Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أقباط ويهود وأوروبيون يعيشون صراع الاغتراب روائيا

المصري المهاجر شريف مليكة يطرح أسئلة الوجود والـ "ميتافيزيقا"

لوحة عن الهجرة للرسام العراقي سروان باران (صفحة الرسام - فيسبوك)

في روايته الجديدة "قارورة زرقاء"(الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2022)، يقتحم الكاتب المصري شريف مليكة المقيم في الولايات المتحدة الأميركية منذ 30 عاماً علاقات إنسانية شائكة، يسودها التوتر والانقسام الذاتي العنيف والصراع مع الآخر المختلف في الغربة، فمن خلال لعبة الإبحار في الزمن يفجر الكاتب، وهو طبيب متخصص في علاج الأمراض المزمنة، إشكالات العيش في المهجر الغربي والآلام النفسية والصدامات المجتمعية والارتباكات والاضطرابات اليومية التي يجنيها المهاجرون إلى أميركا من مصر والمجتمعات الشرقية على مدى النصف قرن الماضي.

ومن جهة أخرى يعبر مليكة (64 عاماً) بالسرد الروائي إلى دوائر فنية وفكرية مشتعلة، فيخوض مغامرة كتابة النوع الأدبي المراوغ أو غير المحكوم بإطار محدد، مازجاً رواية الأجيال وأدبيات المهجر وإفضاءات سيرته الذاتية ومشاهداته المباشرة في الواقع المحيط به ككاتب وطبيب. ويأتي ذلك إلى جانب انخراطه في الأجواء الأسطورية وعوالم الحلم والخيال وطرحه مناقشات جدلية وأسئلة عميقة حول الوجود والعدم والكون والخالق وأسرار الموت والحياة الأخرى، ويضاف إلى تلك المنعطفات المثيرة في روايته سرده العجائبي لتفاصيل رحلة ميتافيزيقية مركبة تقوم بها الجدة (الشخصية المحورية) من الحياة إلى الموت (العالم الآخر) ثم إلى الحياة مرة أخرى ومن بعدها الموت الأخير، الذي يعقبه حرق جثتها ووضع رماد رفاتها في قارورة زرقاء لتختصر الزجاجة في النهاية خلاصة الحياة والموت معاً.

حركة لا تنقطع

يفتتح مليكة عمله الأخير بعد ثماني روايات وثلاث مجموعات قصصية وأربعة دواوين، بعبارة بابلو نيرودا "يموت ببطء من لا يسافر، من لا يقرأ، من لا يسمع الموسيقى، من يتجنب العشق وزوبعة المشاعر". فهو ينسج روايته وفي باله أن معنى الوجود الحقيقي هو التحرك والدوران والانفلات والفوران والتقلب من حال إلى حال ومن موضع إلى غيره ومن زمان إلى آخر، كما يصرح في تمهيده للرواية بأن تسرب الساعات والأيام من قبضة الزمن المحكمة في تلك الومضة الخاطفة التي نسميها حياتنا، لا يمكن أن يشكل البداية ولا يمكن أن يكون النهاية في الكون المهول والدهر المجهول.

 

تستعرض الرواية التي يسردها راو عليم من خارج الحدث سلسلة محطات لمجموعة محدودة من الأشخاص من ثلاثة أجيال متعاقبة، وهم ينتمون إلى أصول مصرية قبطية وإريترية يهودية وأوروبية شرقية (دولة تشيكوسلوفاكيا المتفككة)، وهؤلاء الأشخاص جميعاً (أبطال الرواية) لا أسماء لهم، مما يعني رغبة الكاتب في التجريد والتعميم، فحكاياتهم ومآسيهم العائلية والمجتمعية والإنسانية لا تخصهم وحدهم، وإنما تتشابه مع كثيرين من أمثالهم المهاجرين من بلاد الشمس والدفء إلى مدن الصقيع. تقدم الرواية تغطية زمنية للفترة ما بين هزيمة عام 1967 وانتشار جائحة كورونا بدايات عام 2020.

