في أول خطاب له كرئيس للوزراء في بريطانيا، أكد ريشي سوناك أن البلاد "تواجه أزمة اقتصادية هائلة" مشيراً إلى إدراكه أنه تم اختياره "لإصلاح الأخطاء". ورغم أنه صرح بما لم تصرح به ليز تراس بأن "أخطاء ارتكبت" وبأنه قادم لإصلاحها لكنه أشار إلى أن "تلك الأخطاء لم ترتكب عمداً ولا بسوء نية".
في كلمته القصيرة من مقر الحكومة في 10 داونينغ ستريت كرر رئيس الوزراء الجديد عزمه على "جعل الاستقرار الاقتصادي واستعادة ثقة في قلب أجندة هذه الحكومة".
ويتحدث سوناك للمرة الأولى أمام البرلمان اليوم الأربعاء في مواجهة معارضة عمالية تحسن مواقعها في استطلاعات الرأي وتطالب بانتخابات مبكرة في بلد يشهد أزمة اقتصادية وسياسية.
للمرة الأولى يواجه رئيس حكومة غير أبيض، هندوسي يتحدر من مستعمرة بريطانية سابقة، وأصغر رئيس وزراء في تاريخ البلاد، النواب في مجلس العموم ظهر الأربعاء خلال جلسة مساءلة.
وتطالب المعارضة العمالية التي تتقدم في استطلاعات الرأي على المحافظين بفارق كبير، يوميا بانتخابات عامة مبكرة بدون الانتظار حتى 2024 منددة بسياسة المحافظين التي ادت الى "تدهور الاقتصاد".
ومع أن فقدان الثقة في الاقتصاد البريطاني بشكل كبير حدث مع إعلان أول خطط تراس الاقتصادية قبل نحو شهر، فإن قدراً كبيراً من المشاكل الاقتصادية التي تراكمت في بريطانيا تعود إلى ما قبل يوليو (تموز) الماضي حين كان سوناك وزير الخزانة في حكومة بوريس جونسون قبل أن يستقيل ويضطر رئيسه أيضاً للاستقالة.
صحيح أن التسريبات من أنصار سوناك في ذلك القوت كانت تتحدث عن خلافات في السياسات المالية والاقتصادية بينه وبين وجونسون، لكن في النهاية يظل الأول هو المسؤول عن السياسة النهائية لحكومة جونسون. بخاصة وأنه يتمتع بأن ينسب إليه الفضل في الحفاظ عالى الاقتصاد من الانهيار في أزمة وباء كورونا.
وبالتالي، فإذا كان سوناك ورث اقتصاداً في أزمة، كما قال في أول لتصريح له الثلاثاء، فليس إرث الأزمة كله يعود إلى رئيسة الوزراء المستقيلة ووزير خزانتها الذي أقالته قبل ذلك كواسي كوارتنغ. فهناك تراكم للأزمة بدأ قبل استقالة حكومة جونسون وحتى قبل الحرب في أوكرانيا نهاية فبراير (شباط) هذا العام.
إرث المديونية
في محاولتها لإنقاذ حكومتها، عينت تراس جيريمي هانت وزيراً للخزانة ليلغي كل ما أعلنته من تخفيضات ضريبية كانت ستمول بالاقتراض الحكومي. تلك الإجراءات التي أدت إلى فقدان الأسواق والمستثمرين الثقة في بريطانيا واقتصادها وجعلت الجميع يتخلصون من الجنيه الاسترليني وسندات الدين السيادي البريطاني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأدى تعيين هانت والتراجع عن كل الإجراءات التي أعلنتها حكومة تراس إلى تهدئة الأسواق، لكن أسعار السندات البريطانية ظلت منخفضة وبالتالي فالعائد عليها مرتفع، وإن كان انخفض قليلاً عن مستوى خمسة في المئة الذي اقترب منه قبل تعيين هانت.
ويعني ارتفاع العائد على السندات فوق نسبة أربعة في المئة (مقارنة بأقل من نصف في المئة قبل عام) أن كلفة اقتراض الحكومة تظل عالية جداً، أي زيادة كبيرة في مدفوعات خدمة الدين. ولعل هدف رئيس الحكومة الجديد من الإبقاء على هانت في منصب وزير الخزانة هو ضمان استمرار طمأنة الأسواق بانتظار ما سيعلنه وزير الخزانة بنهاية هذا الشهر من خطة متكاملة للاستقرار المالي.
وربما يؤدي ذلك إلى انخفاض نسبة العائد على سندات الدين السيادي، لكنه لا يحل مشكلة ارتفاع حجم هذا الدين. وإذا كان اقتراض الحكومة زاد في سبتمبر (أيلول) إلى نحو 23 مليار دولار (20 مليار جنيه استرليني)، وهو معدل اقتراض شهري عال جداً، إلا أن الدين الحكومي في بريطانيا زاد في الأشهر الستة الأولى من العام بأكثر من 82 مليار دولار (72 مليار جنيه استرليني). وكل هذا الاقتراض في تلك الأشهر كان في وقت وجود سوناك وزيراً للخزانة.
في كلمته الثلاثاء، قال رئيس الوزراء الجديد "إن الحكومة التي أقودها لن تترك للأجيال القادمة، أبنائنا وأحفادنا، هذه الديون كي يسددوها وكأننا كنا أضعف من أن ندفعها نحن". إذاً، قضية خفض معدلات الدين العام هي أولوية للحكومة الحالية، لكن هذا الدين في أغلبه تراكم في ظل قيادة جونسون وسوناك للسياسة المالية والاقتصادية للحكومة. فهو إذاً يتعهد بحل مشاكل إرثه وليس إرث أخطاء الآخرين فقط.
التقشف وكلفة المعيشة
لكن من أين ستأتي الحكومة الجديدة بالأموال لتخفيف عبء الدين العام الذي يقترب من نسبة 100 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي؟ صحيح أن إلغاء إجراءات خفض الضرائب سيعني عدم زيادة الدين بنحو 72 مليار دولار (62 مليار جنيه استرليني) كانت الحكومة ستقترضها لتمويل خفض الضرائب، لكن تظل هناك حزمة دعم فواتير الغاز والكهرباء للمنازل التي تتكلف مبلغاً مماثلاً تقريباً في الأشهر الستة القادمة.
الأرجح أن برنامج دعم الطاقة لن يستمر بعد أبريل (نيسان) المقبل. كما سيلتزم سوناك بما أعلنه هانت بعدم خفض ضريبة الدخل على الشريحة الأدنى من 20 في المئة إلى 19 في المئة. مع أن سوناك سبق والتزم في بداية عمله كوزير لخزانة حكومة جونسون هذا الخفض بل وأن يتم خفض ضريبة الدخل على الشريحة الدنيا إلى 16 في المئة بنهاية الفترة البرلمانية، أي العام بعد المقبل. وهذا لن يحدث طبعاً.
ومن المتوقع أن يتم التخلي أيضاً عن بعض بنود برنامج حكومة جونسون، الذي على أساسه حصلت على التفويض الشعبي بنجاح حزب المحافظين الحاكم في انتخابات 2019. ومنها عدم المس بمعاشات التقاعد والإبقاء على جبايتها ضريبياً، لكن الآن يمكن أن يعلن هانت نهاية الشهر عن التخلي عن ذلك. كذلك ربما لا تتم زيادة معاشات التقاعد الحكومية بمعدلات توازي معدلات التضخم، وأن تكون الزيادة بمعدلات توازي زيادة الدخل. وبما أن معدلات التضخم ترتفع أعلى بكثير من الزيادة في الدخل، فسيعني ذلك عملياً خفضاً حقيقياً لمعاشات التقاعد الحكومية.
كل ذلك، إضافة إلى الإبقاء على ضريبة القيمة المضافة والزيادة في مستقطعات التأمين الاجتماعي من الشركات والعاملين لن تكون كافية لسد فجوة العجز وتخفيف عبء الدين. وبالتالي قد تلجأ الحكومة إلى إجراءات تقشف كبيرة لخفض الإنفاق العام عبر مطالبة الوزارات والإدارات بتدبير توفير في ميزانياتها بإلغاء بنود الإنفاق.
وسيشكل ذلك مشكلة سياسية لسوناك ووزير خزانته في الوقت الذي تواجه فيه الأسر البريطانية أزمة مستعصية تجعلها غير قادرة على تحمل تكاليف المعيشة. وحتى إذا أدت تلك السياسات إلى وقف ارتفاع معدلات التضخم فلن يعني ذلك انخفاض الأسعار للأسر البريطانية بل سيعني تباطؤ الارتفاع فيها.