تصاعدت خلال الفترة الماضية بشكل لافت ظاهرة التراشق المتبادل عبر بيانات قبلية تهديدية وتحذيرية في ما عرف بحملة "الخطوط الحمراء القبلية"، والتي ترافقت مع أحداث العنف الدامية التي شهدتها مناطق سودانية عدة آخرها منطقة لقاوة بولاية غرب كردفان بين قبيلتي النوبة والمسيرية، وصولاً إلى تجدد العنف الإثني بين قبائل الفونج والهوسا بإقليم النيل الأزرق قدر عدد ضحاياها بنحو 200 قتيل وأكثر من 86 جريحاً، وما سبقها من مواجهات قبلية في كل من كسلا والبحر الأحمر شرق السودان بين عرقيات كانت تسكن تلك المدن متجاورة منذ عشرات السنين من دون أي احتكاكات بينها.
بيانات تحذيرية
وتحذر البيانات القبلية التي تنامت بشدة وحفلت بها وسائل التواصل الاجتماعي على مدار الأشهر الماضية، من مغبة المساس بأبنائها السياسيين أو رجالات السلطة الحالية معتبرة أن المساس بهم خط أحمر. وفي الموازاة، توالى صدور بيانات عدة حافلة بعبارات التحذير والوعيد من قبل كيانات أخرى تحذر أيضاً من المساس بأرضها وأبنائها، أبرزها ما صدر عما يسمى مجلس عموم النوبة، وأيضاً عن ناظر قبيلة الرزيقات، وما يسمى مجلس عموم الشمال الذي يقول إنه يمثل ما وصفه بـ"السودان النيلي" في الشمال والوسط.
وحذر عديد من المتخصصين والمراقبين من أن تنامي ظاهرة التصعيد الكلامي بين المكونات القبلية في البلاد قد يهدد بإشعال فتيل حرب أهلية.
في السياق، اعتبرت إيمان حسن الغطاس الأمين العام لمؤسسة السودان للتعايش والتماسك الاجتماعي أن هذه الظاهرة تفاقمت، في الفترة الأخيرة، بصورة مخيفة ومقلقة، وأسهمت في تفتيت اللحمة الوطنية بين مكونات المجتمع السوداني، وأدت إلى تفجير كثير من بؤر الصراع في أجزاء متفرقة من البلاد بسبب انتشار وتفشي ظاهرة خطاب الكراهية بعد أن كان المجتمع السوداني ينعم بالتعاضد والتكاتف بعيداً من المفاهيم السلبية للقبلية والإثنية والجهوية. ونوهت الغطاس إلى أن خطاب الكراهية يعتبر أحد الأسباب الرئيسة في تقويض التماسك الاجتماعي وتدمير القيم المشتركة، وتقوم عليه نقطة الارتكاز التي ينطلق منها العنف ما يهدد السلام والاستقرار والتنمية المستدامة والكرامة الإنسانية في البلاد.
ولفتت الأمين العام لمؤسسة السودان للتعايش الاجتماعي إلى أن موضوع إعادة النظر في عناصر تماسك المجتمع وإدارة تنوعه من خلال صناعة التعايش داخل المجتمع الواحد، بات أمراً في غاية الأهمية ليس فقط لأصحاب القرار السياسي، بل لجميع أفراد المجتمع للاستفادة من الطاقات والقوة البشرية بشكل سليم، مما يعزز التماسك الاجتماعي ويحقق السلام والتعايش من دون تهميش أو إقصاء أو عنف أو فوضى.
حملة قومية
ولتفادي المخاطر التي تنتج عن خطاب الكراهية، شددت الغطاس على ضرورة توعية المجتمع وتقوية إيمانه بمفاهيم وقيم التسامح وقبول الآخر في ظل التنوع الديني والفكري والثقافي الذي يتمتع به السودان، مع أهمية تبادل الآراء والأفكار بسلاسة وهدوء، فضلاً عن تجفيف منابع التطرف الفكري والديني ودعم الأساليب السلمية لحل مختلف أشكال الصراع بما ينعكس على رفاهية الإنسان مهما كان لونه أو عرقه أو دينه. وشددت أيضاً على ضرورة ربط قيمة التعايش السلمى في السودان ببعدين أساسيين، أولهما سيكولوجي مرتبط بالفرد واستعداداته النفسية من خلال إبداء التسامح تجاه الآخر في إطار المسؤولية الفردية، فضلاً عن البعد الاجتماعي من خلال مؤسسات التنشئة الاجتماعية وتحويل المسؤولية الفردية إلى قيمة اجتماعية تتجذر في سلوك الأفراد ضمن مطالب مجتمعات التعدد والتعايش السلمي التي يسودها التباين الدين والفكري والسياسي، فضلاً عن الاستفادة من تجارب الدول ذات الظروف المشابهة.
وأعلنت الغطاس عن ترتيب مؤسستها لإطلاق حملة قومية كبرى للتحصين ضد خطاب الكراهية والقبلية بالتنسيق مع وزارة الحكم الاتحادي تشمل كل الولايات، بهدف التصدي وقمع خطاب الكراهية والعنف والعنصرية والتعصب الذي بدأ يغادر قمقمه باستخدام كل الوسائل التوعوية المتاحة لنشر الوعي وقيم حقوق الإنسان والتسامح وقبول الآخر.
الانحدار نحو اللا قومية
من جهته، حذر المحلل الأمني اللواء أمين إسماعيل مجذوب المتخصص في إدارة الأزمات من أن البلاد تنحدر بسرعة كبيرة إلى حقبة ما قبل الدولة القومية بتصاعد الخلافات القبلية والتقاعس عن الارتقاء بالهم الوطني على القبيلة والذات السياسية، مما يعزز خطر الانزلاق إلى حرب أهلية. وقال "ستكون بسلاح مختلف هذه المرة، لا سيما أن الجيوش تبدو وكأنها جاهزة"، محذراً أيضاً من خطورة التحالفات الخارجية الدولية والإقليمية بخاصة بعد تدويل الأزمة وتحرك ملفها بين عواصم خارجية عدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأسف المحلل الأمني لتصاعد نهج التوجه نحو القبلية والعشيرة بشكل لافت منذ نحو عام، مما خلق ملاذات قبلية بديلة عن الحواضن السياسية، كما بدأت القبائل تنحاز بشكل سافر إلى أبنائها من السياسيين والرسميين حتى في المكون العسكري، مما جعل السودان أشبه بالممالك العشائرية المنفصلة، تتحدث كل منها عن حقوقها وعن خطوط حمراء لأبنائها، وتضغط للإفراج عن معتقلين أو محكومين منهم، مما أربك الساحة السياسية في البلاد. ونوه مجذوب إلى خطورة ظهور ما يعرف بـ"التجنيد القبلي" كأحد الأعراض الجانبية للصراعات القبلية المسلحة، إذ تنحاز فيه مجموعات من وحدات حكومية من قبائل محددة إلى أهلها، مما أدى إلى ظاهرة استخدام أسلحة متوسطة لا تملكها إلا الحكومة في النزاعات.
الثمار المرة
وأشار مجذوب إلى أن تداعيات هذه الأوضاع تجلت في أحداث العنف التي شهدتها مناطق عدة في البلاد، ولا سيما في الجنينة وكرينك ومناطق محددة في الفاشر بدارفور، ثم انتقلت إلى لقاوة في جنوب كردفان، وتجددت في إقليم النيل الأزرق، كما ظهرت قضايا ملكية الأراضي (الحواكير) والموارد كالذهب وغيره لتصبح جزءاً من النزاعات القبلية والصراعات المسلحة التي تدور الآن. ورأى المحلل الأمني أن التدخل الأخير للحركة الشعبية – شمال (جناح عبدالعزيز الحلو) في أحداث لقاوة، لنصرة إثنية محددة ضد أخرى، كان عاملاً حاسماً في تحويل مجرى النزاع بين قبيلتي النوبة والمسيرية، ما قد يهدد بحرب أهلية، وشيه مجذوب الأوضاع الراهنة بأجواء ما قبل ثورة ديسمبر (كانون الأول).
وفي سياق متصل أيضاً، أوضح الأكاديمي في مجال فض النزاعات عبدالرحيم بكري أن طول أمد الأزمة السياسية انعكس بشكل عميق على الحالة المعيشية والأمنية وارتفعت معها، للمرة الأولى، أصوات الجهوية، كما انتشر خطاب الكراهية والعنصرية وأصبح صوته عالياً بين معظم المكونات القبلية والولائية إلى درجة مطالبة البعض بحق تقرير المصير في بعض الولايات والدعوة للانفصال تماماً عن الدولة السودانية.
ولفت بكري إلى أن الخلافات ما زالت قائمة حول اتفاق جوبا لسلام السودان، مما يشير إلى أن الأزمة تتناسل والخلافات تتمدد بين المكونات الثورية نفسها بما فيها خلافات داخل قوى الحرية والتغيير نفسها، مما انعكس في فشل كل مبادرات التوافق للوصول إلى رؤية موحدة مشتركة.
بيانات
وكان ما يسمى مجلس عموم قبيلة النوبة قد أصدر بياناً هدد فيه بشن حرب على كل من يعتدي على متر واحد من أراضي القبائل بكردفان، محذراً من استهداف قيادات رسمية تنتمي إليه سماها بالاسم.
وفي النيل الأزرق جدد حاكم الإقليم الفريق أحمد العمدة بادي الدعوة لمواطني الإقليم للتوحد والعمل على تمتين وتماسك النسيج الاجتماعي ودعم التعايش لتجاوز تداعيات الأحداث القبلية، وناشد بادي الإدارات الأهلية أن تلعب دواراً محورياً في إيقاف إراقة الدماء وإحياء الإرث التاريخي المتسامح لإنسان المنطقة، مطالباً رجال الدين والمثقفين والسياسيين العمل معاً من أجل تعظيم قيم السلام ومحاربة القبلية والتمييز ونبذ الانتماءات الضيقة.
وعلى صعيد الأحداث القبلية الدامية التي شهدتها مدينة لقاوة بولاية غرب كردفان، نفت الحركة الشعبية - شمال (عبدالعزيز الحلو) صلتها بالأحداث أو المشاركة فيها، على رغم اتهام القيادة العامة للقوات المسلحة لها بالضلوع فيها. وحذر الجيش السوداني، في بيان، قيادة الحركة من عواقب أي خرق لوقف إطلاق النار، أو أي محاولة لاستغلال النزاعات المحدودة التي قد تنشأ بين المكونات الاجتماعية بالمنطقة. واعتبر البيان أيضاً أن قيام قوات من الحركة الشعبية بقصف عشوائي لأحياء في مدينة لقاوة يعتبر خرقاً صريحاً لاتفاق وقف إطلاق النار والأعمال العدائية الذي يتم تجديده والالتزام به منذ عام 2019.
تنامي الصراعات المسلحة
ويشهد السودان تنامياً كبيراً في ظاهرة الصراعات القبلية المسلحة في معظم أنحائه، سواء في الشرق أو الغرب، كما ينتشر السلاح لدى القبائل في الولايات الحدودية، وبخاصة في دارفور غرب البلاد الأكثر اشتعالاً بالصراعات القبلية.
وظلت النزاعات القبلية التقليدية طوال السنين الماضية تتمحور حول الأرض والحدود واحتكاكات الرعاة والمزارعين كأسباب رئيسة لها، من دون ادعاءات تصنف السكان بالأصليين والوافدين، العامل الذي بدأ يظهر أخيراً في بعض النزاعات الأخيرة خلال العامين الماضيين.
وعرف السودان الإدارات الأهلية خلال الفترة من 1937 - 1942 (الحكم الثنائي المصري - البريطاني)، بغرض تنظيم سبل التعايش السلمي ومراقبة الخدمات وحلحلة النزاعات ورعاية العلاقات الودية في المناطق القبلية.