هجرة متوازية

وعلى رغم أن الرواية تعود في بعض المواضع إلى ما قبل 1967، فإن هزيمة يونيو (حزيران) تمثل بدايتها الحقيقية، إذ أعقبتها حركة هجرة واسعة من مصر، خصوصاً للأقباط واليهود، ومنهم الجدة المصرية القبطية التي هاجرت بعدما فقدت زوجها في الحرب وتخلصت من جنينها وهجرت أسرتها. كما هاجرت في الوقت نفسه صديقتها السمراء، اليهودية الإريترية، وفي الولايات المتحدة تزوجت الجدة من الجد التشيكوسلوفاكي اللاديني (الملحد) وأنجبا سيدة الجيل الثاني (الأم) التي لم تتعلم العربية ولم تعد تتحدث إلا الإنجليزية، وقد تزوجت هذه الأم من بطل الجيل الثاني (الأب) بعدما تعرفا في المكتبة العامة لاهتمامهما المشترك باقتناء كتب ومراجع عن التاريخ المصري القديم. هذا الأب الذي لا يزال يتقن اللغة العربية يعود لأسرة شرقية بدوره، فأبواه قبطيان من مدينة المنيا في صعيد مصر هاجرا في ثمانينيات القرن الماضي بعد تصاعد الاحتقان الطائفي في عهد الرئيس السادات.

 

وينجحون بالفعل في ذلك ويصلون في الوقت المناسب على رغم هطول الثلوج وإغلاق المطارات، وهنا يقع الحدث الغريب، وهو أن الجدة يبدو كأنها تموت ثم تعود مجدداً للحياة بعد فترة قصيرة، لتسترجع كل مشاهداتها في مرحلة ما بعد الموت، وتطلب الجدة من الأب الذي يعمل في مجال الكتابة والصحافة أن يسجل تجربتها الفريدة عن الموت ليجمعها في كتاب لتثبت انتصارها الإيماني على زوجها "الجد" اللاديني الذي لا يؤمن بوجود حياة أخرى، ثم توصيهم الجدة بحرق جثتها ووضع رماد رفاتها في "قارورة زرقاء" يحملها أفراد العائلة معهم إلى أرض الجدود مصر التي اعتزموا زيارتها جميعاً لإتمام زواج الابن والفتاة اليهودية والابنة وخطيبها. لكن انتشار وباء كورونا في شتاء 2020 أوقف تحقيق هذه الوصية، فبقيت القارورة شاهدة على ما جرى عبر هذا التاريخ كله ومحتفظة برحيق الحياة وأسرار الموت.

أزمات وتساؤلات

لا تبدو الأحداث العادية المباشرة هي الأمر المهم في رواية مليكة التي تنصب مسرحاً ثرياً لإثارة الصراعات والأزمات والتساؤلات، إلى جانب الرغبة في التعبير عن الاجتهاد الفني الخاص.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يضع الكاتب مطبات الإقامة في مجتمع غربي وما يترتب عليها من إحساس بالاغتراب والانسلاخ والاختلاف عن القيم والمعطيات السائدة بمثابة سجن يحاصر الشخصيات، وهو يكاد يوازي السجن الآخر الذي يقبع فيه المحبوسون في بلادهم الشرقية ولم يتمكنوا من الفرار في الأوقات العصيبة. على أن السجن في البلاد العربية والشرقية يبدو خارجياً يقمع الأفراد وفي العالم الغربي سجن داخلي يقضي على صاحبه ببطء.

لقد اضطر الأب، مثلاً، إلى استقبال نبأ حمل ابنته من غير زواج بابتسامة صامتة عندما أخبرته بأنها ستتزوج فتاها في الربيع (بعد شهرين)، لكنه في أعماقه كان يذوب اضطراباً بسبب مشاعره المتناقضة، "يتعجب بينه وبين نفسه من كونه تساهل في أمر حمل ابنته من دون زواج بمثل هذه السهولة. لم تكن تلك هي التربية التي نشأ عليها والبذور التي زرعها أبواه وقنوات الفضائيات التي شب يتابعها في عقله".

يستعرض الراوي كذلك كيف لجأت الجدة ذات يوم ببساطة إلى خيانة زوجها الجد مع طبيبها الخاص، لا لشيء إلا لكي ترد لزوجها صفعة واحدة بعدما تكررت خياناته لها وفشلت في تقويم سلوكه، ومثل هذا السلوك لم يكن ليتسق مع شخصية الجدة بطبيعة الحال لو أنها ظلت في مصر ولم تهاجر، وكذلك الابن الذي يبدو قد حسم صراعه الداخلي بين جذوره الشرقية وحاضره الغربي، فبات أقرب إلى واقعه المادي الجديد. فمع أنه يظهر بمظهر المتدين بل ويعرب أحياناً عن رغبته في الرهبنة، فإنه سقط في الخطيئة بسهولة عندما أغرته امرأة أربعينية في سكنه الجامعي خلال سنوات دراسته الأولى، فلبى نداء جسده مهملاً روحه، وهذا الصراع بين الجسدي والروحاني يمتد أيضاً لدى معظم الشخوص.

التجريد والترميز

وإذا كان المؤلف يمعن في تقصي ما وراء الأحداث والمشاهد من إحالات والتفاتات إلى ما هو كامن وغائر في أعماق الشخصيات المتنازعة بين الاتجاهات المتفرقة شرقاً وغرباً والأفكار المتذبذبة والمشاعر المتناقضة، فإنه في الوقت نفسه يتسلح بالتجريد والترميز والمراوغة في الأداء الفني نفسه، فهو يقدم رواية التشريح النفسي والتبحر الداخلي في الذوات الإنسانية، لكنه يتخذ شكلاً يوحي بأنها رواية أجيال بالمفهوم التقليدي، وهو يراهن على التخييل والتأليف في سرد العمل الإبداعي المنتمي أيضاً إلى أدبيات المهجر، لكنه لا يغفل تجربته الخاصة وسيرته الذاتية ودائرة علاقاته الضيقة كقبطي مصري مهاجر إلى الولايات المتحدة. كما أن عمله طبيباً أفاده كثيراً في الشق العلمي الخاص بتشخيص مرض الجدة وحيرة الأطباء، ومنهم الابن، هل يعطونها حقنة دوائية لمحاولة إذابة الجلطة الدماغية أم أن احتمال النزف القاتل أكثر خطورة؟

كذلك فإن البناء العام للرواية والمغلف بالواقعية لا يلغي حقيقة أن وقائعها الأهم وحواراتها الأكثر سخونة وتأثيراً هي تلك المتعلقة بالأحلام والأساطير والخيالات والجدليات الدينية والفلسفية إلى جانب الرحلة الـ "ميتافيزيقية" للجدة عبر محطات الحياة والموت التي اختتمت بها الرواية.

لقد كانت الأحداث الفارقة عادة، بما فيها مرض الجدة، مسبوقة بحلم من أحلام الأم، وشكلت الخلافات العقائدية جانباً أساساً من مستويات الصراع، فهناك فريق من العدميين والمتشككين يمثل الجد ذروته، وهناك فريق مضاد من المنخرطين في الإيمان اليقيني تمثل الجدة ذروته على رغم بعض سقطاتها الأخلاقية التي اعترفت بها، وبين الفريقين أثيرت تساؤلات كثيرة حول وجود الإله وحقيقة الحياة الأخرى والبعث والحساب وما إلى ذلك، ولعل رحلة الجدة الـ "ميتافيزيقية" من الحياة إلى الموت ثم إلى الحياة مرة أخرى، قبل حرق جثتها ووضع رماد رفاتها في القارورة الزرقاء، بمثابة تغليب للحقيقة الإيمانية التي أرادت الجدة، وأفسح الراوي لها المجال، توثيقها وتسجيلها ونشرها بمعرفة الأب الكاتب الصحافي وهو زوج ابنتها.

في قلب "القارورة الزرقاء" رمز الغموض والشفافية، يبقى الرماد الآدمي حياً لا يفقد الأمل في رحلة مؤجلة إلى مصر العريقة التي شهدت أراضيها مسار العائلة المقدسة في طفولة السيد المسيح، وفق المصادر القبطية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة