Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

باول تسلان جعل اللغة الألمانية ضمانة في مواجهة الخسائر

الشاعر اليهودي المنتحر خاطب الموت في صميم ظلمات الإجرام النازي

الشاعر الروماني الألماني باول تسلان الذي انتحر في نهر السين (غيتي)

يعد الشاعر الروماني-الألماني باول تسلان (1920-1970) من ألمع شعراء أوروبا الناطقين باللغة الألمانية في القرن العشرين جراء مواظبته على الكتابة بالألمانية، نشأ في وجدانه تصارع بين ضربين من الإقامة، الإقامة في الأرض الفرنسية التي لجأ إليها بعد الحرب العالمية الثانية، وإقامة الكلام في تربة اللغة الألمانية، في نص نثري أنشأه لمناسبة حصوله عام 1958 على جائرة برمن  Bremen  الأدبية، صور لنا تسلان صلته باللغة على هذا النحو، "ثمة أمر واحد ما برح في المتناول، قريباً مني، حاملاً لي الضمانة وسط جميع هذه الخسائر، اللغة. أجل، اللغة. على رغم كل شيء، ما برحت اللغة ضمانة لي في مواجهة الخسارة، ولكنه تحتم عليها أن تختبر عجزها الذاتي عن الإتيان بالأجوبة الشافية، وأن تعاني الصمت المرعب وآلاف الظلمات التي يتشح بها الكلام الإجرامي، عانت هذا كله، ولم تمنحني الكلمات التي أصف بها ما كان يجري من حولي، بل احتملتْ الأحداث، فاستطاعت أن تعتلن مرة ثانية، وقد اغتنت بكل ما عانته".

النشأة في ظلال الحرب ودراسة الآداب

ولد تسلان عام 1920 في مقاطعة بكوفين الرومانية التي كانت تابعة للإمبراطورية النمسوية- الهنغارية، وما لبثت الجيوش الروسية أن احتلتها وجعلتها خاضعة للنظام السوفياتي، كانت الألمانية لغته الأم، إذ إن والديه كانا من رعايا الإمبراطورية، ونصف سكان المقاطعة كانوا من اليهود الماسكيلين الذين يناصرون عصر الأنوار الأروبية ويعشقون ثقافته المتجسدة في مدينة فيينا. من الجدير ذكره أن أمه فريدريكه شراغر كانت شديدة التعلق باللغة الألمانية تحثه على إتقانها وتفرضها فرضاً في المنزل

 

في عام 1938 قصد مدينتي باريس وتور من أجل دراسة الطب، بعد انتهاء السنة الجامعية عاد إلى رومانيا لقضاء العطلة السنوية، ولكن الحرب العالمية الثانية منعته من استئناف الدراسة فاضطر إلى الإعراض عن الطب، والالتحاق بكلية الآداب في جامعة مدينته تشرنوفيتس التي اجتاحتها الجيوش الألمانية وعاثت فيها فساداً وخراباً. عانى أهوال الحرب والاضطهاد، إذ إن النظام الروماني الفاشي كان متواطئاً مع النازية الهتلرية، فاعتقلت الأجهزة العسكرية الرومانية والديه، فقضى والده بحمى التيفوئيد وحكم على والدته بالإعدام في المعتقل الذي نجا منه بأعجوبة، إذ إن الاعتقال جرى أثناء غيابه عن المنزل، غير أن لوعة الانفصال ما فارقت تسلان قط، فظل يؤنب نفسه ويقرعها على عجزه عن إقناع والديه بمغادرة البلاد هرباً من الاضطهاد والاعتقال، لا ريب في أن مثل هذا الشعور بالذنب أثار في وجدانه رغبة الانتحار من أجل تعويض الخسارة التي ابتلي بها.

في إثر المضايقات التي خضع لها والأعمال الشاقة التي فرضت عليه في معسكرات الجيش الروماني، عاد عام 1944 إلى دراسة الأدب الإنجليزي في جامعة مدينته، حيث تعرف إلى الشاعرة الألمانية روز أوسلندر (1901-1988)، ولا بد من التذكير بأن والده كارل هوروفيتس كان متضلعاً من الآداب الألمانية وحريصاً على تزيين مكتبة المنزل بروائع الشعراء الألمان من أمثال هلدرلين (1770-1843)، وريلكه (1875-1926)، وغيورغ تراكل (1887-1914)، وغيورغ هايم (1887-1912). فاغتنم الشاب المراهق الفرصة الذهبية، وأكب يغترف من ينابيع الإلهام الشعري تلك.

 

بعد الحرب العالمية الثانية، أقام سنة واحدة في فيينا، ولكنه ما لبث أن ارتأى الانتقال إلى فرنسا، حيث التحق بكلية الآداب ليتابع دراسة الأدب الألماني في جامعة السوربون، وما لبث أن حصل على إجازة الآداب عام 1952، وشرع يعمل مترجماً سعياً إلى رزقه، فضلاً عن ذلك حصل عام 1959 على وظيفة قارئ الألمانية في معهد التدريس العالي (شارع دولم في دائرة باريس الخامسة)، كان تسلان قد التقى عام 1951 الرسامة النحاتة الفرنسية جيزل دلستانغ، فاقترن بها في 23 ديسمبر (كانون الأول) 1952 ورزق منها طفلان، فرانسوا الذي قضى نحبه غداة مولده، وإريك الذي اعتنى لاحقاً بنشر مراسلات والديه، وفيها تتجلى أحاسيس الشاعر التي تفصح عن اختباراته الحياتية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

اضطراب العلاقة بالأوساط الأدبية الفرنسية

عانى تسلان الأمرين جراء الشقاق الذي حصل بينه وبين أرملة الشاعر الفرنسي إيفان غول (1891-1950)، وكان تسلان قد أكب على نقل بعض من أعماله الأدبية إلى الألمانية، قيل الكثير في إثر المشادة الحادة التي أثارتها الأرملة كلر غول حين منعت تسلان من مواصلة العمل، يبدو أن أسباب الاختلاف كانت شخصية عاطفية، بيد أن المسألة تجاوزت الحدود بحيث أخذت الأرملة الخائبة تشهر بتسلان وتحرض عليه الأوساط الأدبية الفرنسية وأغرقته في لجة الحزن واليأس، فطفق يستنجد في رسائله كبار الأدباء والفلاسفة فإذا به يسر بخيبته إلى الفيلسوف الفرنسي سارتر (1905-1980) كاشفاً عن هويته، "إني أكتب، أكتب شعراً ألمانياً، وأنا يهودي... قد أدهشك، بلا شك، إن قلت لك إن المسألة هنا مرتبطة بقضية دريفس... لذلك أستصرخ فيك إحساس العدالة والحقيقة".

 أما إلى الشاعر الفرنسي رينه شار (1907-1988)، فبعث بكلمات الكشف الأقصى عن عمق خيبته، "لا يستقيم الشعر كما تعلم من دون الشاعر، من دون شخصه، من دون الشخص الإنساني... لم أعد أستطيع أن أنشر، إذ عرف الآخرون كيف يعزلونني، هنا أيضاً في هذا الموقع... يعيدون توزيع أعمالي، ومن ثم يتمتعون برجمي".

 

وجراء هذه الأزمة التي عصفت بعلاقات تسلان الاجتماعية والأدبية، وبسبب من تفاقم شعوره العميق بالذنب الناجم عن مأساة والديه، انهار انهياراً نفسياً اضطره إلى دخول المستشفى مراراً منذ عام 1962 من أجل معالجة اضطراباته التي أفضت به في بعض الأحيان إلى الهذيان المرضي. يروي أصدقاؤه أنه كان يجازف في تناول أفعل الأدوية تأثيراً في سلامة جسده لكي يضمن بعض الأويقات العابرة من الصفاء الذهني الذي يؤهله لمواصلة الكتابة.

 من الطبيعي، والحال هذه، أن تضطرب علاقته الزوجية اضطراباً أفضى إلى الانفصال، في جميع هذه الأحداث يتبين أن شخصيته كانت مطبوعة بالحياء والخفر ورغبة الاختفاء من الوجود، وما برحت الأحاسيس السوداوية هذه تهيمن على وعيه حتى رمى بنفسه انتحاراً في نهر السين الباريسي يوم 20 أبريل (نيسان) 1970.

خصوصية تسلان في كتابة الشعر

كان تسلان بارعاً في الترجمة، ينقل إلى الألمانية قصائد الآداب الفرنسية والروسية والإنجليزية، عاش سنوات طويلة في باريس، ولكن من غير أن ينشر مؤلفاته في عاصمة الأنوار، لوم يصدر بعض من كتاباته في فرنسا إلا بعد مماته، فكان يحيا حياته الباريسية شاعراً ألمانياً مجهولاً لا يعرفه أحد في دور النشر الفرنسية، وكان متأثراً بالمدرسة السريالية التي تعتمد منطق الصورة، ولكنها تستنطق الصور المتعارضة المتناقضة وتستثمرها في الإفصاح عن مكنونات الوجدان، من غير الإصرار على نظم القصيدة التعليمية التهذيبية الهادفة، ومن ثم اتصفت قصائده بالغزارة الرمزية وبالأصالة الإبداعية العصية على الإدراك.

 

لا بد في هذا السياق من الإشادة أيضاً بأعمال الترجمة التي اضطلع بها، إذ نقل إلى الألمانية نصوصاً من أعمال الأدباء الفرنسيين بول فاليري (1871-1945)، ورينه شار، وجول سبرفاي (1884-1960)، وأندريه دبوشه (1924-2001)، وإيف بونفوا (1923-2016)، وهنري ميشو (1899-1984). واعتنى أيضاً بنقل بعض نصوص الأديب الروسي أوسيب ماندلشتام (1891-1938)، والشاعرة الروسية مارينا تسفتايفا (1892-1941)، وبعض نصوص الشاعرة الأميركية إميلي ديكينسون (1830-1886). من أشهر مجموعاته الشعرية "من عتبة إلى أخرى" (Von Schwelle zu Schwelle)، "شبكة الكلام" (Sprachgitter)، "منعطف النفس" (Atemwende)، "إكراه النور" (Lichtzwang)، "حظيرة الزمن" (Zeitgehöft). غير أن قصيدتي "نغمية الموت" و"وردة اللا أحد" تختزنان أبلغ ما أفصحت عنه عبقرية الشاعر المنفي.

"نغمية الموت الشاردة"

يحشد تسلان في هذه القصيدة الكلمات التي لا تتكرر على وجه واحد أو هيئة متجانسة، ويقينه أن اختبار العنف الإقصائي في معسكرات الاعتقال والموت على امتداد المسكونة كلها يعطل التفكير ويبطل الكلام ويعقم التعبير، والقصيدة أشبه بسمفونيا موسيقية متعددة الأصوات تركب النبرات تركيباً هجيناً حتى تنبثق من التباينات النغمية إيحائية حرة بليغة تلهم الإنسان جسامة المخاطر الإفنائية التي تتربص به، أما المضطهدون فتصدح أصواتهم في حنجرة الموت الذي يجسد لهم أقصى احتمالات المستقبل الممكنة، خلافاً ليقين الفيلسوف الألماني تيودور أدورنو (1903-1969) الذي أعلن أن القصيدة أضحت مستحيلة بعد محرقة أوشفيتس الرجيمة، يصرح تسلان في هذه القصيدة بأن الشعر، ولو أنه يجعل القول مستحيلاً ويطلق العنان لما هو غير قابل التعبير والإفصاح، يجب أن يواظب بعد المحرقة على وضع اللامقول في المقام الأول، على رغم أن كل مقول غداً ينتسب إلى كلام التوحش البربري الذي لا يراعي حرمة الحياة المذبوحة، إلا أن الكلام الشعري يستطيع أن يراوغ ويناور ويمكر حتى ينعتق من انسدادات الإعجاز الذي يولده العنف الإنساني، يعتقد كثيرون أن أدورنو نفسه استدرك الأمر وغير رأيه، من بعد أن قرأ قصيدة تسلان واقتنع بضرورة الكتابة التعويضية الكاشفة.

 

"نغمية الموت" من أكثر القصائد قراءة وشرحاً وتأويلاً، أنشأها تسلان أولاً باللغة الرومانية أثناء إقامته ببخارست في مايو (أيار) 1947 وعنونها "تانغو الموت"، تنبسط على صفحتين طويلتين يضبطها إيقاع موسيقي مبني على التكرار الانسجامي المنتظم والتنويع الاستطرادي المباغت.

 اللافت المربك أن تسلان نفسه رفض لاحقاً أن تضم القصيدة الشهيرة هذه إلى مجموعة أعماله، إذ إنها لا تعبر تعبيراً أميناً عن خصوصية نظمه الشعري بسبب من شفافيتها العرائية وواقعيتها السطحية المفضوحة، من بعد أن صدرت عام 1948 في خاتمة المجموعة الشعرية "الرمل المنبعث من جرات الرماد" (Der Sand aus den Urnen)، عاد تسلان عام 1952 فاقتنع بأن ينشرها في مجموعة أخرى عنوانها "الخشخاش والذاكرة" (Mohn und Gedächtnis)، وذلك بسبب الأخطاء المطبعية التي شوهت الطبعة الأولى.

في الرسالة التي بعث بها عام 1962 إلى صديقه إريش أينهورن ليشكو له خيبته من الأوساط الثقافية الألمانية التي عاتبته على كتابة هذه القصيدة، استحضر الشاعر الحزين كلام صاحب المذهب المادي الذري الفيلسوف الإغريقي ذيموقريطوس (نحو 460 ق.م. - نحو 370 ق.م.)، "ما من شيء سوى الذرات والفضاء الخاوي، الباقي كله رأي". وما لبث أن أضاف يعلق على هذا الكلام، "لست بحاجة على الإطلاق إلى أن أبين قبل كل شيء أن هذه القصيدة كتبت حباً لهذه الفكرة، حباً للناس، ومن ثم من أجل مناهضة كل خواء وكل تبديد ذري"، وتصور لنا أبيات القصيدة مشهد الدفن المرعب الذي يجعل النازيين يرمون الجثث في حفر الأرض الرطبة ويغلفونها بتراب الذل والمهانة، "في المساء نرتشف سواد الفجر، نرتشفه أيضاً عند الظهر وفي الصباح وفي الليل، نرتشفه ثم نرتشفه، نحفر في السماء قبراً لا يضيق على أجسادنا في رصف مرصوص".

عزلة الوردة التي لا يملكها أحد

 

أصدر تسلان مجموعة قصائد "وردة اللا أحد" (Die Niemandrose) عام 1963، وضمنها أبياتاً قصيرة كثيفة يشوبها بعض الغموض المتعمد، على رغم الاتساق العظيم في بنيانها والدقة البالغة في تخير ألفاظها، أما ما يميزها على وجه الخصوص، فغزارة الصور التي تحتشد فيها وعمق المعاني التي تزخر بها ذلك بأن صاحبها أراد أن يبلغ بتعابيرها حدود التطلب الأقصى حتى يفجر فيها طاقات جليلة من الإيحاء تسعفه في الإفصاح عن معيشه المضطرب المتأزم القلق، ليس من الصعب أن يستطلع المرء في هذه الأبيات المعاناة الوجودية التي انتابت الشاعر وزعزعت كيانه الباطني، لذلك انطوى كل بيت منها على عصارة الاختبار الذي امتحن حياة تسلان امتحاناً عميق الأثر، بيد أن تفسير القصائد القصيرة هذه لا يجوز أن يعتمد على أسلوب التقصي التكويني الذي يبحث عن أسباب الإلهام الحياتية، وفي هذا السياق، كان تسلان يردد قولاً مستغرباً، "ينبغي ألا نتكلم في أي موضع من المواضع على ميلاد القصيدة، بل دائماً وحصراً على القصيدة المولودة، أي التي سبق أن ولدت"، لا يطلب إلى القارئ سوى القراءة وإعادة القراءة حتى يولد المعنى في وجدانه ميلاداً حراً.

 

بيد أن قصائد "وردة اللا أحد" تظل عسيرة على الإدراك، إذ إن تسلان طوى فيها ضمة مربكة من الاستعارات والمجازات والصور البيانية المتشابكة التي تفقد القارئ المتعجل قدرة النفاذ إلى جوهرها، ذلك بأنها قصائد رمزية صوفية تتناول اليهودية في مذاهب القابالا (Kabbale) اليهودية الروحية التي تستند في الأغلب إلى ناموس الوحي الشفهي السري غير المدون على الإطلاق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من أشهر الاستعارات البيانية التي تنطوي عليها هذه القصائد صورة اللوزة التي تشبه العين الناظرة إلى ملك الملوك وسيد العروش، إلى إله الآلهة الذي يغيب عن عرشه بسبب من اضطراب النظام الكوني في مأساة العنف البشري المستفحل، "في اللوزة! ماذا ينعقد في اللوزة؟ العدم، العدم ينعقد في اللوزة، ينعقد فيها، ينعقد. في العدم! من يقوم في العدم؟ الملك. هنا يقوم الملك، الملك! يقوم هنا، يقوم! يا يهودي القرط! لن تشيب! أما عينك، فما الذي تواجهه؟ عينك تواجه اللوزة، عينك تواجه العدم. تؤازر الملك. هكذا تستقيم عينك. يا إنسان القرط! لن تشيب! خواء لوزة، زرقة ملك!" يتضح من سياق القصيدة اللمعانية الانحجابية هذه أن تسلان يرثي حال الإنسان اليهودي المضطهد في ألمانيا النازية، ولكنه أيضاً يتألم لحال الإنسان الكوني الذي فقد صلته بذاته وبمركزيته الإلهية التي دخلت في طور غيبة الملك، ذلك بأن العدم يملأ، على وجه المفارقة، فضاء المقدس الذي يرعب (tremendum) الناس بسره الخفي، ويسحرهم (fascinosum) ببهائه الجذاب في الوقت عينه، أما الوشاح الأزرق فيشير إلى اللون القدسي ولون الملوكية الإلهية كما هي الحال في قصائد غيورغ تراكل الذي يلهم تسلان، في حين أن اللوزة تدل على عين الإنسان المنطفئة المنغلقة التي تتهيب خواء العدم حين تجرؤ فتنفتح من أجل الاستبصار الأبعد في آفاق المطلق اللامتناهي.

المخاطب الغائب هو اللا أحد الذي يهديه تسلان قصائده، في كتاب تعريفي مفيد عنوانه "ليس في يد أحد" (Dans la main de personne. Essai sur Paul Celan et autres essais)، تبين لنا الناقدة الأدبية الشاعرة الفرنسية مارتين برودا (1947-2009) أن تسلان كان متأثراً بالشاعر الروسي البولوني المولد أوسيب ماندلشتام الذي كشف له عن مأسوية التاريخ وضرورة استدخال البعد الوجودي الأخلاقي في الكتابة، خصوصاً في النظم الشعري، فالكتابة ترسم للكاتب مصيره وتبين له أيضاً مصيرها الخاص، مصير الكتابة كمصير الزجاجة التي يستودعها الإنسان البحر من غير أن ينتظر تعويضاً عنها، ولكأن الهدية (Geschenk) تنقلب إلى إرسال قدري (Geschick) يفرج عنه البحر في تموجاته المباغتة، على نحو ما تفرج الحياة عن تمخضاتها الباطنة. لذلك يعلن تسلان أن "ما من أحد يشهد للشاهد نفسه"، بل الشهادة تأتي من الغيرية التي تواجهنا في صميم وجودنا.

السؤال الوجودي المضني

في مجموعة القصائد التي أنشأها تسلان قبل انتقاله إلى باريس، وقد جمعتها باربارا فيدمان في كتاب أعمال مرحلة الشباب (Barbara Wiedemann, Paul Celan das Frühwerk)، تظهر قصيدة "المشعل" التي يعبر فيها الشاعر الشاب عن خيبته وشعوره بالعجز أمام هول المأساة التي نزلت بأروبا، "أيها الرفيق، ارفع المشعل، واخط خطواً ثابتاً. ليس في البعيد سوى الأسلاك الشائكة، أما الأرض فوحل كلها. أيها الرفيق لوح بالمشعل، إن مشعلي يدخن. نفسك شيء يحتاج إلى النار، أيها الرفيق اخفض المشعل، هذا المشعل، أطفئْ نوره، قل لي الحياة، ما الحياة؟ والموت، ما الموت؟". من الواضح أن تسلان بنى شعره كله على الحوارية الجدلية التي تمنح السؤال مقام الصدارة، وتجعل حقائق الحياة تتجلى في سريتها التي تهلك الوعي من شدة انحجابها عن الوعي المتطلب.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة