حول فكرة الطاعة والامتثال للقانون، وفقاً للتصورات التي قدمها ميشال فوكو عن المراقبة والعقاب وآليات الضبط والسيطرة على الأجساد. ووجدت أن العقاب في حالة الخروج على القانون، يحمل في أحيان كثيرة بعض المهانة وامتهاناً للكرامة عندما يتعرض الخارج على القانون للعقاب والإيذاء البدني والنفسي، وغير ذلك من وسائل أو سياسات الإذلال الشائعة في المجتمعات غير الديمقراطية. وتلاحظ شريف أن من يفرض القانون ليس فقط السلطة السياسية، لأن هناك الكثير من السلطات المتداخلة والمقنعة والتي تتسابق كلها لتطبيق تصورها عن القانون.

واقع سلطوي

وتلاحظ في واقعنا العربي أن الاستعمال المفرط لمفهوم الوطنية، بأساليب تدفع أحياناً إلى المساواة بينها وبين الطاعة، ومن ثم تصبح فكرة الخروج عن السلطة تعبيراً عن عدم الطاعة ومدخلاً إلى الفوضى. ولذلك كثيراً ما تم النظر إلى الثورات في وسائل الإعلام بوصفها خروجاً عن القانون، وهنا تتساءل: متى كان عدم طاعة القانون ضرورة ومتى يصبح عدم الامتثال للقانون فوضى تستوجب العقاب؟

 

تعود المؤلفة إلى ما يقوله أريش فروم العالم المتخصص في علم النفس الاجتماعي في تأويله لقصة الخلق، منتهياً إلى أن تاريخ البشرية بدأ مع العصيان وليس مع الطاعة. وتقرأ المؤلفة جملة من الأعمال الأدبية والفنية سعياً لتلمس خطابها إزاء القانون، ومن بينها فيلم "سماء فوق برلين" لفيم فندرز، وهو يدور حول ملائكة يهبطون إلى برلين يساندون البشر، ويظهر الفوارق بين الملائكة والبشر، اختباراً لفكرة الامتثال. وتحلل كذلك النص السردي "الغرفة 304" للكاتب المصري عمرو عزت، وهو نص يعبر عن تصورات الجيل الذي خرج في يناير (كانون الثاني) 2011، مركزاً على علاقة الراوي مع الأب وسلطة العائلة. لكن قضية الطاعة بالنسبة للراوي تبدو غير مفهومة ومن ثم غير مقبولة. وفي العمل تتواصل محاولات البحث عن آباء آخرين للتأكيد على أن التمرد لا ينجح إلى النهاية، بحيث يتم ترسيخ الطاعة خلال مختلف مراحل التربية، غير أنها تمتد من سلطة الأبوين لتشمل بعدها أي سلطة أخرى، كما تكشف عن ذلك رواية "نموذج طفولة" التي ترجمتها هبة شريف إلى العربية للكاتبة الألمانية كريستا وولف. تشرح هذه الرواية ممارسات السلطة لتأهيل أفرادها، بغية ترسيخ مبدأ الطاعة وتفسر في جانب آخر الكيفية التي دفعت الألمان لاختيار حكومة نازية، ثم امتثلوا لقوانينها الدموية.

أي طاعة نريد؟

تقتبس المؤلفة من عالم النفس السويسري أرنو غروين ما يشير إلى أننا لسنا واعين تماماً إلى أن الطاعة التي تعتبر في نسق القيم الإنسانية فضيلة تثير الإعجاب، تجعلنا في الواقع عبيداً لمن يتوقعونها منا. لذلك يؤكد أريش فروم أن ليس كل عصيان رذيلة، وليست كل طاعة فضيلة، كما يشير عنوان الكتاب. فالقدرة على العصيان كانت هي بداية تاريخ البشرية. ومن ثم فهو يتنبأ أن التاريخ قد ينتهي ولكن ليس بسبب العصيان وإنما بسبب الطاعة، وليست حروب الإبادة التي نشهدها إلا نوعاً من أنواع الطاعة لآباء آخرين. وتعطي الباحثة مثالاً أظهره مسلسل "تشيرنوبل" الذي تم عرضه عبر المنصات الإلكترونية، بحيث كانت كارثة المفاعل ناتجة من طاعة الموظفين لأوامر رؤسائهم، واتباع اللوائح حرفياً، فنفذوا الأوامر على رغم تشككهم في صحتها وإدراكهم التام لمخاطر تنفيذها. لكنهم لم يمتلكوا الجرأة أو الشجاعة الكافية لعصيان الأوامر. وهنا تتساءل: ماذا كان سيحل بهؤلاء لو أطاعوا القانون الأخلاقي؟ هل كان بإمكانهم تجنب تعرضهم للعقاب بسبب عصيان الأوامر؟

وللإجابة تلجأ المؤلفة إلى فكرة صاغها المؤرخ الأميركي المعروف هوارد زن، فهو يرى أن قد يكون من الأفضل الخروج عن القوانين على رغم التعرض للعقاب في الحالات التي يكون فيها اتباع القانون متعارضاً مع العدل، ومناصراً للظلم، كما عندما غامر الكثير من الأميركيين حين رفضوا القتال في فيتنام، وكان هذا الرفض موضوعاً لكتاب وضعه هوارد زن عن الحالات التي يصبح فيها عصيان القانون واجباً أخلاقياً.

في كتابه "التاريخ الشعبي للولايات المتحدة الأميركية" يفصل زن في تناول حالات كثيرة مماثلة جرت خلال حرب الاستقلال عن التاج البريطاني، كانت من بين أكثر الموضوعات التي تناولتها السينما الأميركية في سبيلها لصناعة "البطل القومي"، ومنها فيلم "الوطني" الذي أظهر مقاومة الأميركيين للتاج خلال حرب التحرير، بينما نظرت لها بريطانيا كعمليات عصيان وخرق للقانون.

الضمير الأخلاقي

وبالمثل تتناول رواية "القارئ" للكاتب الألماني برنهارد شلينك، التي تحولت إلى فيلم سينمائي من إخراج ستيفن دالدري، بطولة كيت وينسلت، معضلة الخروج على القانون خلال فترات مقاومة الاحتلال النازي. وهي تدور حول قصة حب غير متكافئة بين صبي يقع في غرام سيدة تكبره في العمر، وحين تختفي هذه السيدة، لا يكف الصبي عن البحث عنها إلى أن يجدها بعد أن أصبحت متهمة بحراسة أحد معتقلات النازية، وتسببت في موت الكثير من اليهوديات لأنها رفضت فتح الكنيسة للمعتقلات بعد أن شب حريق في السجن، خوفاً من أن تتهم بعدم الامتثال للقانون. فما تربت عليه يلزمها بالطاعة والالتزام بالأوامر. هكذا تطرح الرواية الشهيرة هذه، الأثمان الفادحة لتلك المفارقة حتى في أزمنة النازية. وإن كان باستطاعتنا اليوم التأكيد أن الاختيار لا بد من أن يكون بين طاعة القانون وبين الفطرة السليمة، أي الانحياز للضمير الأخلاقي.

تطرح المؤلفة سؤالاً بديهياً: إذا كانت القوانين قد وضعت لخدمة المجتمع حتى لا ينزلق إلى الفوضى، فما سيكون الحال إذا كانت القوانين نفسها تؤصل للشرور وتدعم الظلم؟ وماذا يحدث إذا افتقرت السلطة إلى الشرعية اللازمة التي تفرض بموجبها الالتزام الأدبي بالخضوع والامتثال للقوانين، وتجعل المواطنين يقبلون هذا الامتثال؟ في مثل هذه الحالات تلجأ السلطة في العادة إلى تجاوز القانون واستعمال القمع، وقد يلجأ الناس أيضاً لاختيار سلطة مستبدة، ويعطونها الشرعية، كما حدث خلال فترة الحكم النازي. ولهذا قامت الثورة الطالبية في ألمانيا عام 1968 على إدانة خيارات الآباء الذين جاؤوا بالنازي على قاعدة أخلاقية، وهذا أيضاً ما تلفت إليه رواية "القارئ".

ويلحظ الكتاب ميل السلطات بعد عمليات الاستقلال الوطني وحروب التحرير إلى تبني خطاب زائف حول الوطنية، يتماهى فيه الوطن مع الزعيم. لذلك تتحول الوطنية في الدول السلطوية إلى سلاح يشهر في وجه من يقال عنه أنه غير وطني أو خائن وغير محب لبلاده، ويمارس التمييز ضد المختلفين فكرياً وسياسياً. وفي هذا الوضع تصبح طاعة السلطة هي أهم صفات الشخص الوطني كما يقول الكتاب، ويصبح التشهير جزءاً أصيلاً في سياسات الدول لإذلال أو ترهيب كل من يخالف المعيار السائد للدولة، عن الالتزام والولاء والطاعة. وتجسد ذلك أعمال أدبية عدة، لعل أبرزها مسرحية "عدو الشعب" لهنريك أبسن أو فيلم "البريء" للمخرج عاطف الطيب، بطولة النجم أحمد زكي، والفيلم الأميركي "بعض الرجال طيبون" بطولة توم كروز وجاك نيكلسون. وفي هذا الفيلم بالتحديد يتم التشكيك في منطق الطاعة وتبرز فيه الإشارة إلى كيفية استعماله لإهانة الكرامة وممارسة الإذلال داخل قاعدة "غوانتانامو" الأميركية.

السجن كفضاء للعقاب

 يمثل السجن أحد أبرز الفضاءات التي يتناولها الكتاب كساحات لانتهاك الكرامة وخرق القانون، عبر استعراض أعمال أدبية وفنية كثيرة، جعلت منه موضوع بحث ورصد. ومنها كتاب "حرز مكمكم" للكاتب المصري أحمد ناجي أو كتاب "لا صديق سوى الجبال" للكاتب الكردي الإيراني بهروز بوتشاني (صدرت ترجمته العربية عن دار العربي عام 2020).

يعزز الكتاب سعي الناس لإقرار الكرامة والشعور بالحرية والمساواة، وهي قيم ارتبطت بنمو الطبقة الوسطى في مسيرتها نحو الحداثة. فلم تعد هذه المفاهيم حكراً على طبقة النبلاء ولا على الموقع الاجتماعي أو السلطة، كما كانت في الماضي، ومن ثم كانت في قلب الخطاب الذي بشر به فلاسفة التنوير.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى رغم مقولات فرنسيس فوكوياما عن "نهاية التاريخ" وانتصار المجتمعات الليبرالية في قدرتها على إنجاز مهمة المساواة بين فكرة القانون والعدالة، إلا أن المؤلفة تحلل روايات كشفت عجز هذا النظام عن تحقيق العدالة، كما تؤكد ذلك رواية "ليكن قلبكم مستعداً" للكاتب مكسيم ليو. وهي حكاية أسرة ألمانية شرقية، تبرز الكيفية التي انقلب عبرها المجتمع الوليد في ألمانيا الديمقراطية على أفراده ليصبح مجتمعاً ضاغطاً قامعاً لرغباتهم، بعد أن تبنى الثوار، وهم في سدة الحكم، قيماً تسلطية.

ويأتي تحليل المؤلف لأفلام باتمان دالاً على اهتزاز القيم الليبرالية وعدم صدقيتها في الجانب المتعلق باحترام القانون، إذ تظهر الأفلام قدرة النظام الرأسمالي على تطوير نفسه واستعادة الدولة لسيطرتها باسم الحفاظ على القانون. ومن ثم تتبنى المؤلفة نظرة عالم الأنثروبولوجيا الأميركي دافيد غربير إزاء باتمان الذي عده مثالاً على الرجعية، فالخارق لا يملك خططاً لإنقاذ العالم أو تغييره نحو الأفضل، بل يسعى للحفاظ على قوانين النظام القديم.

وعبر هذه النماذج التي يتوقف أمامها، يتبنى الكتاب مقولة أريش فروم، وهي أن كل الناس لا يملكون القدرة على التصرف وفق ما تمليه عليهم ضمائرهم. فضمائر الناس تختلف، كما أن فعل العصيان ذاته صعب. لذلك يستلزم القرار المخالف للسائد، شجاعة كبيرة وقدرة على تقبل الوحدة والشعور بالغربة، وسط المجموع، كما يستلزم العصيان، الاستعداد لقبول المسؤولية عن الخطأ وتحمل نتائجه بشكل شخصي وكذلك توقع العقاب.

اقرأ المزيد

المزيد من كتب