Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل تمحو إعادة الإعمار الهوية والذاكرة في لبنان؟

تحولت شوارع وسط بيروت إلى ساحة حرب مع احتجاجات 2019 وأغلقت مؤسسات ومقاهي المنطقة وانفجار المرفأ دمر ما تبقى

الواجهة البحرية لمشروع وسط العاصمة بيروت (شركة سوليدير)

ارتفعت الجدران الأسمنتية منذ سنوات طويلة في وسط بيروت التجاري أو منطقة "سوليدير" أو "الداون تاون" كما يحلو للبعض تسميته. ودائماً كان هدف الإقفال ورفع الجدران لإبعاد المحتجين عن المجلس النيابي أو منع دخول التظاهرات منذ عام 2005 حتى اليوم، والتي زادت عنفاً في حراك أكتوبر (تشرين الأول) 2019. وكان يتم إقفال المنطقة خلال الاعتصامات الطويلة التي قام بها الفرقاء السياسيون اللبنانيون من فريقي "14 و8 آذار" كل بحسب المطالب التي يريد تحقيقها.

وسط المدينة صندوق البريد السياسي

تحول وسط المدينة الذي كان من المفترض أن يجعل "بيروت مدينة عريقة للمستقبل" الشعار الذي رفعته الشركة المالكة "أي سوليدير" في عام 1994 حين بدأ العمل في المنطقة المدمرة، إلى صندوق بريد للرسائل السياسية، وكان يدفع ثمن هذه الرسائل من ازدهاره واستقراره وكونه قبلة اللبنانيين والسياح العرب والأجانب الذين تستهويهم السياحة في البلاد.

كان العراك السياسي اللبناني المديد والمستمر سبباً لموته عمرانياً واقتصادياً وسياحياً بعد أن أقفلت معظم المحال التجارية، وتعرض قسم كبير منها للتكسير والتخريب، وبعد إقفال مبنى المجلس النيابي لفترات طويلة قبل عودته للعمل مع انتخاب المجلس الجديد قبل أشهر. وعلى رغم عودة العمل السياسي إلى وسط المدينة فإنه ما زال في غيبوبة، كأنه على قيد الحياة، ولكن بلا حركة. والمطاعم والمقاهي والمؤسسات التي صمدت طويلاً في هذا المربع البيروتي المحاصر دوماً، اضطرت إلى الإغلاق مع انطلاق احتجاجات 17 أكتوبر 2019 بعد أعمال العنف التي مارسها رجال الأمن بوجه المتظاهرين، ما حول شوارع وسط بيروت إلى ساحة حرب، كما أن كثيراً من المتظاهرين لم يتوانوا عن اللجوء لأعمال التخريب والتكسير للتعبير عن سخطهم، وهي أعمال طاولت ممتلكات عامة وخاصة على حد سواء، وما لم يحطمه هؤلاء، تضرر بشدة جراء انفجار مرفأ بيروت في أغسطس (آب) 2020، وقد أتى الانهيار المالي المتواصل واحتجاز المصارف لأموال المودعين ليعمق أزمة وسط المدينة وأصحاب المؤسسات التجارية فيها، كما أوردت الزميلة بولا أسطيح في تحقيقها عن الوسط في صحيفة "الشرق الأوسط". واعتبر وزير السياحة في حكومة تصريف الأعمال وليد نصار أن موت بيروت تقع مسؤوليته على من أغلقوا المدينة وكسروها وأحرقوها وتعدوا على الأملاك العامة والخاصة، كما لو أنه يغمز من قناة تحركات تشرين المطلبية، وهي آخر حبة في عنقود التحركات التي شهدتها المنطقة منذ عام 2005 تاريخ اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ودليل الوزير على ذلك هي الشعارات التي تدعو إلى إسقاط "النظام" التي كتبها المحتجون قبل عامين على جدران المباني المحيطة بالمجلس النيابي، موجودة بعد أن تم العمل على إزالة القسم الأكبر منها. وبالطبع فإن موقف الوزير يتأتى من كونه ينتمي إلى كتلة سياسية واجهت المنتفضين بالرصاص والعنف بعد اتهامهم بالعمل لصالح السفارات الأجنبية. وهذه الطريقة في تبادل الاتهامات تدخل في صلب العمل السياسي اللبناني.

أزيل آخر حاجز أسمنتي عن مداخل ساحة النجمة المركزية وسط المدينة في 26 سبتمبر (أيلول) الماضي، لكن رفع الجدران لم يؤد إلى انطلاق حركة سياحية وتجارية كانت عارمة في العقد الماضي. وما زال ممنوعاً من الدخول إلى عدد كبير من شوارعه لغير العاملين فيها. والحركة في الشوارع الفرعية منعدمة على رغم وجود المطاعم والمقاهي، والتي تبدو أنها تنتظر زائرا ما قد يظهر في لحظة ما، على رغم طول الانتظار الذي يتطلب استعادة الازدهار الاقتصادي والأمن السياسي كي يشعر السياح والزوار والمغتربون أن السفر إلى لبنان ما زال يستحق التجربة على رغم الغلاء الفاحش الذي يسببه انهيار الليرة مقابل الدولار، ولكن العاملين في القطاع السياحي يراهنون على هذا الأمر نفسه، لأن من يحمل العملة الأجنبية يمكنه الاستفادة من فرق الأسعار.

قيمة الأبنية التراثية في زمن "الغلاء"

خلال الوضع الحالي المتأزم في معظم المناحي اللبنانية دخل عنصر جديد يحتاج إلى اهتمام وحماية من قبل المؤسسات المعنية يتمثل في حماية الأبنية التراثية التي تضررت جراء انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020، بخاصة أن الأحياء المجاورة للمرفأ والأكثر تضرراً هي تلك التي ما زالت تحافظ على أكبر نسيج معماري تراثي في الجميزة ومار مخايل والأشرفية، فقد بلغ عدد المباني التراثية المتضررة من الانفجار، بحسب التقرير الأولي للمديرية العامة للآثار 640 مبنى منها 480 مبنى تراثياً و160 ذات خصائص معمارية مميزة في المناطق المجاورة. وقدرت كلفة ترميمها بـ286 مليون دولار أميركي علماب أن هذا المبلغ لا يشمل كلفة ترميم المراكز الثـقافية كالمتاحف والمعارض الفنية والحرفية.

الباحثة سينتيا بوعون اعتبرت أن "الترميم فرصة جديدة لتحقيق عمران اجتماعي يربط الهندسة بالمجتمع المحيط، على أن تحافظ كل عملية ترميم أو إعادة إعمار على مكونات النسيج الاجتماعي وتمكين السكان من العودة السريعة لتعود معهم الحياة إلى المدينة، منعاً للسياسات العمرانية التي غالباً ما تنحصر مقاربتها للمدينة من وجهة نظر عقارية استثمارية بحتة". وهناك ما يقارب الـ500 مبنى وموقع تاريخي مسجلة في لائحة الجرد العام للأبنية التاريخية، 75 منها في بيروت و209 مبانٍ تراثية مسجلة على "لائحة الأبنية المجمد هدمها، لكن بسبب عدم وجود نصوص قانونية تسوغ تجميد هدم الأبنية التراثية، تقدم مالكو بعض هذه الأبنية بطعون أمام القضاء واستطاعوا تحرير عقاراتهم، وهذا ما يصيب المعماريين والجمعيات المهتمة بالتراث المادي بالخوف من أن يؤدي النفوذ السياسي أو الثغرات القانونية إلى هدم الأبنية التراثية بدلاً من إعادة ترميمها، مع التأكيد مجدداً على النظرة التجارية والمالية المحضة التي ينظر فيها أصحاب المال إلى العقارات في بيروت ووسطها. فلو كان هدم المنزال التراثي سيؤدي إلى إقامة عمارة مرتفعة تحقق ملايين الدولارات من الأرباح، فإن الحفاظ على التراث سيكون في آخر أولويات رجل الأعمال والسماسرة العقاريين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وقد انتشرت إشاعات وأخبار منذ الأسبوع الأول على انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020، عن توجه سماسرة العقارات المرتبطين بالسياسيين النافذين إلى أحياء الجميزة ومار مخايل والأشرفية لحض مالكي المباني التراثية المهدمة على بيعها مقابل مبلغ نقدي بالعملات الأجنبية. وبالطبع يطمح هؤلاء إلى تهديم هذه الأبنية واستبدالها بالأبراج الحديثة كما حدث في إعادة إعمار وسط بيروت والمناطق المجاورة بعد الحرب، هذا إن لم يكن الهدف الخفي العمل على تغيير ديموغرافي واجتماعي وثقافي لهذه الأحياء مع مرور الزمن وعبر الإغراءات بمبالغ كبيرة في ظل الأزمة المعيشية الطاحنة، أو عدم تمكن أصحاب الأبنية المهدمة من ترميمها بسبب الكلفة العالية.

ولهذا طلبت نقابة المهندسين اللبنانيين ومجموعة من الجمعيات التراثية والبيئية بالمطالبة بإعلان المناطق المدمرة جراء الانفجار أراضي منكوبة غير قابلة للمس ومباشرة العمل على إطلاق مخطط توجيهي شامل لإعادة إعمارها كما كانت قبل الانفجار بالتعاون مع المنظمات الدولية لترميم المباني، بحسب الأصول المتبعة من قبل "اليونيسكو" و"الإيكروم". وبادرت نقابة المهندسين في بيروت بإجراء مسح تقني كامل متعلق بالسلامة العامة للكشف على الأضرار، وقامت النقابة بتطوير نظام خاص لتجميع المعلومات وإجراء تقييم للأبنية المتضررة مع التوصية بإمكانية ترميم كل المباني وعدم الحاجة إلى هدمها.

المشكلة بدأت بخطط إعادة البناء

ساري مقدسي، المهندسة التي كانت من أشد المعترضين على خطة إعادة بناء وسط بيروت بعد توقف القتال في الحرب اللبنانية كتبت في عام 1997 تحت عنوان "إعادة بناء التاريخ في وسط بيروت" بعد سنوات قليلة من بدء الهدم والترميم، أن منطقة البرج في بيروت أو وسطها القديم تم محوه بكل ارتباطاته وذكرياته إلى الأبد. لأن "مشروع سوليدير" يدعي أن البناء إعادة إعمار، على رغم أنه يخلق حقائق جديدة تماماً على الأرض في مساحة جديدة تماماً.

مبكراً، كانت أفكار ومقالات المقدسي المتعلقة بإعادة الإعمار وكأنها تتوقع ما سيصيب هذا الوسط بعد ترميمه وفق الخطة الموضوعة حينها. ورأت حينها إن ادعاء الشركة بإحياء الأيام السعيدة التي سبقت الحرب هو محاولة لتقصير التجربة التاريخية وذاكرة الحرب نفسها، للتظاهر بأن الحرب لم تحدث أبداً، بينما يجب أن يربط بيروت المعاصرة بنسيج لبنان ما قبل الحرب، وترقيع وسط المدينة القديمة بكل ذكرياتها، ومعها المشكلات الاجتماعية والسياسية التي أدت إلى الحرب واستمرارها، إذ يبدو الأمر كما لو أن التجربة التاريخية ودروس الحرب لا يجب نسيانها فحسب، بل يجب عدم تعلمها. وبمرور الوقت، ستتلاشى "سوليدير" نفسها كما لو لم تكن هناك حاجة إلى ها، وكأنها لم تكن موجودة من قبل. سيتم نسيان القوى والعمليات الاجتماعية والسياسية التي أدت إلى تدمير وسط المدينة". ورأت المقدسي أن مثل هذا النسيان لن يكون أكثر من مجرد دعوة إلى كارثة أخرى.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات