Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

داريو فو الفنان الإيطالي الذي جعل الخشبة في خدمة السياسات الأكثر راديكالية

يوم ذهبت جائزة "نوبل" الأدبية إلى المسرحي العجوز دهش العالم وتبدل معنى التهريج

من عروض فرقة داريو فو (أ ب)

من المؤكد أن ما من أحد تعمد، وهو معتل قمة العالم الأدبي في عام 1997، منصة إلقاء خطاب قبول جائزة "نوبل" الأدبية في ستوكهولم، أن يأتي على ذكر الكاتب المهرج الإيطالي المنتمي إلى العصور الوسطى روتزانتي، قبل أن يفعل داريو فو ذلك في خطابه. وهنا لا شك أن القارئ سيتساءل بكل جدية: ولكن من هو داريو فو أصلاً؟ ومن هو روتزانتي؟ وما الذي جاءا يفعلانه على تلك المنصة يومها؟ ببساطة جاء داريو فو الملقب بـ"المهرج" في بلده الإيطالي ليتسلم جائزة "نوبل" التي منحها إياه محكمو "نوبل" في خطوة أثارت دهشة العالم كله إذ لم تكن متوقعة على الإطلاق، ولكن ما كان أقل منها توقعاً كان أن يأتي "المهرج" ليتحدث عن دينه الكبير لمؤسس "الكوميديا ديل آرتي" في ذلك المكان وعند نهايات القرن العشرين. في صرح "نوبل" إذاً، راح يومها ولأول مرة في التاريخ، "مهرج" يتحدث عن مهرج ويرفع "الكوميديا ديل آرتي" إلى مستوى رفيع.

 

ويقيناً أن ما من أحد غير داريو فو كان يمكنه فعل ذلك منسياً مستمعيه أن المهرج ليس مهرجاً إلى هذا الحد، بل هو أيضاً رجل فكر ونضال سياسي، وفاعل كبير في سياسة مناهضة انبعاث الفاشية في إيطاليا طوال أكثر من ستين عاماً ككاتب مسرحي ومخرج وممثل، إضافة إلى قيادته التظاهرات الصاخبة في الشوارع والساحات وليس في إيطاليا وحدها.

الارتقاء بالتهريج

مهما يكن من أمر، فإن أهل المسرح في إيطاليا كما في أكثر من ثلاثين بلداً في العالم، ترجمت مسرحياته الكبرى إلى لغاتها ومثلتها على مسارحها، كانوا يعرفون داريو فو منذ زمن بعيد. كل ما في الأمر أنهم لم يكونوا يتوقعون أن يعرفه أهل "نوبل"، ولكن منذ حدث ذلك، ازدادت أهميته في الحياة المسرحية واكتسب مجداً جديداً لم يدم على أية حال سوى عشرين عاماً قبل أن يرحل الرجل عن عالمنا في عام 2016 عن تسعين سنة، وهو يتمتم أن رفع "التهريج" إلى مكانة الأدب الكبير كان ثاني إنجازاته الكبرى في حياته. فما الذي كان إنجازه الأول؟ كان يجيب ببساطة مبتسماً: كنت شوكة في خاصرة الفاشيين واليمينيين والوحش الأسود الذي لم يتمكنوا من الانتصار عليه، هو الذي جعلهم "مضحكة" العالم، وكرس كل ما لديه من طاقات تخريبية للكفاح ضد جرائمهم وفسادهم وعنصريتهم خاتماً نضالاته بالتهكم على برلسكوني و"قوة إيطاليا"، ولكن هذه المرة في صفوف حركة "الخمس نجوم" الفوضوية التي بات مفكرها الأكبر تحت لقب "المايسترو" ولا سيما من خلال مسرحيته "ميستيرو بوفو" التي عرضت طوال ثلاثين سنة في أوروبا وكندا وأميركا اللاتينية يقوم هو بأدوارها وحيداً على المسرح وتنتفض ضده السلطات الكنسية في روما من دون أن تتمكن منه. من دون أن ننسى هنا إدخاله على قاموس اللغة الإنجليزية تعبير "لا يمكنك أن تدفع؟ إذاً لا تدفع!" (نون سي باغا؟ نون سي باغا!") الذي يعتبر الشعار المفتاح في الحركة الفوضوية الجديدة المناوئة لـ"وول ستريت".

بيئة فنية

ولد داريو عام 1926 في بلدة صغيرة عند الحدود السويسرية هي سانجيانهو في لومبارديا لعائلة كتاب وفنانين، على رغم أن أباه الممثل كان ناظراً لمحطة قطارات ومناضلاً اشتراكياً، وكانت أمه كاتبة من أصول فلاحية، كما كان جده حكواتياً بالفطرة. وعاش جزءاً من صباه في بلدة تدعى بورتو فالترافاليا اشتهرت بأنها تضم أكبر نسبة من السكان المجانين في العالم. وخلال الحرب العالمية الثانية كان قد بدأ يتوجه صوب الكتابة والسياسة، وساعد داريو عائلته المناهضة للفاشية على تهريب المطاردين من قبل قوات موسوليني للوصول إلى خارج الحدود الإيطالية. مهما يكن، يتساءل كثر من الإيطاليين، على أي حال، عن حصة الصدق أو حصة الاختراع في ما كان داريو فو يرويه عن حياته، ويرويه ساخراً ضاحكاً وكأنه يطلع معه عفو الخاطر. فهنا لم يكن ثمة ما هو مؤكد، ولكن منذ بدايات سنوات الخمسين لم يعد في إمكانه أن يخترع حكايات لحياته. فهو منذ ذلك الحين انخرط حقاً في المشهد المسرحي حكواتياً بدوره يروي حكايات عميقة المغزى لكنها قادرة على قلب مستمعيه في الصالات اليائسة على قفاهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي الخمسينيات نفسها اقترن فو بفرانكا راما الآتية مثله من بيئة مسرحية. وهما لما وجدا أن من بين جيرانهما حين عاشا سنوات في روما، المخرج روبيرتو روسيليني وزوجته النجمة إنغريد برغمان، وجدا الفرصة متاحة أمامهما للانخراط في عالم السينما ودائماً هو ككاتب وممثل وهي كممثلة. وهما عاشا بذلك تجربة سينمائية بالغة الأهمية. ولسوف يعود الزوجان المهرجان عام 1958 إلى ميلانو التي ستصبح مذاك مستقرهما ونقطة انطلاقهما حول العالم.

وفي العقد التالي، كان دور التلفزيون كبيراً في حياة فو وفنه، من دون أن يتخلى عن المسرح الذي باتت مواسمه فيه من الشهرة والنجاح، إذ راح يتخلى عن عروض تلفزيونية وسينمائية في سبيله. وكان المسرح متعته الحقيقية، لكنه كان قد بات بالنسبة إليه وسيلته الفضلى لقول الكلام السياسي. وهكذا خلق حقاً في ذلك العقد الذهبي، الفنان المناضل الكبير الذي سيكونه داريو فو، حتى نهاية حياته. ودائماً كما سيؤكد "على خطى روتزانتي، مبدع الكوميديا ديل آرتي الذي كان أعظم كتاب المسرح، وفي الأقل حتى ظهور شكسبير". والحقيقة أن داريو فو حين كان يربط مسيرته بمسيرة أستاذه النهضوي كان محقاً، إذ من المعروف أن كوميديات روتزانتي كانت تتضمن معاني ومواقف سياسية تصل إلى حدود الوقاحة والاستفزاز المطلقين. وهو ما فعله فو نفسه، ولا سيما بالتواكب مع انتفاضات الشبيبة الإيطالية والأوروبية عموماً في سنوات الستين والسبعين، بالتالي لم يكن غريباً أن تتضمن "تهريج" مسرحياته مواقف صاخبة من حرب فيتنام واغتيال لي هارفي أوزوالد جون كينيدي وتعبيرات عن "ربيع باريس في عام 1968"، ولكن كذلك مواقف هجومية ضد الحزب الشيوعي الإيطالي على رغم عدم انتمائه إليه، وصراعات فكرية ضد فكرانيات النقابات ودائماً من موقع فوضوي تهريجي كان له فعله الكبير.

بين السياسة والتهريج

وكان من الطبيعي لذلك المزج الخلاق بين السياسة النضالية والإبداع التهريجي في الفن أن يتواصل مع حلول العقدين التاليين حين أسس فو وزوجته راما مجموعة مسرحية جديدة تبدت أكثر راديكالية في عروضها وأكثر تسييساً في اللجوء إلى الأخبار السياسية لكتابة تلك المواضيع. وهكذا قدما ومجموعة "الكومونة" مسرحيات باتت اليوم بالغة الشهرة منها "الموت العارض الفوضوي" و"سبتمبر الأسود"، وفي عام 1973 بعد مقتل سلفادور أليندي خلال انقلاب بينوشيه في تشيلي، كانت مسرحية "حرب الشعب في تشيلي"، ثم كانت التفاتة إلى الداخل الإيطالي عبر "بورتا وبيللي ضد السلطات".

وفي طريقه لم ينس داريو فو الحركات النسائية، فكتب وقدم "لنتكلم عن النساء"، كما لم يتغاض عن قضية المخدرات والاقتصاد السياسي المرتبط بها، فقدم "ماريخوانا ماما هي الأفضل". وطبعاً لم يمر هذا كله بهدوء أمام سلطات إيطالية أو غير إيطالية. فكثرت الاحتجاجات ضد داريو فو ومسرحياته وراحت تهاجم من قبل السلطات الكنسية والسلطات القضائية وصولاً إلى منع السلطات الأميركية له ولزوجته من دخول الأراضي الأميركية ليشاركا في مهرجان للمسرح الإيطالي في نيويورك، فتحولت سهرة المهرجان الرئيسة في عام 1980، إلى "أمسية من دون داريو فو وراما" حضرها مارتن سكورسيزي وأرثر ميلر وريتشارد فورمان الذين راحوا يصخبون ويصفقون طوال الأمسية موجهين التحيات من بعيد إلى الفنانين الإيطاليين الكبيرين الغائبين.

كل سياسات العالم

ومنذ ذلك الحدث الكبير حتى نيل فو جائزة "نوبل" باتت مكانته في العالم المسرحي ضخمة، واشتدت راديكالية عروضه التالية التي راحت تمزج بين السياسة والتهريج وتطاول الصين (جريمة تيانانمان)، والجمودية السوفياتية والمسرح الإنجليزي (من خلال عرض رائع عنوانه "إليزابيث؟ امرأة بالصدفة تقريباً!")، من دون أن ينسى استفزازاً جديداً للكنيسة عبر مسرحية "المعجزة الأولى للطفل يسوع"، وصولاً إلى القرن الجديد والسهام السياسية المسممة التي وجه فو واحداً منها إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عبر مسرحيته "غرابة في رأسين" التي تتحدث في عام 2003 عن زيارة يقوم بها سيد الكرملين إلى دارة برلسكوني يقوم خلالها متمردون من الشيشان بذبح الأول وقتل الثاني بإطلاق الرصاص عليه. ترى، أمام هذه الموسوعة السياسية المسرحية الشاملة ألم يكن من الطبيعي لمحكمي "نوبل" في نهاية الأمر أن ينظروا إلى داريو فو بوصفه المبدع الذي غير معنى التهريج ومحتواه أكثر مما فعل أي مبدع آخر في تاريخ الفن؟

المزيد من ثقافة